تجرى في الغرب عملية غسيل دماغ جماعي فاضح، لمحو موضوع الصراع من أجل ردم التباينات الطبقية، كصراع أجتماعي تخوضه الطبقات والشرائح الأجتماعية المغتصبة حقوقها في العيش الكريم، والاستعاضة عنه بالترويج لصراعات مفتعلة، أو مضخمة، وتسويقها للأذهان باعتبارها هي التناقضات الحيوية والأساسية، للتمويه على حالة الأستلاب الأنساني الناجمة عن استحواذ أقليات بالغة الضئالة لا تزيد عن خمسة بالمئة من النخب الاقتصادية على حوالي تسعين بالمئة من ثروة العالم، وإبقاء الخمس وتسعين بالمئة الآخرين في صراع ضار يوصل حد اليأس من أجل حياة كريمة.
على مدى عقود طويلة، وربما قرون، من تأريخ العالم السياسي المعاصر، كان مصطلحا اليمين واليسار بالغا الوضوح في أذهان المهتمين بالحياة الأجتماعية والنشاط السياسي، كان اليسار معروفا بانه يضم الأفكار والجماعات التي تسعى إلى ردم الفجوة الطبقية بين فئات المجتمع، إن بنضالات سلمية أو عنفية، وتمكنت تلك الأفكار والجماعات بنضالها الذي استخدم كلا الوسيلتين من تحقيق أصلاحات هامة، حررت الأنسان من العمل لعشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة يوميا لستة أيام في الأسبوع، ومنحته الحق في عطلة أسبوعية ليومين في الأسبوع مع تقليص ساعات العمل إلى ثماني أو ست ساعات، مع عطلة سنوية لأسابيع أربعة أو خمسة، كما منحته الحق في الأضراب لتحسين ظروف العمل أو تدني قيمة الأجر الذي يتقاضاه مقارنة بارتفاع الأسعار.
كل هذا جرى في خضم صراع ضد الأفكار والجماعات التي كان يطلق عليها أسم يمين، والتي كانت تحاجج بأن تقليص أيام وساعات العمل سيؤدي إلى إفلاس أرباب العمل وانهيار الأسواق وكوارث أقتصادية مزعومة.
وكان ثمة مجال أخر للنزاع بين اليسار واليمين يتعلق بحرية الفكر والرأي والعقيدة، حيث يسعى اليسار إلى إلغاء ما عليها من قيود، دينية أو عرفية، فيما يسعى اليمين إلى الحجر على تلك الحرية أو تقييدها بضوابط دينية وعرفية. وهنا أيضا تحققت بفضل نضال اليسار إصلاحات وأنجازات بعضها هائل.
لكن حتى مع كل هذه التطورات، ما تزال الفجوة الطبقية هائلة بين المتمرغين بالثروات ومحتكريها وعموم المجتمع، وبين ما يسمى بالعالم الأول والعالم الثالث أو العالم النامي، والذي يصطلح عليه أحيانا بالشمال والجنوب. فثمة تكدس رهيب للثروات في أيدي حفنة مليارديرات، تعادل ثروات بعضهم ميزانيات دول يعيش فيها ملايين البشر، وليست نادرة الحالات التي تنتشر فيها المجاعات، في عديد من مناطق العالم، ويضطر كثير من الناس، والنساء على نحو خاص، إلى إهدار كرامتهم الإنسانية للحصول على لقمة العيش لهم وأسرهم.
ومن أجل تمويه هذا الواقع يجري تشويه ممنهج للفكر الجمعي في العالم برمته، عبر الأيحاء بأن التناقضات الآن، تتمحور حول مواضع وقضايا أخرى مثل الحق في تغيير الجنس، من ذكر إلى أنثى أو العكس، وحول مثلية العلاقات الجنسية بين المنتمين إلى جنس واحد، لا بل حتى الحديث عن جنس ثالث غير الأنثى والذكر. وأعتبار الأختلاف هول هذه المواضيع هو القضية الجوهرية التي ينبغي أن يتمركز حولها أهتمام البشر. ويسرق مصطلح اليسار ليضفى على أنصار هذا التيار وعلى أفكاره، مقابل أطلاق مصطلح يمين على المعارضين.
وهكذا تغيب عن أذهان الناس التناقضات الأساسية التي تتعلق بعيشهم الكريم، وردم الفجوات الهائلة بينهم، لقصرها على مواضيع هامشية، لا يتضرر منها سوى نسبة تافهة، وتهمل معاناة مليارات البشر.