التكاثر الانشطاري للمنابر الإعلامية، ليس في العراق فقط، بل وبشكل عالمي عام، يجعل المتابع يفقد الرغبة احياناً في تواصله مع بعض او أكثر هذه المنابر بالنظر لما تقذف به من معلومات واخبار وتحليلات يضع المرء امامها كثيراً من علامات الاستفهام المشوبة بالسخرية احياناً، بالنظر لما تثيره في المرء من الشكوك بصحة او واقعية هذا الحدث او ذاك، او ما ينعكس منها من سطحية الطرح عند تحليل بعض المواقف، خاصة السياسية منها، او غير ذلك من العوامل التي تؤدي الى فقدان مصداقية الموقع الإعلامي.
منبر تشرين الإعلامي الذي يديره ويقدم برامجه الأستاذ الفاضل الدكتور الناصر دريد واحد من المنابر الإعلامية الليبرالية المتميزة برصانة الطروحات والتحليلات العلمية وتبني النهج العلماني الديمقراطي الليبرالي الذي يضع كثيراً من المعلومات المستنتجة من الواقع امام المتابع لهذا المنبر الحر، الذي يشكل مرجعاً إعلامياً رصيناً بما يقدمه المشرف عليه الاستاذ الفاضل الدكتور الناصر دريد.
احاول شخصياً متابعة اكثر ما يمكن من الحلقات الإعلامية لهذا المنبر الحر والاستفادة من المعلومات القيمة والتحليلات العلمية الرصينة التي يقدمها، وفي اغلب ما شاهدته وسمعته لحد الان، خرجت بشعور المستفيد والمقتنع بما جاء من تحليلات واخبار تتعلق بالوضع المأساوي الذي يمر به وطننا العراق وما تسلط عليه من بؤس وشقاء حكومات الإسلام السياسي والشوفينية القومية وكل المتحاصصين معهم في هذا البلاء الذي يعيشه اهلنا ووطننا منذ سقوط البعثفاشية المقيتة، ومجيئ الإسلاميين وعصاباتهم على نفس الدبابة الامريكية التي وفرت الحماية للقطار الامريكي الذي جاء بعصابات البعث الى الحكم في العراق.
إلا ان المثل القائل: لكل جَواد كبوة، قد يصلح كعنوان لما ارغب ان ابديه هنا من وجهة نظر تختلف عما تفضل به الأستاذ الفاضل الدكتور الناصر دريد في حلقاته حول شخص المقبور هدام العراق.
ثلاثة امور جاءت في الحلقة التي تحدث فيها الدكتور الفاضل عما سماه بالهروب الوحيد لصدام حسين، جلبت انتباهي وعجبي في نفس الوقت ان ينحى انسان ليبرالي علماني ديمقراطي هذا المنحى الذي لا أجد له شخصياً اي مبرر، خاصة وهو صادر عن شخصية وطنية معروفة كشخصية الدكتور الناصر دريد الذي أكن له الاحترام والتقدير.
الأمر الاول: حينما تفضل الدكتور الفاضل بتبيان وجهة نظره المتعلقة بتناوله لموضوع هدام العراق كطرح لسيرة حياته وأكد على ان طرحه هذا ليس من منطلق ما يصف به اعداء هدام العراق، او ما يضمره له محبوه، بل انه ينطلق من منطلق حيادي طالبه به البعض بالنظر لاختلاط التاريخ بالسياسة والسياسة بالتاريخ، حسب ما جاء في تفسير الدكتور الفاضل لهذا الاختلاط الذي دفعه لتناول الموضوع كتاريخ وبكل حيادية.
ما يثير استغرابي وتساؤلي في نفس الوقت يتعلق بمدى فائدة تناول هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات الذي بدأ فيه الكثيرون من اهلنا، وبسبب المآسي التي جاء بها الإسلاميون وحكوماتهم، بالمقارنة بين نظام البعث الإجرامي ونظام الإسلاميين الطائفي الشوفيني الذي لا يقل إجراماً، ولكن بأساليب اخرى، عما سبقه من نظام، واللجوء الى المقارنة العرجاء التي تقارن السيئ بالسيئ. ان امر تسويق شخصية هدام العراق بهذا الشكل المحايد يرتبط بمشاعر الملايين من اهلنا الذين مارس هذا الطاغية بحقهم مختلف الجرائم التي توزعت بين القتل والتهجير وتعذيب السجون والمعتقلات وهتك الأعراض ونهب الممتلكات وقطع الأرزاق والأعناق وانحطاط الجيش من خلال قيادته له وهو الهارب من الخدمة العسكرية وتسببه في كل الحروب التي ستظل نتائجها الكارثية مرتبطة بأعناق اجيال قادمة من اولادنا واحفادنا، والكثير الكثير من الجرائم التي لم تخطر على بال انسان، اكثر من ارتباطه بالحيادية التي تريد ان تبرر ذلك بالتفريق بين السياسي والتاريخي الذي برر به الدكتور حياديته في امر كهذا يثير الشجون والويلات لدى الملايين من اهلنا بمجرد ذكر ايام الرعب والخوف والفزع والتشرد والجوع والفقر والمرض الذي جاءت به سياسة هدام العراق هذا. إن تسويق هذا المجرم في هذا الوقت بالذات والتطرق الى " نكاته " و" بطولاته " و " شجاعته " الكارتونية التي رافقت كل الطغاة وتبجحاتهم الفارغة، سوف يشجع استمرارية الخوض بالجدل الذي يلح على المقارنة بين نظام البعثفاشية المقيتة ونظام الإسلاميين الطائفي الشوفيني والوصول الى نتيجة تفضيل ذلك النظام المقبور، استناداً الى هذا التسويق الحيادي، لاسيما وأن أكثر جيل شبابنا اليوم لم يعيشوا اصلاً او لم يعيشوا بوعي كل جرائم وانتهاكات نظام الهدام المقبور.
لا أدرى كيف استطاع إعلامي ليبرالي متميز كالدكتور الناصر دريد ان يسعى لنشر الفكر التنويري بين الفكر الذي يحمله ويسعى الى نشره، وبين الوقوف على الحياد بين القاتل والقتيل، خاصة إذا كان القاتل مجرم اهوج والقتيل شعب اعزل، إذ ان اطروحة الفصل بين السياسي والتاريخي لا تبرر هذه الحيادية ولا تصب في محتواها الإنساني.
اما الامر الثاني الذي تطرق اليه الدكتور في حلقته هذه فإنه يتعلق بالنظام الملكي في العراق. لقد تطرق الدكتور الفاضل بكلمات قليلة وعابرة الى هذا النظام، إلا ان ما تبادر الى ذهن المتابع لما قيل يخرج بالقناعة بان الدكتور غير راض على سقوط هذا النظام. انني اتفق مع ما تفضل به الدكتور حول رفض الطريقة البشعة التي لاقتها العائلة المالكة على وجه الخصوص والتي كانت نتيجة تصرف شخصي من أحد الضباط المتهورين ولم تكن ضمن مخطط ثورة الرابع عشر من تموز. اما ما تفضل به الدكتور قائلاً: " لقد سحلنا الملكية مع الأسف " كإشارة الى رفض سقوط الملكية، فذلك لا يمكن قبوله من شخصية ليبرالية تحررية كشخصيته. لا ادري إن عاش الدكتور الفاضل ، راجياً له العمر الطويل السعيد، العهد الملكي بكل تفاصيله الإجرامية ومحاكماته الصورية وإعداماته داخل وخارج سجونه ومعتقلات تعذيبه الرهيبة ومجازره الوحشية في سميل وكاورباغي وسجني الكوت وبغداد ومنافيه المليئة بالوطنيين الاحرار والمسقطة عنهم الجنسية العراقية ، منذ ان فرضت السياسة البريطانية العائلة البدوية الغريبة عن العراق لتحكم هذا البلد، بعد ان ازاحت العراقيين الذين كان لهم الحق في تولي امور بلدهم، إلا انهم لم يبدوا ذلك الولاء للسياسة البريطانية التي ابدتها هذه العائلة التي كبلت العراق بكثير من السلاسل التي لم ينجو منها إلا بعد ان اسقطتها ثورة الرابع عشر من تموز التحررية. وهنا اعتقد ايضاً ان الحيادية إن لم يكن الانحياز للنظام الملكي لا ينسجم والفكر الليبرالي التحرري الذي يدعو له الدكتور الفاضل.
اما الامر الثالث الذي تطرقت له الحلقة هذه من منبر تشرين العامر فيتعلق بما تفضل به الدكتور حول المقارنات التي وضعها لتقييم محكمة الشعب التي اسستها الجمهورية العراقية الفتية لمحاكمة اعداء الثورة الذين ارتكبوا جرائم جنائية ضدها. لقد استعمل الدكتور الفاضل ذلك الأسلوب الذي استعمله مجرمو حزب البعث بتسمية محكمة الشعب بمحكمة المهداوي، ضارباً بذلك كل الهيكل التأسيسي لهذه المؤسسة التي توفرت فيها كل مستلزمات المحكمة النظامية التي تجاهلها الدكتور الفاضل. وهنا لابد لي من التطرق الى بعض ذلك.
اولاً: لقد ذكر الدكتور بان محكمة الثورة، او ما سماه هو محكمة المهداوي، كانت اول المحاكمات في العراق ذات طابع سياسي. لا أدرى كيف أفسر هذا الأمر وهو صادر من انسان مطلع على التاريخ السياسي العراقي ومجريات هذا التاريخ في العهد الملكي الذي كانت محاكمات السياسيين فيه تشكل لحمته وسداه وتوفر اسباب ديمومته دون معارضة وطنية فعالة. المحاكمات الصورية التي كانت تصدر احكامها ليس بأسماء الاشخاص الواقفين بصفوف متراصة في اقفاص الاتهام، بل بتقسيم الصفوف الى مجموعات تتوزع عليها الاحكام حسب مزاج الحاكم. لذلك عجَّت سجون بغداد والحلة والكوت والموصل والبصرة ونكرة السلمان بالسجناء السياسيين الذي تعرضوا ليس الى التعذيب وحتى الموت تحت التعذيب فقط، بل الى مجازر في السجون ايضاً، كما حدث لسجناء بغداد والكوت عام 1953. فالمحاكمات السياسية، سيدي الفاضل، اوجدها النظام الملكي في العراق قبل ان تمارسها محكمة الثورة.
ثانياً: اسس العدالة التي افتقدها الدكتور الفاضل في محكمة الثورة ونعتها بانها تفتقر الى ابسط اسس العدالة حسب تعبيره، بحيث وصفها بعبارة " سيئة الصيت ". أن هذه الاسس التي يختصرها ابسط الناس له معرفة عامة بقوانين المحاكات تنحصر بوجود حاكم او هيئة محكمة من ذوي الاختصاص، وجود مدعي عام من ذوي الاختصاصات القانونية، توفر اجواء تتيح للمتهم توفير محامي للدفاع عنه ضمن اجواء محكمة تتيح له التعبير عما يريده إضافة الى دفاع المحامي، اصدار الاحكام التي تستند الى مواد قانونية نصت عليها قوانين البلد. فما هي الأسس التي تشكل ابسط مقومات العدالة التي لم تتوفر في محكمة الشعب؟ ولنقارن هنا بين مقومات محكمة الشعب والمحاكم التي أعدها النظام الملكي المقبور للسجناء السياسيين في العراق طيلة حكمه التي بلغت ما يقارب الاربعين عاماً، والذي يأسف الدكتور على سقوطه على يد الضباط الأحرار عام 1958. لا اريد هنا ان اضع مقارنة طويلة بين محاكم العهد الملكي ومحكمة الثورة في العراق، إلا انني اعتقد ان الدكتور الفاضل مطلع تماماً على محاكم النعساني، المشهور بمحاكمة السياسيين العراقيين في العهد الملكي، وليضع بنفسه مقارنة بين تلك المحاكم التي كانت تصدر احكامها حسب تقارير التحقيقات الجنائية دون اي اعتبار لأقوال المتهمين او المدافعين عنهم من المحامين الذين لم يكن ليسمح لهم في كثير من المحاكمات النعسانية الصورية ان يتفوهوا بكلمة واحدة لصالح موكليهم، وبين ما كانت تجري عليه المحاكمات وما يتبعها من احكام في محكمة الشعب .
النقطة الوحيدة التي قد يعتبرها الدكتور الفاضل غير منسجمة مع العدالة في محكمة الشعب هي، إن صح هذا التعبير من الناحية السياسية البحتة وليس من ناحية المشاعر الوطنية الثورية التي تبلورت بعد ثورة الرابع عشر من تموز، ان رئيس المحكمة الشهيد البطل فاضل عباس المهداوي جعل من قاعة المحكمة متنفساً لمن عانوا من ظلم الحكم الملكي المقبور ولم يقف على الحياد بين الشعب وقاتليه كما يفضل الدكتور دريد الوقوف بين هدام قاتل الشعب وبين ضحاياه مبرراً ذلك بالفصل بين التاريخي والسياسي.
منبر تشرين منبر إعلامي وتنويري هام ولابد من متابعة اطروحاته الغنية بالفكر التنويري والاستفادة من تحليلات ومراقبة واستنتاجات حلقاته التي يديرها وينفذها الإعلامي المتمكن الدكتور الناصر دريد. إلا ان ذلك لا يعني بان المتلقي لما يطرحه هذا المنبر الرصين يجب ان يتفق مع كل ما يُطرح فيه، خاصة إذا ما تعلق الامر برأي شخصي او تحليل عاطفي مهما رافق هذا الموقف او تلك التحليلات من مبررات قد يقتنع بها البعض او يرفضها البعض الآخر جملة وتفصيلاً، وذلك لعمري من الأسس الرصينة التي يقوم عليها الحوار الديمقراطي العلماني الذي ننشده لمجتمعنا العراقي بعد ان يتخلص من لصوص حكومات المحاصصات وتنظيف وطننا من كل ملوثاتهم الفكرية وتصرفاتهم الهمجية.