يستخدم الفنان العالمي فابيو كومباريليلي ملف الذكاء الاصطناعي في تصميم لوحاته الفنية، وقد حازت لوحته المتحركة الأخيرة متعددة المشاهد عن تطور أسلحة الحروب من الحجارة إلى السلاح الذري على أعجاب منقطع النظير، حيث انتشرت على نطاق واسع في "السوشيال ميديا" ووسائل الإعلام العالمي. على أن لقطة النهاية التي توضح انفجار قنبلة نووية في الفضاء المنخفض فوق إحدى المدن الحديثة، جاءت خاطفة وسريعة جداً. وكم كان جميلاً لو أعطى كومباريليلي لقطة النهاية حقها؛ بالنظر للخطورة المتناهية للأسلحة النووية باعتبارها أخطر وسائل الإبادة الشاملة، بحيث تشمل اللقطة مشاهد لمدينتي هيروشيما ونجازاكي بُعيد جريمة تدميرهما بالسلاح النووي الأميركي نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وكذلك لو عززها أيضاً بصور للأهوال غير المسبوقة التي عانى منها سكان المدينتين المنكوبتين موتاً بطيئاً، أو قتلاً على الفور بالإشعاع النووي، لكانت لوحة الفنان أكثر تأثيراً في رسالتها الإنسانية. 

 وعلى صلة بالموضوع، فلعل من دواعي السخرية ما يشهده مجتمعنا  الدولي المعاصر من اختلال في موازين العدالة الدولية، ففي الوقت الذي تُعد فيه الولايات المتحدة في مقدمة الدول الأكثر امتلاكا للرؤوس النووية، فإنها ما فتئت مستمرة في مضاعفة ترسانتها النووية، حتى بعد زوال الحرب الباردة، بل لا تجد غضاضة من تنصيب نفسها شرطياً ومراقباً دولياً لتأديب الدول التي يشتبه في اجرائها تجارب نووية، متخطية بذلك اختصاص الأمم المتحدة وكالة الطاقة الذرية الدولية، و لا تتوانى أيضاً عن الدخول في سباق دولي لامتلاك أكبر مخزون من الرؤوس النووية، بما في ذلك تطوير  أسلحتها النووية والفضائية  تكنولوجياً بمديات غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، ناهيك عن امتلاكها مختلف أسلحة الإبادة الشاملة الأخرى. وهكذا فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية يشهد العالم مفارقة مذهلة، إذ بالرغم مما وصل إليه الفكر الإنساني الحقوقي الدولي من تطور كبير، كان من نتائجه إقرار معاهدات متعددة لتجريم أسلحة الإبادة الشاملة، وبضمنها حظر أنتشار الأسلحة النووية 20 20، وغيرها من اتفاقيات تجريم أسلحة الإبادة الجماعية الأخرى ، من إشعاعية وكيميائية وبيولوجية،  فإن نصوص كل هذه الاتفاقيات تتجاهل ما تملكه الدول الكبرى من أسلحة نووية،  وضروب أسلحة الدمار الشامل الاخرى الآنفة الذكر، إذ لا تتوافر لتلك المعاهدات أدوات قانونية ذات آليات تنفيذية محددة ذات أجندة محددة زمنياً زمنية وبصورة جدية تلزم الدول الكبرى التي تمتلك مختلف أسلحة الدمار الشامل، وفي عدادها الأسلحة النووية، بالتخلص من مخزوناتها من تلك الأسلحة البالغة الخطورة على البشرية برمتها،  بما في ذلك آليات المراقبة وجدول أو أجندة لتصفية مخزون تلك الدول الكبرى من أسلحة الإبادة الجماعية ! 

والحال إذا ما تمعنا جيداً في خطورة الأسلحة النووية وما تشكله من رعب حقيقي مسلط على رؤوس البشرية، لا بل كوكبنا برمته، فإن الولايات المتحدة والدول النووية الاخرى لم تصرف مئات المليارات على امتلاك الأسلحة النووية وسائر أسلحة الإبادة الجماعية هباءً منثورا أو ترفاً وزينة، بل ثمة نية مبيتة باستخدامها إذا ما استدعت الحاجة لذلك أو حتى بدافع التهور، دون أدنى شعور بالمسؤولية أو مبالاة بنتائج الكارثة التي ستلحق بكوكبنا بشرياً وبيئياً جراء ذلك، وأية كارثة مهولة ستلحق بكوكبنا أكثر من ذلك؟ 

ومن المؤسف أن التطور الهائل الذي حصل في الثورة العلمية والتكنولوجية لا يوازيه تطور في التقدم الاجتماعي والذي لا يأتي إلا بوجود أنظمة حكم ديمقراطية تتحمل على الأقل أدنى مسؤولية لصيانة السلم العالمي، وبحيث تكون شعوبها ذات وعي سياسي متقدم،  ويمتلك سلطة تشريعية معبر عنها ببرلمانات قوية منتخبة، ومؤسسات مجتمع مدني مؤثرة، وفصل حقيقي بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبحيث  تراقب أيضاً مدى التزام حكوماتها بتلك الاتفاقيات الدولية بصورتها العادلة بعد تطوير بضغط دولي وشعوبي،  لا بنصوصها الحالية المجردة من إلزام ما تمتلكه الدول الكبرى ذات أسلحة الدمار الشامل بتصفيتها ، هي التي  مازال معظمها لم ينضم إلى معاهدات حظر أسلحة الدمار الشامل، وبضمنها الأسلحة النووية أو غير متقيد بنصوصها. 

وإذا كان يمكن فهم سعي دول عديدة، جلها شمولية ودكتاتورية، لامتلاك السلاح النووي، فكيف لنا أن نفهم صمت برلمانات وشعوب دول ديمقراطية متقدمة تمتلك الأسلحة النووية على هذا الإنفاق الرهيب- الذي يستنزف مواردها المالية والاقتصادية- على تطوير ومضاعفة مخزونها النووي؟ أليس ثمة خلل ما في المؤسسات الديمقراطية لتلك، ناهيك عن نقص في الوعي السياسي بعدم اعتبار مثل تلك الأسلحة التي تمتلكها دولها وما يستتبعه من إنفاق مالي خيالي ذا أولوية قصوى؛ سواء لما تشكله الأسلحة النووية من مخاطر على شعوب الدول النووية والبشرية باسرها، أو لكون الإنفاق يأتي على حساب التنمية والرفاه والتقدم الاجتماعي والحضاري لتلك الدول الرأسمالية الديمقراطية نفسها، دع عنك دور سياساتها الخارجية، ولاسيما الولايات المتحدة،  في خلق بؤر التوتر الدولي المفضية إلى حروب القيمية خطيرة، ولعل آخرها وأخطرها الحرب الروسية- الأوكرانية الراهنة الدائرة منذ أكثر من عام، حيث تنفق الدول الرأسمالية الكبرى ، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أرقاماً فلكية مهولة ببلايين الدولارات من خلال ما تقدمه من دعم سخي لأوكرانيا -تسليحاً ودعماً مالياً- على مدى تعاقب أسابيع وشهور الحرب منذ بدئها. ومع أن الرأسمالية العالمية تمر بدورات من الأزمات الاقتصادية والعامة، ورغم أن الأزمة الحالية مزمنة نسبياً وذات عوامل متعددة ، إلا أنه لا يمكن فهم الأزمات الاقتصادية والمعيشية المحتدمة الراهنة في تلك الدول الغربية الرأسمالية، والإضرابات التي تجتاحها في مختلف القطاعات بمعزل كلي عن ذلك الإنفاق على تلك الحرب وغيرها من الحروب التي تشعلها وتتسبب فيها الولايات المتحدة،  والتي عادة ما يكون وقودها شعوب لا ناقة لها ولا جمل فيها، فيما تحقق منها شركات ومصانع الأسلحة الغربية مكاسب مالية فاحشة بمئات المليارات من الدولارات . 

عرض مقالات: