سئل مسمار (أبو سبع إنجات) كان قد دخل في لوح خشبي: ما الذي أدخلك هذا المدخل؟ فأجاب: غير الدك على راسي!.
وقيل في مثلنا الدارج: كثر الدك يفك اللحيم.
أظن هذين المثلين يجسدان إلى حد ما الوضع الذي وصل إليه أشخاص ذوو كفاءات وتخصصات علمية وثقافية عالية في البلاد، فمن كثر الضغط عليهم أجبروا على الرحيل والهجرة من أرض الوطن، قاصدين الغربة للعيش بسلام وأمان. ولعل مايفرح أي مواطن شريف، هو سماعه بين الحين والآخر مطالبات بتفعيل قرارات جذب المغتربين قسرا، ليأخذوا دورهم في إعادة بناء ما تهدم من أركان البلاد.
ولمن يقلب صفحات التأريخ العراقي، يدرك تماما أن العلوم وتطبيقاتها في المجالات كافة ليست بجديدة على العراق والعراقيين، فوادي الرافدين منذ فجر التاريخ، كان أرضا خصبة لكثير من الاختراعات والاكتشافات في مجالات العلوم والآداب والفنون، ولم تبخل أمهات العراقيين بإنجاب علماء كانوا بشائر وطليعة كثير مما وصل اليه علماء الغرب اليوم، وتشهد لهم مآثرهم وآثارهم، أن السبق كان لهم في ميدان تخصصاتهم.
ففي مجال الفنون، فان مخطوطات الأولين ورسومهم مازالت شاخصة في آثار أور وبابل ولكش، لتشهد انهم أول من ابتكر فن الزخرفة على مشيداتهم، كما انهم اول من اخترع البناء المقوس الذي أثبتوا متانته فيزياويا. ولهم قصب السبق في استغلال الآجر باستحداث فنون العمارة الجديدة، والوثوب به الى قمم شاهقة في معابدهم التي أسموها “زاقورة” وترجمتها “القمة المرتفعة”، فكانت خير برهان على علو كعبهم في الابتكار العمراني بين الأمم والحضارات السابقة.
كل هذا حدث منذ ألوف السنين، وكان لقادة هذه الرقعة الجغرافية وملوكها ورؤسائها اليد الطولى في رفد العلم والعلماء، وفتح ابواب خزائن الدولة وبيوت المال، فضلا عن ابواب قصور الخلافة والدولة، وتسخير الطاقات البشرية والمادية لدعم الكفاءات والقدرات من ذوي العقول، لإيصال علومهم وجديد اختراعاتهم الى دول المعمورة. ولا أستطيع الجزم ان قادة العراق الحاليين جميعهم، مطلعون بأم أعينهم على كل هذه المؤرخات في حق بلدهم العراق، فهل سأل أحد منهم نفسه يوما؟
هل سأحتسب في مستقبل الأيام من القادة الذين أسهموا في نشر العلم والأدب وباقي المعارف، بفتح بابي للعلماء وطلاب العلم؟ وأدخل بذلك سفر التاريخ كقائد حدث في عصري تقدم وازدهار؟ ام سينشد الشعراء غير ذلك في عرقلتي سير العلم ومحاربة الرقي إبان حكمي!. أظن إجابتهم جسدها شاعر يقول في أبياته:
بغداد يابغداد يابلد الرشيد
ذبحوك ياأختاه من حبل الوريد
جعلوكِ يا أختاه ارخص سلعة
باعـوكِ يا بغداد في سوق العبيد
ويل لبغـداد الرشـيد وأهلهـا
فهولاكو في بغداد يولد من جديد
وعدوا بتحريـر العراق و أهلـه
وعدوك يا بغداد بالعيش الرغيد
زهدوا بدجلةَ والفرات وعرضهم
باعوك في الحاناتِ بالثمن الزهيد
فمن أي الصنفين من قادة البلاد يحب أن يكون قادتنا اليوم؟ وكيف يريدون أن يذكرهم التاريخ، إذا علموا أن سجله لايفوته تثبيت كل صغيرة وكبيرة، صالحة وطالحة، سلبية وإيجابية، مشرّفة ومخزية إلا ودونها بالخط العريض لتقرأها الأجيال مدى الدهر؟
لا أظن التأريخ يذكر لقادة اليوم مآثر حققوها، غير التخلف والنكوص وتردي جوانب البلاد العلمية والثقافية، فضلا عن تقهقره عن ركب الأمم بضع مئات من السنين الضوئية.