التقينا نحن أطفال المحلة لنلعب كرة القدم في الساحة المقابلة لبيوتنا،الجوكان غائماً في ذلك اليوم،الجمعة ،لكن الذي جلب أنتباهنا قبل بدء اللعب تحليق طائرات حربية بشكل متواصل في سماء بغداد،رأيت جارتنا القريبة أم حامد،الرابطية البصراوية تتجه مسرعة نحوي وبسؤال مباشر،إن كان والدي موجوداً في البيت وهي تردد:أنقلاب ضد الزعيم.

تفاجئ الوالد بمجيئها ولهذا الخبر المقلق،بعدها جرى أتصال تلفوني معه،ولم يمض وقت قصير بوصول سيارة خصوصية ليستقلها مع رفاقه لمقاومة الأنقلاب.

 ثم خرج عمي مباشرة قاصداً باب الشيخ،القريبة من (عگد الأكراد)والتي قاومت الأنقلابيين ببسالة نادرة،وقدمت شهداء خالدين، ولم يعد بعدها الى البيت،حيث تم أعتقاله قرب مركز الشرطة هناك بعد أن أُشبع ضرباً بهراواتهم.

كان الوضع مقلقاً جداً حسمها الأنقلابيون،البعث الفاشي وأداته الأرهابية المسمومة (الحرس القومي، مُمثلي حثالات المجتمع) في التاسع من شباط عندما أعلن تلفزيون بغداد عن أعدام الزعيم عبد الكريم قاسم وهو مضرج بالدم مع رفاقه الأبطال داخل الأستوديو، وخيم حزن شديد على العراق لينسدل الستار حاجباً أنوار ثورة 14 تموز،التي أنجزت الكثير وفي مدة قياسية قصيرة.

وقرر الوالد بعدها أن نقوم بإخفاء كتبه في حفرة حديقة المنزل مساءاً.وأضطرالى حرق صور له مع الشهيد عبد الكريم وشخصيات أخرى، وكذلك لصورة مع الوالد وأنا مرتدياً اللباس الكوردي مع المُلا مصطفى البرزاني،قائد الحركة الكوردية، في الفندق الذي سكن فيه ببغداد قادماً من البصرة،حياهُ الشعب العراقي بكافة قومياته وأطيافه بحفاوة كبيرة،حرق الصور ترك ألماً لايبارح الذاكرة، كونها أياماً لاتنسى هبت فيها رياح تغيير جديدة.

وبعد عدة أيام أخبرني والدي بأن ضيفاً سيأتي الينا،أوصاني فيها بعدم أخبار أياً كان عنه، الذي حلَ عندنا بعد وصوله ليلاً بسيارة خاصة،وكنت أقوم شخصياً بجلب طعام الغذاء له في غرفة الضيوف،في الوقت الذي كان الوالد في دائرة عمله(مديرية الدراسات الكوردية في باب المعظم).وبعد المبيت عندنا ليلتين على ما أتذكر غادرنا مرة أخرى ليلاً.( بعد سنوات أباح والدي بالسر،من أن الرجل الذي أختفى في بيتنا كان الرفيق جمال الحيدري،عضو المكتب السياسي للحزب،الذي أُعدم من قبل جلاوزة البعث الفاشي).

بعد أسابيع أعتقل الوالد من خلال وشاية أحدهم،لتصبح مسألة أعانة عائلة صعبة لولا دعم الأهل والأقارب،وصارت مهمتي كتلميذ في الرابع الأبتدائي كبيرة لتنقلب أيام الطفولة الجميلة التي عشتها بعد ثورة 14 تموز الى مشاهد بغيضة لإزقة وشوارع تجوبها دوريات الحرس اللاقومي برشاشاتهم،أتذكر ذلك اليوم التي حطت فيه سيارة هؤلاء الأوباش أمام منزل جارنا غير البعيد (أبو سلام)حين أخرجه الحرس اللا قومي من منزله غارقاً بالدم،وهم يواصلون ركله من كل جانب، ليرحلوه الى السجن،حيث تلقى شتى أنواع التعذيب الهمجي،وكما قَص لي أحد أعز أصدقاء الطفولة(من عائلة مناضلة) عن الطريقة الهمجية والوحشية التي قتلوا بها المناضل اليساري توفيق منير،قريب الشخصية المعروفة عزيز شريف،والذي واجه وقاوم الفاشيين بشجاعة،ثم جرى رميه من فوق سطح المنزل ليسقط شهيداً.

كان الأوباش،الحرس اللاقومي يفتشون بيوت الشيوعيين والديمقراطيين الكثر في منطقتنا، يجوبون الشوارع بإستهتار كما يحلو لهم، متمتعين بهوايتهم الشاذة أرهاب الناس،أتذكر منها حينما يستقل عدد منهم برشاشاتهم، باص مصلحة نقل الركاب فجأة وهم يقلبون(علاليك) النساء المتسوقات بحثاً عن منشورات أو سلاح بوجوه صفراء نواتها الحقد الأسود،لخلق الهلع والرعب،ضاربين عرض الحائط تقاليد الحياة الأجتماعية العالية لدى غالبية شعبنا العراقي.

في المدرسة التي كنت فيها،كان معلم الحياتية،يتحدث الينا عن محاسن هذا الأنقلاب، فما كان من زميلي وصديقي (الرفيق أبو دجلة الذي كان معنا في حركة الأنصار)،حين سأله، بأن الأنقلاب قتل أناساً أبرياء،حتى أنقلبت سحنة المعلم كالوحش بهجوم وشتائم ضد الشيوعيين،ليضيف لمعلومات الحياتية غير المقررة في المنهج رعباً وخوفاً للتلاميذ.

لقد تميزت فترة طفولتي بعد ثورة 14 تموز بظاهرة الفرح والأبتهاج التي كانت تسود الشارع العراقي، مهرجانات،ومعارض ونشاطات كثيرة، التي كنت أرافق الوالد أو أعمامي في الباب الشرقي أو شارع الرشيد وخاصة في المناسبات أتذكر منها، حين مرَ الزعيم عبد الكريم في وسط الشارع وهو يستقل سيارة مكشوفة، يحيي بإبتسامته الجماهير التي أصطفت على الجانبين بلا مدرعات أو كوماندو حرس،أو في خطاباته من شرفة وزارة الدفاع دون تفتيش المارة أو الجمهور، ولن أنسى مظاهرة ومهرجان أحتفال الأول من آيار برفقة الأهل، وبحضور كبير لافت،قيل أنها كانت بحدود المليون،تتحرك فيها أشكال وأنواع عديدة من العربات،التي زُينت بديكورات جميلة زاهية، تمثل تراث وتقاليد العراقيين بكافة أطيافه وبهذا الموزاييك الرائع،كان الحزب حاضراً فيها بقوة.

أنقلاب شباط الدموي قطع الفرح،المكسب،الحريات الديمقراطية،الفنون،دفق الحياة،متخيلاً وواهماً بأنهم أقتلعوا جذورها، رغم الخسائر والعذابات الجمة وحمامات الدم التي مر بها الشعب العراقي،من الأعتداءات الجنسية وبوحشية وبربرية لعشرات الآلاف من النساء الشيوعيات والديمقراطيات،وقتلوا خلال تسعة أشهر مئات الآلاف من الشيوعيين عرباً وكورداً ومن مختلف طوائف الشعب.

ودب الخلاف والصراع بين صفوف أنقلابي العسكر حين قاموا بأنقلاب 18 تشرين الثاني من نفس العام وأنزعاجهم من ممارسات وتجاوزات الحرس اللاقومي على المواطنين والجيش حسب زعمهم.

لقد كانت تلك الحقبة التي أستمرت أكثر من تسعة أشهر،والتي شهدت أبشع أنتهاكات لحقوق الأنسان،من تعذيب وتشريد،وقتل مواطنين أبرياء،والفصل من الوظائف.

أتذكر حين جلب عمي بعد إطلاق سراحه كتاب المنحرفون،وبقراءتي له كطفل(حيث من المفروض للأطفال قراءة مايخص عالمهم الخيالي وتنمية المشاعر الأنسانية الجميلة)،ماكُتب، كان أدانة لممارسات وأنتهاكات وجرائم (الحرس القومي)والذي صدر من جهة غير شيوعية بل معادية لها،الذي أثار سخط القوميين ضد البعثيين، يندى لها الجبين وخرجت عن نطاق العادات والأعراف الأجتماعية والتي تجاوزت الحدود،تصف فيها بشاعة هؤلاء المجرمين،أبناء الأقطاعيين الحاقدين.

لقد عجز الأنقلابيون،البعثيون والقوميون من تسوية خلافاتهم ،وعجزوا كذلك في نشر الأمن والاستقرار في البلد.وتكبد الشعب خسائر كبيرة وبدأ العد العكسي التدريجي،مُقارنة ً لما أنجزته ثورة الرابع عشر من تموز.

تفاصيل كثيرة ذكرت فيما بعد عن هذا الأنقلاب الفاشي،الذي أستباح الوطن بقطار أميركي،لازالت ماكنته تصول وتجول في بلادنا مع حفنة من لصوص وفاسدين طائفيون،مُخربي لحمة هذا الشعب،سيحاسبهم  القانون كما حوسب الطغاة والدكتاتوريون والنازيون أمام أنظار العالم أجمع.

قدم الشيوعيون والديمقراطيون وكل شرفاء العراق الغيارى قرابين لإجل حرية وسعادة الشعب، رافعي رايات النضال والمنتفضين ضد الظلم والفساد وسرقة أملاك الشعب،فالشبيبة التي تناضل من أجل مستقبل وحياة آمنة مرفهة وهي تنادي (نريد وطن)،يتوجب عليها أن تتكاتف لرسم مستقبلها مجتمعة بالعمل لدولة تنويرية،ديمقراطية،تمثل كل الموزاييك العراقي النظيف والكفوء، خالية من مُسببي خرابها.

 كتب الروائي المشهورجورج أورويل(الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين و الخونة، لا يعتبر ضحية، بل شريكا في الجريمة).

باقات ورود للشهيدات والشهداء،ومجداً لهم،الذين ألتصقوا بحب الشعب والوطن.

عرض مقالات: