منذ التأسيس الأول للدولة الوطنية العراقية عام 1921 ،شكلت ظاهرة عدم الثقة بين المواطن والسلطة اللوحة الأكثر حضورا ورواجا، لتكون لوحدها المعلم الأخطر ليس فقط على المستوى السياسي وإنما تمتد لتشوه بصبغتها باقي مناحي الحياة بعمومها وتشكيلاتها، ويعزى السبب في ذلك لسياسات مؤسسات السلطة نفسها، ويتوافق وطبيعة المجتمع العراقي بموروثاته الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
على عهد البعث أسس لنمط جديد من علاقات الريبة والخوف وانعدام الثقة، ليس فقط بين المؤسسات السلطوية وأبناء الشعب، وإنما استفحلت مظاهر التخوين والظنون والتشكيك والوشايات بين أوساط الناس، ووضع الجميع في ريبة من أمورهم حتى البسيطة منها، خوفا من أن تؤول في غير محلها، وبات المواطن مع ما يسمع عن مخرجاتها، يخشى حتى أقرب الناس إليه.وجراء ما أقترف بسبب ذلك من جرائم،فككت الكثير من أواصر ولحمة العلاقات المجتمعية وبالذات منها الأسرية.
ما بعد عام الاحتلال 2003،وفي الراهن من الوقت وبعد سيطرة قوى سياسية جديدة على الشارع العراقي، وانتشار وسائل الإعلام، راجت بضاعة بمهام مستحدثة وبطبيعة سياسية، تخطت بأشواط بعيدة سابقاتها بالقدرة على الإيذاء، وراحت ترفع من حدة سوء النوايا وعدم الثقة بين الأفراد والقوى السياسية، وكذلك بين الشرائح المجتمعية، وما عاد المواطن يدرك معها أين يضع قدميه وأي طريق يتوجب عليه سلوكه.
فقد راج استعمال أسلوب الإشاعة السياسية والاجتماعية، لتصبح الوسيلة المثلى ليس فقط للتسقيط السياسي أو الاجتماعي، وإنما طريقة فائقة التأثير والقسوة في الابتزاز وتكميم الأفواه.ولم يكن هذا الأسلوب بالمستحدث في الشارع العراقي، ولكنه يعد اليوم من الأسلحة الفتاكة وذات الأثر المدمر، بعدما أصبحت وسائل الإعلام ملعبا وفضاءً واسعا ومباحا لها. وقدمت القوى السياسية وبالذات الحاكمة منها العون الكثير لترويج أسلوب الطعون والتخوين والظنون والعدوانية، عندما ابتدعت ما سمي بالمخبر السري، ليصبح واحدا من أكثر مجالات الارتزاق والتكسب عبر وظيفة الوشاية والابتزاز.
ومنحت السلطة نفسها الحق القانوني بإخفاء المعلومة والتستر عليها، وتم توظيف ذلك عبر التشويش وابتداع الفذلكة السياسية ودفع الحقائق إلى الخلف ووراء كواليس مغلقة تماما،وليتم تسريب الأخبار البعيدة عن جوهر الحدث، ورمي الاتهامات على الخصوم، وغلق الأبواب أمام الإعلام بحجة الحفاظ على أسرار الدولة. ووصلت المرحلة لحالة من الإسفاف والتخبط في التغطية على العيوب والعورات، ما عاد هناك معها مجال لجسر حالة انفصام الثقة بين الشعب وحكومته، بعد أن اختارت السلطة الابتعاد كليا عن مكاشفة الشعب بالحقائق، ومحاولة تحصين نفسها بالكبرياء والعنجهية السياسية، وتبني خيار عدم الاكتراث من الموقف النقدي الذي يوجه لها، أو العزوف والتغافل عن رؤية ما يتعرض له الناس من معاناة يومية عديدة وعامة، تسحقهم سحقا دون أن يجدوا من ينتشلهم من هذه الأوضاع المزرية
واليوم نشاهد بشكل متسارع ومتضارب كيف تتسرب المعلومة إلى الشعب عن سبب انحدار سعر الدينار العراقي تجاه الدولار وعجز الحكومة ومراوغتها في قول الحقيقة وإعلان الأسباب الكامنة وراء هذا التدهور، وكيف باتت العملة العراقية مهددة وبزمن قريب لفقدان الكثير من قيمتها، مما ينذر بعصف مقبل يكبد الدولة والمواطن خسائر فادحة في المداخيل والمدخرات، وتعم الأسواق فوضى أسعار المواد الأساسية وبالذات الغذائية منها. وتتعرض قيم الفائض المالي الذي تراكم خلال السنتين الأخيرتين جراء ارتفاع أسعار النفط، إلى هزة عنيفة تفقده قوته الشرائية وقيمته السلعية.وأصبح الناس مع هذا التخبط والعشوائية في الأداء الحكومي، لا يعرفون حقيقة ما يحدث لوطنهم ولا يصدقون ما يصل لأسماعهم ،ويحملون بلوعة جارحة أسئلتهم الحائرة، أين تذهب كل تلك الأموال، ولماذا يدفع الناس فواتير أخطاء السلطة وأحزابها الحاكمة.
دائما ما تستخدم بعض أطراف السلطة أسلوب تسريب الإشاعة الإعلامية ، إن أرادت تمرير موضوعة ما لصالحها، ومثلها يفعل خصومها، ولذا يجد المواطن حيرة من أمره في محاولة مستحيلة لإمساك ما هو حقيقي من كل تلك التسريبات.
في واحدة من أكثر المساوئ التي تقترفها القوى السياسية الحاكمة لإشاعة الشكوك والظنون كانت وما زالت طبيعة تشكيل اللجان التحقيقية في الحوادث والمصائب السياسية والجرائم الكبرى، التي وقعت وتقع بشكل مستمر. فالمؤسسات الحكومية تقدم في حينها وبشكل متضارب تصريحات عجولة عن طبيعة تلك الأحداث، ثم تخرج في اليوم التالي لتعلن وبشكل بائس، ما يتعارض مع التصريح السابق. أو ان المؤسسات ذاتها، تتنازع وتطعن في تصريحات بعضها.
وحين يعلن عن تشكيل لجنة تحقيقية لاستجلاء واقع الحدث ومسبباته، تختفي بعد وقت وجيز معالم تلك اللجنة وتصبح في خبر كان، وتطمس جميع الوقائع وتختفي معها الوثائق والدلالات الجرمية، وفي الأخير تتبخر نتائج التحقيق وتختفي كليا معالم الجريمة، وتتواتر بعدها التصريحات في شطحات هزيلة متهافتة، رغم ألم المصاب ووجع الخيبة الذي يعتمر قلوب الناس ويخلد في ذاكرتهم. ولحد الآن لم نسمع من السلطات الحاكمة على عدد متوالياتها وأطوارها، والتي أدارت دفة السلطة على مر سنوات ما بعد سقوط البعث، ولو نتف بسيطة وحقيقية عن نتائج التحقيق في الجرائم الكبرى التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء شعبنا في مختلف مناطق العراق. وما عدنا نعرف حقيقة الأمور وكيف وقعت أو دبرت، ومن أدارها وكيف تم معالجتها وإلى أي مرحلة وصلت نتائج التحقيق فيها، مثل جرائم السرقات الفائقة النهب للمؤسسات المالية،والتي فضلت السلطة نفسها إطلاق تسميات رنانة لتوصيفها.
فمازال المواطن في ريبة وشك من وقائع ما يدور وراء الكواليس عن سرقة القرن التي بلغت فيها المليارات من الدولارات من أموال الضرائب للشركات، وهي أموال يجب أن تكون عائداتها لخزينة الدولة، ومن ثم لصالح الشعب. فلأول مرة نسمع عن إطلاق سراح متهم متلبس بالجريمة وباعترافه الضمني وليس الظني، ليساعد السلطة في استرداد ما سرقه، بالرغم من معرفة السلطة والقضاء مقدار ما سرقه وأين وضع المبالغ المسروقة ومن هم شركاؤه في تلك الجريمة. ومع مثل هذه الطرفة الموجعة والغرائبيه، تفضل السلطات التلاعب بأعصاب الجمهور، عبر تسريب بعض أخبار بالصورة والصوت عن استرداد الجزء اليسير من المبالغ، وتتكتم عن مصارحة الناس بما اعترف به وقدمه للعدالة هؤلاء المجرمون الإرهابيون، وتفضل اللجنة التحقيقية حصر كامل القضية في دهاليز تحجب عنها الرؤية خوفا من إظهار الحقيقة التي تفشي علاقة هؤلاء المجرمين بأهل السياسة من الذين يديرون السلطة وبيدهم مكامن الحل والربط.
ومما يؤلم وجعل الناس في ريبة وانعدام كلي للثقة بالسلطة، اختفاء وطمس المعلومة عن نتائج التحقيقات في مخالفات تزوير وسرقات ووقائع جرمية صريحة وواضحة في صفقات أجهزة ومعدات استوردت للعراق طيلة الأعوام العشرين، والتي مرت بكل تلك الكثافة والسعة عبر عمليات نهب مفضوحة ، ودائما ما كانت أصابع الاتهام تشير فيها ومن داخل مؤسسات السلطة نفسها وبشكل ناجز وفاضح عن ضلوع العديد من المسؤولين في جهاز الدولة، وفي أعلى مراكزها في تلك العمليات، وكان صمتهم وتسترهم لوحده يوحي بوجود مهام موكلة للبعض في التهيئة والتنفيذ والتستر والإخفاء، لذا تراهم يبذلون جهودا كبيرة في تبادل الأدوار لطمس معالم الجريمة ومن ثم رميها في غياهب النسيان.
وبالرغم من معرفتنا بالأداء السيئ والمتهافت للعديد من المشاركين في مسؤولية إدارة الدولة، وانعدام كامل للمهنية عندهم، و جهلهم المطبق في إدارة مؤسسات الدولة، فإن هذا لن يعفيهم من أن يتهموا بالمشاركة الفاعلة وبقصديه في مثل تلك الجرائم،وهم ومهما اختلفت الظروف وتقادم الزمن، يبقون مطلوبين للعدالة. فعدم ظهور نتائج لأي نوع من التحقيقات يعني ضلوع تلك الأجهزة وبشكل مباشر في اقتراف تلك الجرائم. وعند هذا الحال يجب أن لا يتناسى أصحاب القرار بأن تلك الحوادث ليست فقط راسخة في أذهان أهل الضحايا، وإنما هي خزين ألم وخيبة وسوف تبقى دائما في ذاكرة الشعب عن الفترة التي اقترفت فيها ومن كان يدير دفة السلطة حينها.