مصباح كمال، البحث عن دور اليهود العراقيين في النشاط التأميني (1920-1970)، مكتبة التأمين العراقي، 2023، 118 صفحة.
قرأت بإمعان الكتاب الالكتروني الموسوم "البحث عن دور اليهود العراقيين في النشاط التأمين (1970-1920) " المنشور على شبكة الاقتصاديين العراقيين.[1] ويأتي نشر هذا الكتاب كإضافة نوعية لسلسلة الكتب والمقالات المكتوبة للزميل مصباح كمال حول النظام التأميني في العراق، والتي يقوم بإصدارها إلكترونياً ضمن منشورات مكتبة التأمين العراقي. وتضم العديد من هذه الكتب دراسات ومقالات له ولزملائه نشرت أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، مجلة الثقافة الجديدة، وغيرها.
يتضمن الكتاب: المحتويات وإهداء، ومحاور، من باب التقديم الذي أوصي بقراءته بشكل خاص، اليهود والنشاط التأميني في العراق، التأمين في الأرشيف اليهودي العراقي، وفصول أخرى تهم القارئ المتخصص في مجال التأمين.
في بداية الكتاب، أشار المؤلف الى حقيقة مؤلمة، وهي أن "مكتبة التأمين العراقي تفتقر الى دراسات حول تاريخ النشاط التأميني في العراق قائمة على البحث في المصادر الأولية". سبق وأن حاول الكاتب إثارة هذا الموضوع في كتابه الموسوم "أوراق في تاريخ التأمين في العراق: نظرات انتقائية (بغداد: منشورات شركة التأمين الوطنية، 2011)، بغية تحفيز وتشجيع العاملين والمهتمين والمعنيين بشأن النظام التأميني في العراق المساهمة في الكتابة عن الموضوع، وتوسيع فكرة ومحتويات هذا الكتاب. إلا انه ومع شديد الاسف لم يتلق الاستجابة بهذا الخصوص، لذا بادر بإصدار هذا الكتاب القيم، الذي هو ثمرة جهوده العلمية والمعرفية وخبرته المهنية في النظام التأميني، كإضافة جديدة لدراساته السابقة.
لقد حاول الكاتب تسليط الضوء على الموضوع، بأتباع منهج تحليلي لسرد تاريخي مناسب، لمحاور بحث الكتاب، مستندا على ما هو متوفر من الوثائق والمصادر والمراسلات واللقاءات مع المعنيين والمهتمين بنظام التأمين في العراق وخارجه من العراقيين واليهود العراقيين، وبذلك توفر لدى الكاتب كم من المواد والمعلومات والمصادر المناسبة لدراسة موضوع الكتاب.
يطرح الكاتب السؤال الذي كان يشغل فكره، وهو: هل كان هناك شركات عراقية تزاول مهنة التامين، او شركات تم تأسيسها من قبل اليهود العراقيين وعمل فيها العراقيون، ام كان هناك فقط شركات تأمين أجنبية، تدار من الاجانب الممثلين لهذه الشركات، ولها فروع أو وكالات و/أو معتمدين في العراق؟ ذكر الكاتب أسماء كثير من هذه الوكالات وفروع الشركات الإنكليزية، كانت تعمل في تقديره في تأمين النقل البحري للبضائع والسلع المستوردة والمصدرة، او تأمين ضد حريق المباني وبضائع وممتلكات التجار العراقيين واليهود العراقيين، خلال الفترة التي يرصدها الكتاب. ولكن الكاتب لم يتوصل الى الجواب اليقين على سؤاله، لذا يوصي على العاملين والمعنيين في مجال التأمين بمزيد من المساهمة في الكشف والبحث لإغناء وتوسيع محتويات الكتاب.
يشير الكاتب بأن بداية وجود الشركات الأجنبية للتامين في العراق لم يكن أصلا لتلبية طلب محلي عراقي لحماية التأمين من الأخطار، حيث كان العراق في بدايات القن العشرين متخلفا في التعليم واقتصاده قائم على الاسس التقليدية واليدوية، ولم تظهر بعض الأنشطة الاقتصادية في الصناعة والكهرباء والماء، والطرق والجسور، والتلفون وغيرها إلا في عشرينيات القرن العشرين تزامن مع بعض التغيرات المهمة في تشكيل مؤسسات الدولة المختلفة وتوسيع روابط العراق مع الأسواق العالمية. وعلى أثر ذلك وبعد مضي ربع قرن بدأ تأسيس شركات التأمين لتزاول النشاط في مجالات محدودة. ويذكر الكاتب أن المعلومات التفصيلية عن عملها وادارتها محدودة أيضا مما يحول دون الخروج باستنتاجات ملموسة. ومع هذا كانت لها أثر ايجابي لمتمثلاً ببدء ظهور ملامح تشكيل سوق وطنية للتأمين. وكانت ولادة أول شركة تامين "عراقية" في سنة 1946، باسم (شركة الرافدين للتامين)، كانت مساهمة الجانب العراقي في رأسمالها 40% والأجنبي 60%. تبع ذلك تأسيس شركة التأمين الوطنية (1950) كشركة حكومية، وصدور قانون تأسيس شركة إعادة التامين العراقية عام 1960 وتوسع اعمالها داخل وخارج العراق.
يعزى الكاتب تأخير ظهور نشاطات التامين في الدول العربية التي كانت ولايات تحت الحكم العثماني، الى أسباب: تدني التعليم، وضعف المستوى الاقتصادي، والعامل الديني الذي كان قويا في رفض التأمين وتحريمه في "بلاد الإسلام". وقد أشار الكاتب الى اسم أحد فقهاء وعلماء الدين الإسلامي (ابن عابدين) الذين أصدر فتوي بتحريم التامين.
كما أشار الكاتب ايضا الى أسباب تعاظم دور اليهود العراقيين في ممارسة التأمين، كما جاء في ص(22, 21) من الكتاب، في العقود الممتدة بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين، بفضل المعارف الحديثة التي حصلوا عليها في المدارس اليهودية ومنه لمعرفتهم الجيدة باللغة الإنكليزية، مما ساعدهم على دراسة التامين من خلال المراجع الإنكليزية، ولم يكن هناك إلا القليل من هذه الكتب بالعربية، بالإضافة الى تأسيس كلية التجارة والاقتصاد (1947-1946) وإدخال مادة المصارف والتأمين ضمن مواضيع التدريس فيها، وتخريج عدد من الطلبة يتمتعون بمعرفة في مجال التامين. ورغم الحضور الواسع للمواطنين اليهود في العمل التأميني آنذاك يؤكد الكاتب على عدم وجود اعمال مكتوبة من قبلهم عن مؤسسة التأمين وشركات التامين، خلال الفترة موضوع الدراسة في الكتاب.
اشار أيضا الى أسماء بعض عوائل اليهود العراقيين، كانوا نشيطين في مجالات التجارة المختلفة واهتمامهم ايضا بالتأمين. استمر نشاط اليهود العراقيين في التأمين من خلال وكالات التامين في الشركات الإنكليزية في العراق لحين صدور قرار التأميم سنة 1964. بعدها انحسر دور المواطنين اليهود في التأمين الذي بدأ تدريجياً بعد صدور قوانين نزع المواطنة فسنة 1950-1951. ويجتهد الكاتب، اعتماداً على معطيات محدودة، بأن آخر يهودي عراقي عمل في مجال التأمين ترك العراق عام 1970.
حاول الكاتب الاطلاع والاستفادة من الأرشيف اليهودي العراقي (اللجنة الادارية لليهود العراقيين) للحصول على المستندات والمعلومات التي توثق الحضور الواضح للحماية التأمينية التي كانت اللجنة تشتريها. الا ان ارشيف هذه المستندات ليست مبوبة ومبعثرة ضمن مستندات أخرى. عليه يقترح الكاتب على الباحثين والمعنيين في مجال التأمين الاستفادة من هذه المستندات و/أو مستندات تأمينية عراقية أخرى منشورة او محفوظة لدى دوائر الدولة، والتي يمتد تاريخها بين أواخر ثلاثينات و أواسط ستينيات القرن الماضي، تنظيمها وتبويبها وكتابة بحوث ودراسات تحليلية عنها بهدف توسيع واغناء موضوع بحث الكتاب. وبهذه المناسبة، يشير الكاتب الى النشاط التأميني لليهود العراقيين، من خلال تدوين ذاكرة بعض اليهود وذكر اسماهم، وذلك لتنوير جوانب من دور اليهود العراقيين في مجال التامين وتوثيقها لأغراض البحث، مع قائمة أولية بأسماء وكالات التأمين اليهودية في العراق، وبعض الصور من أرشيف وكالات التأمين اليهودية في العراق.
من خلال متابعتي وقراءتي مقالات وترجمات الكاتب في مواضيع متنوعة، وبالأخص تلك التي تركز على النظام التأميني، أشهد بأن الكاتب له دور نشط ومميز في البحث والعرض المنهجي للنظام التأميني في العراق، نقده بإيجابيته وسلبيته واستقراء ذلك عبر مراحل تطوره، وتقديم مقترحات بناءة لإصلاح وتطوير الهيكل والاداري والمهني لمؤسسة التامين، والنهوض بالنشاط التأميني، وتوسيع دائرة الحوار والمشاركة مع الاخرين بهذا الخصوص، بهدف إبراز الدور الحقيقي للتأمين ومساهمته في عملية التنمية الاقتصاديةــالاجتماعية المستدامة في العراق اليوم.
إن هذا الكتاب فريد من نوعه فهو يساهم من خلال البحث عن دور المواطنين اليهود في مجال العمل التأميني في الكشف عن بعض الجذور التاريخية لظهور النظام التأميني في العراق. لقد كان الكاتب أميناً في الإشارة إلى دراسة مهمة لأحد زملائه، ستار كرمد عيدان، تتناول الجذور التأسيسية لصناعة التأمين في العراق لا تزال غير منشورة.
[1] رابط الكتاب فب موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2023/01/Iraqi-Jews-and-Insurance-Book.pdf*
http://iraqieconomists.net/ar/2023/01/03/مصباح-كمال-البحث-عن-دور-اليهود-العراقي/1.
16 كانون الثاني 2023
* دكتوراه في فلسفة الاقتصاد الكمي/محاسبة التكاليف، باحث أكاديمي متقاعد في النظام المحاسبي