لا انتقال ديمقراطي في ظل دولة ريعية تديرها قوى منزوعة الوطنية

 خرج الحزب الشيوعي العراقي بعد الاحتلال عام 2003 بتحليلاته التي تحدد طبيعة المرحلة التي يمر بها العراق والتناقضات والصراعات الناظمة لها وترتيب تلك الصراعات، وعلى ضوء تلك التحليلات تم بناء السياسة بحقليها النظري والعملي. فهي مرحلة انتقال ديمقراطي تتداخل فيها المهمات الوطنية بالمهمات الديمقراطية. ولهذا تم العامل مع " العملية السياسية " تعاملا إيجابيا من خلال الدخول في مجلس الحكم والهيئات التشريعية والتنفيذية الأخرى والاشتراك في منظمات المجتمع المدني التي تضم عناصر من مختلف التيارات. و بناء على ذلك عقدت الامال على تطوير تلك " العملية السياسية " باتجاه التحول الديمقراطي " . وهنا تتوارد مجموعة أسئلة حول تشخيص المرحلة وتناقضاتها: بعد مرور عقدين على " التغيير " وانكشاف كل الأوراق سواء أوراق الاحتلال الأمريكي والقوى الدولية والإقليمية الأخرى ام أوراق القوى التي لهثت وراءهم من قوى الإسلام السياسي الشيعي والسني ام القوى المتعلمنة والتي اجهزت على البناء الفوقي والتحتي لبلدنا. أقول بعد كل هذا الوبال، هل يجوز لنا ان نتمسك بنفس التحليلات والتشخيصات التي خرجنا بها عام 2003 . الا يفترض بنا ان نعيد حساباتنا من جديد ونواجه الحقائق بكل شجاعة، الحقائق المرة التي افرزتها شجرة الحياة الخضراء، وهي حقائق يعرفها القاصي والداني من أبناء شعبنا وتتلخص تلك الحقائق بان الاحتلال الأمريكي جلب اللصوص وحثالة القوم ليلقوا بعراقنا الى الهاوية السحيقة، فهل المرحلة التي نمر بها هي مرحلة انتقال ديمقراطي ام هي مرحلة تكريس تبعية العراق لعجلة الراسمالية التي سحقت وستسحق ما تبقى من بلادنا؟ هل يسمح لنا الفكر الماركسي بفكرة " مرحلة انتقال ديمقراطي يقودها وتحركها الامبريالية الامريكية والقوى الإقليمية وعتاة الإسلام السياسي ورواد الليبرالية الجديدة؟ هل يمكن لدولة تعيث بها المليشيات والحثالات ان تؤسس لنظام ديمقراطي؟

في مقالة سابقة لي نشرت في الشرارة النجفية اكدت ان مرحلة ما بعد 2003 ليست مرحلة" الانتقال الديمقراطي " وانما هي مرحلة تكريس تبعية العراق الى عجلة الراسمالية وتعميق ريعية الاقتصاد العراقي عبر تعطيل قاعدته الإنتاجية الزراعية والصناعية ، حيث استحكمت  قوى الاحتلال الأجنبي مع الأحزاب والقوى التي لهثت وراءه، على البناء الفوقي للدولة العراقية وقوضت البناء التحتي لصالح راس المال الطفيلي والتجاري، فتشوهت اللوحة واختلط حابل الثورة ونابل الإصلاح بعجلة رواد الدولة العميقة تحت جنح الدولة ليلا وتحت اليات " الديمقراطية" نهارا . فالعراق اليوم يخضع لاحتلال امريكي مباشر وغير مباشر، واحتلال تركي عسكري مباشر ، وتدخل سافر وقوي من قبل ايران والسعودية والامارات وقطر، وإسرائيل، وتجد هذه الاحتلالات والتدخلات تاييدا واذرعا ساندة لها من قبل قوى واحزاب وتيارات وشخصيات عراقية مختلفة الأهداف والاتجاهات ، واصبح التناقض التناحري الرئيسي في هذه المرحلة هو التناقض بين دول الاحتلال والتدخل المتعددة وحلفائها من القوى والتيارات والشخصيات المهيمنة من جهة وبين غالبية أبناء الشعب العراقي الساعية الى الاستقلال والتحرر السياسي والاقتصادي الحقيقي من ربقة التبعية .

ولا نحتاج الى كثير من التفكير والتنظير لكي نثبت ان القوى المهيمنة على العملية السياسية الحالية ليست مؤهلة لعملية بناء انتقال ديمقراطي؟ وهل هي قوى تؤمن بالديمقراطية أصلا؟ الم تثبت الاحداث ان غالبية هذه القوى والتيارات ليست الا عصابات ومافيات منزوعة الوطنية مرتبطة بأجندات خارجية، اتخذت شكل أحزاب للتمويه، لأنها جميعا مرتبطة بولاءات عشائرية وطائفية ومناطقية وليس لها علاقة بمفهوم الحزب السياسي الديمقراطي؟ لا المنطق الشكلي ولا الديالكتيكي يستطيع المواءمة بين هذه القوى وبين الديمقراطية كمفهوم نظري او قواعد عمل. هل يصدق احد ان التغييرالشامل يمكن ان يتحقق على يد قوى اوغلت في الفساد المالي والخطف والاغتيالات؟

في هذه المقالة ساتطرق الى القوى المهيمنة في اللوحة الاجتماعية التي تمخضت عما يسمى بمرحلة الانتقال الديمقراطي لتكون دليلا قاطعا آخر على ان ما يمر به العراق هو مرحلة تكريس التبعية وتعميق ريعية الاقتصاد وليس مرحلة الانتقال الديمقراطي . ومن يعتقد بعكس هذا فهو ليس الا حاطب ليل لن يجني من تعبه سوى الأوهام والخسائر المتلاحقة .

قبل الاحتلال عام 2003 كان التناقض التناحري الرئيسي بين الدكتاتور وحاشيته والتحالف الداعم له من شرائح الكومبرادوروالطفيلية والبيروقراطية ، وبعد الاحتلال كما يذكر د كاظم حبيب" لم تنته هذه الفئات :التجار الموسرين ، والكومبرادور، وفئة المقاولين ، والمضاربين بالعقاروالماليين من ذوي الثروة الحديثة مع جمهرة من شيوخ العشائر ومجموعة صغيرة من كبارالملاكين القدامى وجمهرة من شيوخ الدين بل اصبح هؤلاء جميعا هم المتحكمين بالدولة وسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية .( منشورات الثقافة الجديدة نيسان 2021 مساهمة د كاظم حبيب )

من المعروف ان الدولة الريعية تنتج الاستبداد وتتقاطع تماما مع الديمقراطية . وهي دولة يتراجع فيها الإنتاج الاقتصادي الى أدنى حدوده، " ففي مجتمع لا يصل فيه اجمالي الناتج المحلي الى ما دون (15%) بمعنى انه ينتج اقل من (15%) من أسباب معاشه، مجتمع كهذا لا يدخل في عملية الفرز الطبقي كما ان هذا يشكل عقدة ثانية تحول دون إمكانية تقصي أي باحث للبنية الطبقية في العراق. ( د علي جواد وتوت نقلا عن الباحث الإيراني مهداوي . من منشورات الثقافة الجديدة)

حينما دخل الاحتلال العراق عام 2003 ، واجه اشكاليتين كبيرتين :

 أولهما كيف يخلق قاعدة اجتماعية تدعمه في مشروعه الاقتصادي والسياسي الذي يحمله بريمر، وبشكل خاص في بلد يختزن غالبية الشعب مواقف معادية للاحتلال بشكل عام وللاحتلال الأمريكي بشكل خاص . والظاهر ان الولايات المتحدة الامريكية قد جهزت لهذه الإشكالية وسائل حلها قبل الشروع العسكري للاحتلال واولى هذه االوسائل انها جلبت معها جيشا من " العراقيين " باختصاصات مختلفة فمنهم الإعلامي والاقتصادي والكاتب، ورئيس تحرير، خبراء في الشركات الأمنية الامريكية الخ. تم توزيعهم بشكل مخطط لاستلام مهماتهم واستطاع هؤلاء ان يلموا حولهم الكثير مما كانوا بحاجة الى عمل وكل حسب قدرته ان توفرت تلك القدرة ، واصبحوا لاحقا نواة لتاسيس المصارف الاهلية ، وتاسيس صحف ومجلات عديدة ، وسيطروا على مواقع إعلامية مهمة واسسوا فضائيات جديدة بدعم مخابراتي معروف . وثانيهما انها جلبت (800 ) مليون دولار تستهدف بواسطتها دعم شرائح اجتماعية كانت داعمة للدكتاتور لتكسب ولاءها وتحتل دورا اكبر مما كانت عليه في زمن النظام السابق فدعمت الكومبرادور من التجار الذين يتعاملون مع السوق الراسمالية ودعمت الشرائح الطفيلية الداعمة لنظام الدكتاتور وكذلك قوت العلاقة مع العناصر المتقدمة من البيروقراطية العسكرية والمدنية والتي عشعشت في ثنايا النظام السابق ، واستطاعت قوى الاحتلال ان تجعل من هذا التحالف الأساس الطبقي للهيمنة على الدولة ومقاليد السلطة في العراق . ولا شك ابدا بان قوى التحالف المهيمن على مقادير المرحلة الحالية هو صناعة الاحتلال الأمريكي المباشر بغض النظر عن اليافطة التي يتلفع بها هذا الطرف او ذاك سواء دينيا ، ان " علمانيا " ام " ليبراليا " .

فالدولة الريعية أحادية الاقتصاد التي صممها الاحتلال بصيغتها الحالية لا يمكن ان تنتج الا الفوضى والاستبداد والتبعية ، والقوى المهيمنة فيها ليسوا الا أدوات رخيصة بيد الاحتلال والقوى الإقليمية ، ولا صلة لهم من قريب او بعيد بعملية انتقال ديمقراطي موهومة متخيلة .

*- نشرت لأول مرة في مجلة الشرارة العدد 162/ كانون الثاني 2023

عرض مقالات: