عندما بدأ العدو الصهيوني عدوانه على لبنان في 12 تموز من عام 2006، بذريعة الرد على مقتل 4 جنود اسرائيليين ووقوع اثنين في يد المقاومة كأسرى، لم يكن احد من الخبراء والمتابعين يتوقع النتيجة التي انتهى اليها العدوان في 14 آب. وقد تبين بعد ذلك ان تفاصيل العدوان كانت جاهزة ومحضرة سلفا، ولم تكن اسرائيل تنتظر سوى الذريعة والسبب المباشر لتحديد ساعة الصفر.. ليتأكد ايضا ان العدوان على لبنان كان منسقا مع الولايات المتحدة ومع دول عربية كانت على علم مسبق بالعملية..
منذ اللحظة الاولى للعدوان، كان واضحا ان جيش العدو الاسرائيلي اعتمد سياسة الارض المحروقة في ضغطه على المقاومة من خلال بيئتها الحاضنة، عبر استهداف الاحياء السكنية المنشآت المدنية بشكل متعمد، ناقلا الموت والرعب والمجازر على مساحة كافة قرى ومدن الجنوب اللبناني، وهو نفس الاسلوب الذي اعتمده اكثر من مرة في قطاع غزه، لاحداث الشقاق بين المقاومة وجمهورها. وبالامكان الاستنتاج ان مثل هذا التكتيك لا يمكن اللجوء اليه الا اذا كان العدو مقتنعا ان آلته الحربية لن تكون كافية لتحسم المعركة وحدها، وهو يحتاج الى عناصر اخرى تدعم عمليته العسكرية..
العملية عسكرية لكن الاهداف سياسية بامتياز وتتمثل بمشروع امريكي اسرائيلي كان يستهدف كل المنطقة بل الشرق الاوسط بأسره تمهيدا للاستفراد بالشعب الفلسطيني ومقاومته وطرح حلول تصفوية للقضية الفلسطينية، وهو نفس المشروع التي تحاول الولايات المتحدة واسرائيل طرحه الآن عبر تحالفات سياسية وعسكرية وامنية تزنّر المنطقة العربية لتسهيل مشروع الشرق الاوسط الجديد، بمسمياته المختلفة، من بوابات التطبيع وغيرها من عناوين..
فحين كانت المباني تنهال دمارا فوق رؤوس اهلها من المدنيين العزل، خرجت وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس ومن قلب السفارة الامريكية في بيروت لتعلن ان "مخاض شرق اوسط جديد يولد من جنوب لبنان". ما اعاد الى الذاكرة تصريحات وزيرة الخارجية الامريكية التي سبقتها مادلين اولبرايت حين سئلت بأن "نحو نصف مليون طفل عراقي ماتوا، وهو عدد أطفال أكثر من الذين ماتوا في هيروشيما، هل الثمن يستحق؟" فأجابت قائلة: "أعتقد أن ذلك خيار صعب جدا ولكن نعتقد أن الثمن مستحق..".
اما على الصعيد العسكري، فان الولايات المتحدة كانت شريكا مباشرا في العدوان من خلال مد اسرائيل بكل اشكال الدعم العسكري والاسختباراتي، وهذا كان ملموسا انه حين شعر جنرالات الولايات المتحدة ان اسرائيل عاجزة عن تحقيق اهدافها، حتى لو استخدمت الاسلحة المسماة قنابل ذكية التي كانت تشارف على النفاذ، سارعت الادارة الامريكية على ارسال البدائل عنها في جسر جوي مفتوح اعلن عنه بشكل صريح.. لكن حين اتضح ان اسرائيل، وللمرة الاولى في تاريخ صراعها مع العرب، ستفشل عن تحقيق نصر حقيقي، كما حصل في كل حروبها السابقة، ذهبت لتبحث عن مخارج سياسية يحفظ ماء وجهها واسرائيل..
من خلال تفاصيل العدوان اليومي، اتضح ان اسرائبل تسعى بشكل مباشر الى تدمير البنى التحتية ليس لحزب الله فقط بل وللبنان الدولة والشعب والكيان، وتوفير الامن لاسرائيل بالقضاء على القدرات الصاروخية للحزب، وهو نفس الهدف المعلن في كل عدوان شنته اسرائيل على قطاع غزه وفشلت في تحقيقه.
ورغم ان اسرائيل زجت بكل ترسانتها البرية والبحرية والجوية في المعركة، الا ان ايا من اهدافها المعلنة لم يتحقق. وباعتراف جنرالات اسرائيل فقد شارك في عدوان تموز عام 2006 حوالي 40 الف جندي، واعترفت اسرائيل بأن خسائرها خلال العدوان بلغت 156 قتيلا منهم 117 جنديا اضافة الى نحو 5000 جريح عسكري ومدني وخسائر اقتصادية تجاوزت 25 مليار شيكل وتدمير 12 الف منزل، فيما بلغ عدد الصواريخ التي اطلقتها المقاومة من لبنان 3970 صاروخا. ناهيك عن الخسائر في الدبابات والآليات العسكرية على اختلافها والطائرات والبوارج الحربية وقطع عسكرية مختلفة كانت اهدافا سهلة لافراد المقاومة..
في الوقائع اليومية، وخلال 33 يوما (شهر ويومان)، قصفت اسرائيل المباني والجسور والبنى التحتية والشجر والحجر، دمرت كل شيء يتحرك على الارض لكنها خرجت مهزومة باعتراف الاسرائيليين انفسهم (لجنة تحقيق فينو غراد).. رغم الدعم الغربي والعربي الذي حظيت به، ظنا بأنها قادرة على انهاء مهمتها خلال فترة وجيزة. لكن حسابات الحقل لم تتطابق وحسابات البيدر، ولأول مرة تفقد اسرائيل وجيشها القدرة على التحكم بتفاصيل المعركة التي تجاوز حسابات ما هو مرسوم لها وباتت تهدد بعض العناوين التي لم تكن في الحسبان..
واليوم بعد نحو عقد ونصف، لا يحتاج المرء لكثير من فلسفة لتحليل ذلك العدوان واسرار الهزيمة والانتصار. معادلة بسيطة جدا: مقاومة، صمود، ارادة سياسية واحتضان شعبي.. هي رباعية اسطورية صنعت الانتصار في لبنان عام 2006: مقاومة كانت تدافع عن ارضها في مواجهة عدو غاز يتواجد فوق برها وفي مياهها وبحرها، وصمود اسطوري لشعب حي يعرف معنى التضحية ومعنى الاثمان التي يجب ان تدفع لينال حريته وعزته، وارادة سياسية من دولة ومقاومة واحزاب ونخب سياسية وفكرية ونقابات واطر شعبية واحتضان للمقاومة وللمهجرين من كل اطياف الشعب اللبناني الذين تصرفوا على قلب رجل واحد وتعاطوا مع العدوان باعتباره عدوانا على كل الشعب..
قد يقول احدهم اننا انتصرنا كفلسطينيين، كشعب ومقاومة، في اكثر من مرة، وفشل العدو الاسرائيلي ايضا في تحقيق اهدافه اكثر من مرة، لكن انتصاراتنا العديدة والهامة بقيت ناقصة، العدو كان قادرا دائما على تحويل هزائمه الى عبء على الحالة الفلسطينية التي ظلت عاجزة على ترجمة انتصاراتها الى مكاسب سياسية. فالشعب الفلسطيني ومقاومته انتصروا خلال عدوان 2014 على قطاع غزه وانتصروا ايضا خلال معركة القدس عام 2021، لكنهما لم يحسنا استثمار الانتصارات لصالح الكل الفلسطيني، بدليل عودة الجميع الى مربع الانقسام والشرذمة والصراع اليومي على كل تفصيل.
وعندما نتحدث عن الانتصارات فنحن لا نقصد فقط ما حدث في قطاع غزة بل كل انتصاراتنا على مستوى القضية والشعب، وما حدث في قطاع غزه من مواجهة مباشرة مع المحتل، نحن قادرون على ترجمته في الضفة الغربية بأكثر من شكل، ليس المقاومة الشعبية الشاملة الا احداها، والمطلوب اليوم تغيير الصورة بأن الاحتلال الاسرائيلي يتصرف بحرية تامة ولا يدفع فاتورة احتلاله للارض الفلسطينية. وليست موازين القوى سببا للتراجع والتسليم بالعجز، فقانون حركات التحرر وحروب التحرير الشعبية قائمة اصلا على معادلات لا تحكمها موازين القوى العسكرية او الاقتصادية فقط، بل مجموعة عوامل وعناصر يحتكم الشعب الفلسطيني على الكثير منها، لكنها تحتاح الى بروز وتفعيل، خاصة واننا كشعب ومقاومة وقوى حية نمتلك الارادة والجرأة والصمود والهدف والايمان بحقنا بأرضنا وبحتمية تحريرها..
كم نحن احوج كفلسطينيين لاستعادة الرباعية التي اجتمعت خلال عدوان تموز عام 2006، وتحقيق انتصارات ليست بمستحيلة ان تمكنا من تحرير العقل والارادة السياسية ورمينا باوسلو وفيروساته على المزابل، وانتقلنا من الفئويات والعصبيات الفصائلية الضيقة الى الساحة الوطنية الواسعة، فهي كبيرة وتتسع للجميع.. وبامكاننا ان نحقق اكثر بكثير مما تحقق عام 2006، وفي العمل الوطني النظيف ليتنافس المتنافسون..
ستبقى الملاحم الاسطورية التي سطرتها المقاومة بمختلف تشكيلاتها والممتدة منذ ما قبل العام 1978 انموذجا يحتذى وعنوانا من عناوين النقاش الذي سيبقى مفتوحا من زاوية استخلاص الدروس والعبر، وبحث نقاط الضعف والقوة وبما تبقى لدى اسرائيل كأكبر قوة في المنطقة من قوة ردع، واذا ما زالت بالفعل قوة ردع فاعلة وقادرة على تحقيق ما تريد.. ولعل هذا ما تريده اسرائيل في تعاطيها مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بفرض هيمنتها القائمة على الغطرسة والعدوان ومسلحة بقوة ردع تعتقد انها ستمكنها من ممارسة دور الشرطي في المنطقة.
11 آب 2022
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين