في السادس من اَب 2022، تحل الذكرى السابعة والسبعون لكارثة هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، التي يستذكرها الشعب الياباني ومعه كل أنصار السلام في العالم في كل عام بوصفها أفظع جريمة حرب دولية اقترفتها الإدارة الأمريكية برئاسة هاري ترومان بحق الشعب الياباني، بإلقائها أول قنبلة ذرية - أسمتها " الولد الصغير"- على مدينة هيروشيما، يوم 6 / 8/ 1945، تلتها بعد 3 أيام بقنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي، في مرحلة كان جيش الإمبراطورية اليابانية على وشك الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وفي ساعة كان مئات الآلاف من السكان متواجدين في المؤسسات والمصانع والمدارس والجامعات والمستشفيات والمتاجر، وغيرها، مسببة أبشع المجازر البشرية، التي لم يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلا، والتي يتعين أن لا ينساها الجميع.
كوارث لن تنساها الذاكرة الحية
دمرت القنبلتان المدينتين عن بكرة أبيهما خلال دقائق قليلة، وحولتهما إلى أكوام من اللهب والرماد، بمحيط انفجار بالغ 14 كيلومترا مربعا. وأحدثتا أبشع الكوارث الإنسانية وأفظع الأضرار الصحية والنفسية والبيئية والاجتماعية في القرن العشرين، حيث أهلكتا أكثر من 146 ألف شخصاً في هيروشيما، أي نحو 30 بالمئة من عدد سكانها، و 80 ألفاً في ناغازاكي . وشكل المصابون ثلاثة أضعاف عدد القتلى، ومات منهم فيما بعد 20 ٪ متأثرين بالجروح والصدمات والحروق والتسمم الإشعاعي وانتشار الأمراض والوفيات السرطانية، خاصة سرطان الدم، والأورام الخبيثة. وكان معظم الضحايا من المدنيين الأبرياء. وأما الناجون، ويعرفون باسم "هيباكوشا "، فقد روى المئات منهم قصص محن وفواجع ومعاناة واَلام تقشعر لها الأبدان. وقد تركت ندوبا عميقة لا تبرأ في نفوس الناجين، الذين ما فتئوا يعانون منها هم وأطفالهم وأحفادهم.
تطور رهيب
كانت الأسلحة الذرية اَبان الحرب العالمية الثانية تمثل نوعاً واحداً- قنابل كبيرة، تزن نحو 4.5 أطنان، وكانت معبأة باليورانيوم، وألقيت من الطائرة على ارتفاع 1980 قدما..
أما اليوم فقد أصبحت أكثر تطوراً وتنوعاً (قنابل وصواريخ وقذائف) وأشد تدميراً وفتكاً بما تحتويه من مواد متفجرة وشديدة الإشعاع، وأسهل حملا وإطلاقاً، مع علم الجميع جيداً بان أحداً لن يكون رابحاً من استخدامها، لا بل سيهدد البشرية وكافة الأحياء على كوكب الأرض بالفناء التام.
ولذا، تُعدُ الأسلحة النووية من أخطر أنواع أسلحة الدمار الشامل قاطبة. فبإمكان صاروخ واحد أو قنبلة نووية واحدة ان تدمر مدينة كبيرة بأكملها وتحولها الى أنقاض، وتفني مئات الآلاف من البشر وبقية الكائنات الحية، وتدمر البيئة وتجعلها غير قابلة للعيش.
فقد بينت الأبحاث العلمية التي درست أضرار القنبلة الذرية، التي ألقيت على هيروشيما، بأنها لم تُقتصر على المنطقة المستهدفة، ولا على وقت حدوث الانفجار، وإنما امتدت إلى الأجيال التالية من خلال اَثارها الوخيمة طويلة الأجل الناجمة عن التلوث الإشعاعي. فمن لم يقتل ساعة الانفجار مات بعد ذلك، أو عانى كثيراً.. وان تأثيرها مستمر حتى اليوم، وتتسبب في الإصابة بالسرطانات وبالعيوب الخلقية لحديثي الولادة.
ولا يستطيع أحد في الوقت الحالي أن يقرر إلى أي حد من الأجيال سيستمر توارث آثار الإشعاع..
ترسانة رهيبة
تهدد الترسانة الحالية للأسلحة النووية بفناء البشرية وكافة الأحياء على كوكب الأرض فناءً تاماً.
ويرى الخبراء ان مسؤولية خفض عدد الرؤوس النووية في العالم تقع بالدرجة الأولى على عاتقي روسيا وامريكا، لكونهما تمتلكان 7500 و 7260 رأساً نووياً، على التوالي، أي أن حصتهما مجتمعتين توازي 90% من الترسانة النووية في العالم بأسره.
وأكد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI) ) بان الدول النووية تواصل عملياً تحديث ترسانتها، بدلا من نزعها، خلافاً لرغبة المجتمع الدولي. وقد ارتفع عدد الرؤوس النووية وبلغ في مطلع عام 2015 نحو 15850 رأسا نووية، بينها 4300 جاهزة للاستخدام. وكشف بأن واشنطن وموسكو منخرطتان في برامج تحديث ضخمة ومكلفة تستهدف الأنظمة الناقلة والرؤوس النووية وإنتاجها. وهو ما شجع بقية الدول التي تمتلك أسلحة نووية على توسيع ترساناتها.
واليوم، لا يقتصر انتشار السلاح النووي على الدول الـ 9 المالكة له، وإنما هناك 5 دول أوروبية، وهي بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا، لا تملك برنامجا نووياً، لكنها تنشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيها في إطار اتفاقية "الناتو". وثمة 23 دولة أخرى قبلت بنشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيها " كوسيلة لتعزيز أمنها القومي"، مثل ألبانيا وأستراليا وبلغاريا وكندا وكرواتيا والتشيك وبولونيا والدانمارك واليونان والمجر واليابان وإسبانيا وكوريا الجنوبية. وهناك فئة ثالثة من الدول التي تمتلك مفاعلات نووية للأغراض السلمية قابلة للتطوير لتصبح قنابل ذرية فتاكة.
أما روسيا، فقد أعلنت بان سلاحها النووي " لا يوجد خارج أراضيها "– كما هي أمريكا. لكنها " مضطرة ً أن توجه صواريخها النووية نحو أتباع أمريكا، لأن دول حلف وارسو تحولت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الى حلف شمال الأطلسي، وأصبحت أداة للسياسة الخارجية الأمريكية، والحلف يبحث دائما عن استفزازات بهدف تعيين العدو الخارجي".
واعتبرت روسيا نشر أمريكا لصواريخ "باتريوت" في بولونيا ورومانيا "جزءا من الخطة الاستراتيجية الأمريكية لتطويقها بأنظمة الدفاع الصاروخي، التي لم تكن موجهة لإيران، وإنما لروسيا والصين". وذات الشيء ينطبق على تمدد حلف الناتو الى حدودها وإقامة قواعد عسكرية تهدد أمنها.
الى هذا، نبه قائد الجيش البريطاني، الجنرال نيكولاس كارتر، في تشرين الثاني 2021، من" أن خطر اندلاع حرب بالصدفة حالياً بين روسيا والغرب هي أكبر من أي وقت مضى". وحذر السياسيين البريطانيين من إثارة التوترات غير الضرورية التي تؤدي الى تصعيد يفضي إلى تقديرات خاطئة ".
وفعلا، يشهد العالم حالياً تصاعد حدة التوتر ونذر المواجهات المباشرة على وقعها بين القوى الكبرى حول العالم، من أوكرانيا وشرق أوربا وشمالها، الى تايوان وجنوب شرق اَسيا، والتي تهدد بنشوب حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة الفتاكة، بما فيها الأسلحة النووية، حيث بلغ التصعيد حد وضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب قصوى. وهو ما زاد المخاوف من مواجهة عسكرية محفوفة بتصعيد نووي.
ويدلل ذلك بان الفظاعات التي خلفتها جريمة الحرب النووية على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، لم تشكل دافعا كافيا - كما يبدو- للقضاء على الأسلحة النووية، وجعلها جزءا من التاريخ. إذ لا تزال الدول العظمى تعمل على تطوير هذه الأسلحة الفتاكة المهددة لمصير البشرية..
تحذيرات أخرى عن تداعيات فظيعة يجري تجاهلها
نبهت اللجنة الدولية للصليب الأحمرICRC))، في تشرين الأول/أكتوبر 2016، بان المجتمع الدولي يملك الآن أدلة دامغة على ما ينجم عن هذه الأسلحة من آثار مروّعة وممتدة ولا رجعة فيها على الصحة والبيئة والمناخ والإنتاج الغذائي- أي على كل ما تعتمد عليه حياة البشر. وظهرت أدلة إضافية جديدة على الآثار العشوائية والمعاناة المريرة التي تسببها، عُرِضت في ثلاثة مؤتمرات دولية معنية بالآثار الإنسانية للأسلحة النووية. وخرجت دراسات دولية مشتركة باستنتاج رئيسي يفيد بأنه لا توجد أي قدرة أو خطة مناسبة للاستجابة الإنسانية بوسعها مساعدة ضحايا الأسلحة النووية.
وحذر العالم البارز في منظمة «أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية» ستيفن ستار أنه بمجرد بدء عملية تبادل نووي بين واشنطن وموسكو، فإن عدد القتلى خلال الساعة الأولى سيكون عشرات الملايين، وستكون هذه مجرد بداية مروعة. وهناك "الشتاء النووي" كأحد العواقب البيئية الطويلة الأجل للحرب النووية، حيث ستحجب طبقة الدخان الستراتوسفيرية العالمية، التي تولدها العواصف النووية، معظم أشعة الشمس من الوصول إلى سطح الأرض، وستحدث حالة "طقس العصر الجليدي"، ستستمر لمدة 10 سنوات على الأقل. وهو ما يجعل معظم البشر على كوكب الأرض مهددين في غضون عامين من الحرب النووية المفترضة بالموت بسبب المجاعة والأمراض.
وأعلنت القيادة الروسية مراراً: لن يكون هنالك رابح من حرب تستخدم خلالها الأسلحة النووية..
أقضوا على الأسلحة النووية قبل أن تقضي علينا!
حققت الجهود الدولية المدركة والمقدّرة لخطورة الترسانة النووية خطوات كبيرة في سعيها الحثيث من أجل عالمٍ خالٍ من السلاح النووي، تتوجت بتبني الأمم المتحدة لـ"معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية" في تموز/يوليو1968، والتي دخلت حيز التنفيذ في اَذار/مارس 1970.واعتمادها يوم السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر " يوماً عالمياً للإزالة الكاملة للأسلحة النووية." وفي تموز 2017 تبنت "معاهدة حظر الأسلحة النووية"، ودخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/يناير 2021.
تقديراً لأهمية تبني معاهدة حظر الأسلحة النووية، اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بحق:” خطوة مهمة نحو الطموح المشترك لعالم خالٍ من الأسلحة النووية. فالمعاهدة تحظر مجموعة كاملة من الأنشطة المتعلقة بالأسلحة النووية، بما في ذلك تطوير واختبار وإنتاج وتصنيع واقتناء وتخزين الأسلحة النووية أو أجهزة متفجرة نووية أخرى".
بيد ان المعاهدة ما زالت منقوصة، وذلك لأن جميع الدول المالكة للأسلحة النووية، وجميع أعضاء حلف الناتو، لم تصوت ولم تصادق عليها.
والمفارقة الوقحة أنه بدلا من تحديث وتفعيل "معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية" والانضمام لـ "معاهدة حظر الأسلحة النووية" من قبل كافة الدول المالكة لها وجميع دول حلف الناتو، والعمل من أجل إزالة الترسانة النووية تماماً، يجري تحديثها وتطويرها لتصبح أكثر فتكاً ودماراً، وبالتالي تهدد مصير البشرية برمتها.
الأمين العام للأمم المتحدة يعكس طموحات المجتمع الدولي
في رسالته الى الاجتماع الأول للدول الأطراف في معاهدة حظر الأسلحة النووية، الذي انعقد في فيينا، في 20/ 6/2022، نبه السيد غوتيريش الى أن: " الأسلحة النووية تذكير قاتل يُعرقل الدول عن حل المشاكل بالحوار والتعاون". وحث المجتمع الدولي على التخلي عن هذه الأسلحة الفتاكة بشكل نهائي. وقال: "دعونا نقضي على هذه الأسلحة قبل أن تقضي علينا."
ولفت الى ان:" الدروس المرعبة لهيروشيما وناغازاكي تتلاشى من الذاكرة ". وحذر من أنه ومع وجود أكثر من 13 ألف سلاح نووي حول العالم، فإن "احتمال نشوب صراع نووي- لم يكن من الممكن تصوره في السابق- قد عاد الآن إلى عالم الاحتمالات."وأضاف: " في عالم تسوده التوترات الجيوسياسية وانعدام الثقة، هذه وصفة للإبادة."
وقال: " لا يمكننا أن نسمح للأسلحة النووية التي تمتلكها حفنة من الدول بتعريض الحياة على كوكبنا للخطر. يجب أن نتوقف عن طرق باب ’ يوم القيامة ’! " .
وفي حديثه أمام المؤتمر الاستعراضي العاشر لأطراف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، الذي انعقد في الأول من اَب/ أغسطس الجاري، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بهدف تحديث وتفعيل المعاهدة، خاطب الدول الأعضاء إن "الغيوم التي انقشعت بعد نهاية الحرب الباردة بدأت تتلبد مرة أخرى. لقد ظل الحظ يحالفنا، بصورة استثنائية، حتى الآن. لكن الحظ ليس استراتيجية. كما أنه ليس درعا واقيا من التوترات الجيوسياسية التي تتحول إلى صراع نووي".
وحذر غوتيريش العالم من أن "الإنسانية على بعد مجرد سوء تفاهم واحد، أو سوء تقدير واحد، من إبادة نووية"، مستشهدا بالحرب الدائرة في أوكرانيا، والتهديدات النووية في آسيا والشرق الأوسط، إضافة إلى العديد من العوامل الأخرى.
ونبه الى أن الإنسانية في خطر نسيان دروس حرائق هيروشيما وناغازاكي المرعبة، مشيرا إلى أن التوترات الجيوسياسية تصل إلى مستويات عالية جديدة، والمنافسة تتفوق على التعاون والتعاضد، ويحل انعدام الثقة محل الحوار، والانقسام محل نزع السلاح.
وأوضح أن الدول تسعى للحصول على أمن زائف من خلال تخزين وإنفاق مئات المليارات من الدولارات على أسلحة الفناء النووي المنذرة بنهاية العالم والتي لا مكان لها على كوكبنا. وأضاف أن ما يقرب من 13 ألف سلاح نووي موجود الآن في ترسانات حول العالم.
وأضاف:" أننا بحاجة إلى تعزيز جميع سبل الحوار والشفافية. لا يمكن أن يترسخ السلام في ظل غياب الثقة والاحترام المتبادل". وأن "القضاء على الأسلحة النووية هو الضمان الوحيد لعدم استخدامها مطلقا. يجب أن نعمل بلا كلل من أجل تحقيق هذا الهدف. يجب أن يبدأ هذا بالتزامات جديدة لتقليص عدد جميع أنواع الأسلحة النووية بحيث لا يظل خطرها مهددا للإنسانية. وهذا يعني تنشيط اتفاقياتنا وأطرنا متعددة الأطراف حول نزع السلاح وعدم الانتشار، بما في ذلك العمل الهام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوفير الموارد لها".
ودعا السيد غوتيريش الحكومات الى العمل على تعزيز الاستخدام السلمي للتكنولوجيا النووية كعامل مساعد للنهوض بأهـداف التنمية المستدامة، بما في ذلك الاستخدامات الطبية وغيرها. وجدد التأكيد على أنه عند استخدامها للأغراض السلمية، يمكن أن تكون هذه التكنولوجيا ذات فائدة كبيرة للبشرية.