تكاد كل المصادر التي تناولت ثورة الرابع عشر من تموز ـ يوليو 1958 في العراق، تكاد تجمع على ان كبار قادة حركة الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالنظام الملكي، كانوا متبايني الإتجاهات، ولم يكونوا منتمين الى أحزاب أو حركات سياسية، وإن كان بعضهم، وفي مسعاه لتأمين دعم شعبي لما يخطط له، قد أقام صلات بنوع ما مع بعض الأحزاب العلني منها والسري، وربما فكر بعضهم في الإستفادة من تلك الصلة في صراع، ربما يكون قد تحسب له مع رفاقه في الحركة، لدعم توجهه السياسي أو طموحه الشخصي، في حيازة ما يرى نفسه مستحقا له من كعكة السلطة، أو حتى الإستئثار بالكعكة.
تباين اتجاهات وميول الضباط الأحرار لا ينفي حقيقة ان أغلبهم كان يميل الى التيار القومي، أو مشبعاً بأفكار دينية محافظة. ويمكن التأكد من ذلك من خلال مراجعة أسماء من تشكلت منهم اللجنة العليا للضباط الأحرار. فقد كان قوام اللجنة العليا للضباط الأحرار عام 1957 مكون من:
الزعيم الركن عبدالكريم قاسم، الزعيم الركن محيي الدين عبدالحميد، الزعيم الركن ناجي طالب، العقيد الركن عبدالسلام عارف، العقيد المتقاعد طاهر يحيى، العقيد عبدالرحمن عارف، ، العقيد مهندس رفعت الحاج سري، العقيد مهندس رجب عبدالمجيد ، العقيد الركن عبدالوهاب الأمين، العقيد الركن محسن حسين الحبيب، المقدم الركن عبدالوهاب الشواف، المقدم الركن عبدالكريم فرحان، المقدم وصفي طاهر، الرئيس الأول الركن صبيح علي غالب، والرئيس الأول الجوي المتقاعد محمد سبع.
ومن بين قادة الضباط الأحرار الخمسة عشر هؤلاء، لم يكن سوى ضابط واحد محسوب على التيار اليساري هو المقدم وصفي طاهر.
اما لجنة الأحتياط، والتي كان أعضاؤها من ذوي الرتب العسكرية المتدنية، فقد كانوا جميعا، وكما أكدت سيرتهم اللاحقة، أما بعثيون أو ميالون الى التيار القومي. وهذه أسماؤهم كما وردت في الجزء الثالث من كتاب (( العراق )) للباحث المرموق حنا بطاط:
مقدم ركن محمد مجيد، رئيس أول ركن خالد مكي الهاشمي، رئيس أول ركن عبدالستار عبداللطيف، رئيس أول ركن إبراهيم جاسم التكريتي، رئيس أول ركن صبحي عبدالحميد، رئيس أول ركن حسن النقيب، رئيس أول ركن عيسى الشاوي، رئيس أول طه الدوري. وكان بين الضباط الأحرار، دون إشغال عضوية أي من اللجنتين، المقدم أحمد حسن لبكر، والرئيس الأول صالح مهدي عماش.
وكان من الطبيعي أن تنشب الخلافات بين قادة الثورة حول طبيعة وتوجهات النظام الجديد، الذين كانوا بصدد تشكيله، بديلا للنظام الذي أطيح به. ولم تمر أكثر من بضعة أسابيع على الثورة، قبل تفجر الصدام بين الشخصين الرئيسيين في النظام الجديد، رئيس اللجنة العليا للضباط الأحرار، عبدالكريم قاسم الذي أصبح رئيسا للوزراء، وقائدا عاما للقوات المسلحة، ونائبة في قيادة القوات المسلحة ورئاسة الوزراء عبدالسلام عارف. إذ شعر قاسم ان التوجهات القومية لنائبه، وعدد كبير من رفاقه في الجيش والحكومة، صارت تدفع نحو الإندماج بالجمهورية العربية المتحدة، بقيادة جمال عبدالناصر، أمر يفقده موقع الزعيم الأوحد في العراق. ولم يكن أمامه، إزاء ذلك، سوى دعم القوى التي تشعر هي الأخرى بخطر هذا المنحى، وإزالة العوائق أمام نشاطها. وكان أكبر تلك القوى وأوسعها نفوذا شعبيا، الحزب الشيوعي الذي كان يخشى هو الآخر، من تحريم نشاطه، كما حدث للحزبين الشيوعيين، في إقليمي دولة الوحدة مصر وسوريا.
أدرك قاسم بالطبع، أن ليس بإمكانه الحصول على دعم الشيوعيين دون مقابل، يتضمن على الأقل منحهم فسحة من الحرية، والإستجابة لبعض توجهاتهم الاجتماعية – الاقتصادية، وكان أبرزها يتعلق حينذاك بالأصلاح الزراعي، وأطلاق الحريات النقابية للعمال والمهنيين، وتقليص نفوذ رجال الدين عبر قانون تقدمي للأحوال الشخصية، يحد من المعاملة المجحفة للنساء. أي توجهات تتعلق بالقاعدة الجماهيرية الأوسع الفلاحين والعمال والنساء.
و لم يكن اقتراب قاسم من الشيوعيين إعجابا بسواد عيونهم، أو ميلا لتوجهاتهم الفكرية والسياسية، بل وقفت وراءه أسباب تكتيكية، لعل أهمها الإستفادة من قاعدتهم الجماهيرية، ونقل تأييدها من الشيوعيين اليه. لكن ذلك أدى من جانب آخر الى خلق حالة من الوهم لدى البسطاء بأن قاسم والشيوعيين شيء واحد، فتدفقوا بعشرات الآلاف الى المنظمات الجماهيرية التي أنشأها الحزب الشيوعي مثل اتحادات الشبيبة والطلبة والعمال والجمعيات الفلاحية ورابطة المرأة وغيرها كثير، ولكن أخطرها كان ميليشيا المقاومة الشعبية.
ولم يكن ذلك ليضير "الزعيم الأوحد"، الذي عقد العزم على الأستفادة من ذلك الإلتباس، ومن تلك المنظمات في صراعه ضد التيار القومي، وضد الإقطاع المدعوم من رجال الدين، ثم معالجة أمرها وتصفيتها، عندما انتهاء مهمتها في دعم الزعيم ضد خصومه القوميين.
وهنا يصعب القطع بان قاسم كان خلواً من أي تعاطف مع المهمشين والمعدمين في المجتمع العراقي، وان تدابير الإصلاح الأجتماعي التي اعتمدها لا مبعث لها سوى خلق قاعدة جماهيرية، توطد زعامته المطلقة، وتكون له جيشا في مواجهة مخاطر التيار القومي الذي أصر على سرعة الأندماج بالجمهورية العربية المتحدة، يكون قاسم فيها، في أحسن الأحوال، مجرد موظف من موظفي عبدالناصر، في العراق، خاصة بعد تورط أقرب الأشخاص اليه بين الضباط الأحرار، ونائبه في قيادة القوات المسلحة ورئاسة الحكومة عبدالسلام عارف بدأ ومنذ الأسابيع الأولى لقيام الجمهورية بالترويج لفكرة (( اننا جنود لأخينا الكبير جمال ))،. وتكرارة الحديث، في التحشدات الجماهيرية التي كان يقيمها التيار القومي، لا عن مستقبل الجمهورية العراقية، بل عن اندماج العراق في الجمهورية العربية المتحدة بقيادة ناصر.
ربما أضمر قاسم تعاطفا حقيقيا مع المحرومين لكن الرغبة في انصافهم تحتل بالتأكيد المركز الثاني أو حتى الثالث وربما السادس بين الدوافع التي حملته على الشروع في تلك الإصلاحات، والتي تخلى عن بعضها، أو ضيق العمل بها في أوقات لاحقة.
التناقض بين التيارين القومي واليساري كان طبيعيا، وربما كان يمكن حله بحوار سلمي يأخذ معطيات الواقع بعين الأعتبار، من خلال التوافق على أن الوحدة العربية هدف وسيرورة تأريخية يمن أنجازها طردا مع نضوج مستلزماتها على الصعد السياسية المحلية والأقليمية والدولية، وكذلك مستلزماتها الأقتصادية ومعالجة الجوانب المتعلقة بالتنوع القومي في المجتمع العراقي وغيره من المجتمعات العربية الأخرى، وغير ذلك من جوانب التباين الطبيعي بين تلك المجتمعات. لكن ميل التيار القومي الى الأساليب الأنقلابية، التي غذاها النصر السهل نسبيا في الرابع عشر من تموز، ونجاح عبدالناصر في مصر أوجد لدى ذلك التيار، ميلا الى اعتماد العنف، والإنخراط في طريق التآمر لحل الخلافات السياسية، وسرع في عملية الاستقطاب على مستوى الحكم والمؤسسة العسكرية والشارع، الذي صارت تتحكم به أحزاب سياسية، حديثة عهد بالعمل السياسي العلني.
. في غضون ذلك كان قاسم يكرر على نحو لا ينقطع انه " فوق الميول والإتجاهات " وكان محقاً في ذلك، لأن رغبته الحقيقية كانت في ان تتوحد الميول والاتجاهات في مجرى واحد يرسمّه (( زعيما أوحدا، أميناً وخالداً، للجمهورية العراقية الخالدة ))، وعبرت عن هذه الرغبة مقدمة برنامج إذاعي يومي، يعيد خطب وأحاديث قاسم تحت عنوان: (( أقوال الزعيم )) وكانت تلك المقدمة تقول تقول: (( أقوال الزعيم تنير الدرب للعاملين المخلصين )) وهي مقدمة غاية في الدهاء، تتهم ضمنا من لا (( يهتدي )) بأقوال "أبن الشعب البار" بعدم الإخلاص، أي بالخيانة.
لكن لا الوقت ولا الكفاءة السياسية اسعفا قاسم في تحقيق رغبته تلك، التي ربما كان سيساعد فيها، نجاحه في بلورة وتكوين تيار سياسي شعبي، يرتبط به مباشرة، ويقدم له الدعم في مواجهة رفاقه الألداء في المؤسسة العسكرية، ولذلك كان عليه أن يوحي للتيارين المتصارعين بأنه فوق الميول والأتجاهات، وأن يترجم ذلك بالمحافظة على حالة من التوازن بين التيارين اليساري والقومي، عبر تأجيج الصراع بينهما بما يضعفهما دون أن يفضي الى دحر أي طرف منهما ويقوي الآخر. ليتمكن هو من الأنفراد بالسيطرة على جميع مفاصل السلطة. لكن نتيجة هذا التكتيك الذي أثبت أنقلاب شباط 1963 فشله التام، كانت تأصيل الحقد والكراهية المتبادلة بين التيارين وجمهوريهما، وأضعاف الجهة التي كان بأمكانها الدفاع عن نظامه، وتوفير مستلزمات النجاح للجهة التي تربصت به وحاولت إغتياله والأنقلاب عليه أكثر من مرة.
وربما كان السبب الرئيسي في فشل تكتيك قاسم، عدم أخذه في الأعتبار، توازن القوى في المؤسسة العسكرية، والذي أختل تماما لصالح إعدائه، بعد قراراته بإبعاد القيادات العسكرية الشيوعية أو الميالة للحزب الشيوعي، والتي سبق وأن شاركت في دحر أنقلاب الشواف، وعدم إكتفائه بذلك بل قام أيضا بزج بعض من تلك القيادات في السجون. فيما أعاد الى الخدمة العسكرية، ضباطا سبق لهم التآمر عليه، من بينهم صالح مهدي عماش الذي عين مساعدا لقائد القوة الجوية جلال الأوقاتي، مما ساعده على مد شركائه الأنقلابيين بكل تحركات قائده اليساري، وربما بعض أسراره، وسهل عملية إغتياله، التي شكلت عاملا أساسيا في نجاح الأنقلاب. أمر كتب النهاية المأساوية لقاسم ولتجربته في بناء حكم فردي غير مسنود من قوة سياسية.