رغم بلوغه ال 99 عاماً، إلا إن وزير الخارجية الأميركي الأسبق مازال يملك طاقة ذهنية وفكرية متقدة، لعل آخر تجلياتها ما طرحه من أفكار لافتة لحل الأزمة الأوكرانية في منتدى دافوس الأخير، وقد تميزت بقدر معقول من الواقعية السياسية، بل يمكن وصف مقترحاته بمجملها بأنها أشبه بالمبادرة، لولا أنها صادرة عنه بصفته مراقباً سياسياً لا بصفته وسيطاً، ويمكن تلخيص أهم ثلاث نقاط رئيسية على النحو التالي : 

1-يجب الشروع في المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني خلال الشهرين القادمين (حزيران الجاري وتموز المقبل) قبل أن تستفحل الأزمة إلى مالا يُحمد عقباه، لأن مسار الحرب سيتحول بعدئذ - حسب توقعه- إلى حرب مباشرة ضد روسيا، وليس لتحرير أوكرانيا.

2-يجب على أوكرانيا التخلي عن جزء من أراضيها لروسيا (أي ما يمكننا تسميتها بالتنازلات المؤلمة).

3-يجب على أوكرانيا التنازل عن شبه جزيرة القرم لروسيا. 

وفيما يشبه التحذير من فكرة عزل روسيا عن اُوروبا، ذكّر كيسنجر الغرب بأنها تنتمي إلى اوروبا منذ أربعة قرون (بمعنى تاريخ وجوده القوي على الساحة الاوروبية) وأن روسيا كانت القوة الوازنة خلال الصراعات والحروب في القارة العجوز، ويضيف ما معناه: ينبغي عدم التطرف في العداء الشديد لروسيا، أو الانسياق لشهوة هزيمتها بشكل مذل كامل.  

وفي تقديرنا أن تلك الأفكار  لم يطلقها كيسنجر جزافاً على عواهنها، بل مستنداً على دراسة شاملة بعيدة النظر من قِبله لجميع جوانبها، لاسيما وأنه يتمتع بخبرة دبلوماسية عريقة، ناهيك عن دوره التنظيري في رسم السياسة الخارجية لبلاده، فضلاً عن خبرته التفاوضية في المسائل الشائكة، سواء المتعلق منها بمصالح بلاده الكونية الاستعمارية أو بحلفائها في العالم، ومن ثم فلم يأتِ تلقيبه ب " ثعلب السياسة الأميركية" من فراغ، ونحن نتذكر جيداً شهرته المدوية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي حيث عُرف بسياسة " الخطوة خطوة" التي أستدرج مصر الساداتية إليها لتقديم تنازلات هائلة لإسرائيل، وكذلك دوره في تحقيق التقارب بين بلاده والصين الشعبية في الفترة نفسها.  أما أندريه جروميكو- وزير الخارجية السوفييتي الأشهر في تاريخ الدبلوماسية السوفييتية- فقد خصص له ما يقرب من فصل كامل في مذكراته، فقد وصفه في سياق انتقادي لسياساته وأسلوبه التفاوضي بأنه إنسان كفؤ جداً ويملك خبرة لا يٌستهان بها في الشؤون الخارجة، وبوسعه إيجاد خيارات وبدائل مختلفة لحل الأزمات والقضايا (أندريه جروميكو، من الذاكرة، الجزء الثاني ص472).   

ولما كان جزء من تعقيدات الأزمة الأوكرانية ناجماً عن حقيقة أن أوكرانيا نفسها منقسمة على نفسها إلى قسمين : الأول:  شرق وجنوب وسكانه أقرب إلى روح الثقافة الروسية، والثاني:  وسط وغرب ووسط وسكانه أقرب إلى النزعة القومية التي تخلو من التطرف الشوفيني والنازي لدى شرائح الشباب الموالية للغرب، فإن مبادرة كيسنجر تتمتع -كما ذكرنا- بقدر معقول من مقومات الواقعية، التي تلبي مصالح كلا الجزئين ما ينبغي أيضاً تبنيها من قِبل الجانبين الروسي والأوكراني بمقاربة تتقاطع معها، وهذا لن يحصل للأسف في الأمد القريب ما دامت كييف تراهن على إمدادات التسلح الغربية التي تهطل على أراضيها  بلا انقطاع، معتمدة في ذلك على جيشها البسيط. ونخشى ألا تحدث مبادرة ذات مقاربة مع رؤية كيسنجر للحل إلا بعد فوات الأوان، بعد أن يأخذ التدمير أقصى مداه الكارثي في أوكرانيا، وحيث لن تستثني خسائر الحرب عندها الجانب الروسي، وإن بشكل أقل باعتباره الطرف الأقوى. 

ولعل تكثيف الضغوط من قِبل التيار العقلاني في كلا الجانبين، وبدعم من كل القوى المحبة للسلام فيهما وفي العالم، وكل القوى التي لها مصلحة في أنهاء التورط الأميركي في أوكرانيا هو الذي سيوقف الحرب النزيف التي طال أمدها.