يقال أن العالم عاد إدراجه الى حقبة الحرب الباردة التي بادر لها الغرب ضد الاتحاد السوفييتي ومناطق نفوذه، بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية. لكن ثمة أختلاف جوهري، من حيث الدوافع والأهداف، بين تلك الحرب التي أنتهت منذ أكثر من ثلاثين عاما بسقوط جدار برلين، وبين الحرب الحالية التي تدور رحاها اليوم على الأراضي الأوكرانية.

 الحرب الباردة التي بدأت أواسط أربعينات القرن الماضي كانت دوافعها إيديولوجية، سعى الغرب من خلالها إلى إجهاض تعميم النظام الإشتراكي الذي كان قائما في الاتحاد السوفييتي، وفي أرجاء أخرى من العالم، فيما سعى الإتحاد السوفييتي من جانبه إلى تقويض العلاقات الرأسمالية التي تقوم عليها الأنظمة الأمبريالية في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأستعمارية، وقد تصدت الولايات المتحدة في تلك الحرب، لقيادة المعسكر الغربي بعد أنحسار السلطة الكولنيالية المباشرة للأمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، في مناطق نفوذهما في أسيا وأفريقيا، مع نشوء حركات تحرر في أكثر من بلد من بلدان القارتين.

 الاتحاد السوفييتي دعم الحركات المذكورة في مسعى للتأثير عليها لتبني النموذج الإشتراكي الذي يبشر به، وشكل أنتصار الشيوعيين في أكبر بلدان العالم، من حيث عدد السكان، وتأسيسهم لجمهورية الصين الشعبية صدمة كبرى للمعسكر الغربي، الذي تلبسته الخشية من أحتمال فشله في استبدال سلطته الكولونيالية، بسلطة استعمارية جديدة، تحافظ على مصالح الغرب، وشروط التعامل الأقتصادي والسياسي والثقافي غير العادلة، مع البلدان التي أنحسرت عنها سلطة الكولونيال المباشرة.

 ومع تطوير الاتحاد السوفييتي لسلاح الردع النووي، تأكد الغرب أن حربا مباشرة لتغيير النظام الأشتراكي فيه سيكون ثمنها تدمير العالم، بسبب العامل النووي. فكان لابد من أيجاد أوضاع تمكّن من خوض حروب غير مباشرة معه في بقاع بعيدة عنه. وكان الاتحاد السوفييتي، من جانبه، مستعدا لخوض مثل هذه الحرب، التي أعتقد كلا الطرفين فيها، أنه قادر على الخروج منها بنصر يعزز جبهته. وبسبب النصر الصيني في شرق أسيا ركزت أمريكا وفرنسا على مواجهة حركتي التحرر في كوريا وفيتنام، وفي المقابل تدفقت مساعدات الإتحاد السوفيتي والصين على الحركتين، وأنهزمت فرنسا وتلتلها أمريكا في الهزيمة من تلك المنطقة.

 وأنتقلت بؤرة الصراع بعد ذلك الى الشرق الأوسط، حيث دعم الغرب حروب التوسع الأسرائيلية في فلسطين ومصر وسوريا، فيما وقف الاتحاد السوفييتي الى جانب العرب، في المقابل وجد الغرب في ممالك ومشيخات الخليج أتباع فاعلون في الصراع ضد فصائل التحرر العربي التي حظيت هي الأخرى بدعم متفاوت المستويات من جانب موسكو الأشتراكية.

 وأمتد الصراع الى أمريكا الجنوبية، وتحديدا الى كوبا التي أصبحت تحت قيادة كاسترو، خنجرا سوفييتيا في خاصرة الولايات المتحدة، ففرضت واشنطن عليها حصارا بحريا، قاد في النهاية إلى أزمة الصواريخ النووية، التي أنتهت بموافقة واشنطن على التوقف عن السعي الى استخدام القوة في تغيير النظام الإشتراكي في كوبا، مقابل سحب الصورايخ النووية السوفييتية من الأراضي الكوبية. لكن المنازلة الأخيرة بين القوتين والتي دارت في أفغانستان، واستخدمت فيها أمريكا (( المجاهدين الأفغان )) والمال الخليجي أفضت الى خسارة الاتحاد السوفييتي، وقادت ــ إلى جانب عوامل أخرى ــ إلى تفككه.

الحرب الباردة الأولى كانت إذن ذات دوافع وأهداف أيديولوجية، سعت، عبرها، أمريكا وحلفاوها إلى وقف تمدد العلاقات الأشتراكية التي تهدد النظام الرسمالي، مقابل الجهد الذي بذله الاتحاد السوفييتي لتقويض ذلك النظام. وكانت تخاض بين المعسكرين خارج أراضيهما. وأنتهت كما أشرنا بانهيار النظام الأشتراكي في موسكو، وتفكك الإتحاد السوفييتي، وتخلي وريثته روسيا الإتحادية عن الإشتراكية، وانتقال الحزب الشيوعي الذي يحكم الصين، الى تبني العلاقات الرأسمالية في التنمية. وبغياب الدافع الإيديولوجي عاد الصراع إدراجه الى ما قبل الحقبة الأشتراكية المؤودة، متحولا الى صراع مصالح بين الطقب الدولي الذي يتحكم حاليا بالسياسية العالمية في جميع مناحيها، وهو الولايات المتحدة، والبلدان المرتبطة بها من خلال الأقتصاد الرأسمالي المعولم، وقوتين كبيرتين عادتا الى الحضيرة الرأسمالية، وتطمحان الى نظام عالمي جديد تتعد فيه الأقطاب.

 ويحكم الصراع الحالي ذات العامل الذي ألجأ الطرفين المتصارعين في الحرب الباردة الى تجنب الصدام المباشر، وهو العامل النووي. وهذا ما حمل أمريكا على أختيار بؤر للصراع قريبة من الخصم وبعيدة عنهأ. وأختير المكانان بعناية فائقة: أوكرانيا ذات العلاقات التأريخية والمعقدة مع روسيا، وتايوان التي تقر أمريكا بأنها صينية، لكنها تعيق إعادة توحيدها مع الصين.

 لا اختلاف إيديولوجي بين أطراف الحرب القائمة في أوكرانيا، ولا تلك المتوقعة في تايوان، جميع أطرف الصراع ينطلقون من قاعدة أيديولوجية واحدة هي العلاقات الرأسمالية، ويكمن في أساسها التنافس والصراع على الربح ومناطق النفوذ، باستخدام كل الأساليب من المناورة والتآمر إلى العنف بكل أشكاله. بغض النظر عن الكلفة الإنسانية الكارثية لهذه الأساليب.

 السؤال المهم في الوضع الراهن هو بلا ريب: ما دام الصراع يجري في معسكر واحد فهل معنى ذلك أن نتيجته واحدة، على البلدان والمجتمعات الأخرى، بغض النظر عن المنتصر فيه؟

 هنا يتعين علينا العودة الى أسباب الصراع. وأذا كنا متفقين على أن ما يحرك الطرفين ـ روسيا وأمريكا ـ هو سعي كل طرف الى تغيير معادلة الربح والخسارة لصالحة، فيتعين علينا التعرف إلى حال ميزان القوة الذي رأت روسيا ضرورة تغييرة، كونه لا يتيح لها الحصول على ما ترى أنها تستحقه من مصالح ونفوذ على الساحة الدولية أقتصاديا وسياسيا.

 ميزان القوة كان وما يزال في صالح الولايات المتحدة، رغم بروز وتنامي قوى روسيا والصين والأتحاد الأوربي، وكان الطرفان الأولان يعبران علنا عن عدم رضاهما عن تفرد واشنطن في تقرير مسارات الحياة الاقتصادية والسياسية في العالم وسعيها الى الحد من نموهما ونفوذهما بكل السبل، بما فيها العقوبات التي لا تستند الى قواعد وأعراف العلاقات الدولية، فهي على سبيل المثال مستعدة للدخول في صراعات سلمية حينا وعنيفة أحيانا أخرى للدفاع عن ما تصفه بحرية التجارة والتبادل التجاري، ومعاقبة من يعيقها، وهي في ذات الوقت تضع العوائق التجارية أمام الصين وروسيا، وحتى أمام الاتحاد الأوربي، وكانت تنظر بريبة الى دعوات فرنسية سابقة لتشكيل منظومة دفاعية أوربية مستقلة عن حلف الناتو الذي تهيمن عليه. ولم تخف واشنطن دعمها لعملية أضعاف الاتحاد الأوربي بسلخ بريطانيا منه، لكي لا يشكل قوة منافسة، تضاف الى قوتي الصين وروسيا.

 وكانت الولايات المتحدة قلقة على دورها كلاعب مقرر وحيد في السياسية والأقتصاد العالميين، وفي معالجتها لذلك القلق كانت تستخدم الناتو عسكريا، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي أقتصاديا، كقوتين تقرران مصائر بلدان العالم الأخرى، الأولى كيد ضاربة لبسط النفوذ السياسي، والثانية لمعالجة أزماتها الأقتصادية، من خلال موقع الدولار والتحكم في حركته صعودا وهبوطا بما يتناسب مع حاجتها، دون أدنى اكتراث بانكاسات تلك الحركة على المصائر الأقتصادية للبلدان الأخرى.

 تناقض المصالح بين الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوربي، كبحته، الشراكات الرأسمالية الكبرى بين الطرفين من خلال الشركات الكبرى متعددة الجنسية والعابرة للحدود الوطنية. ولم يكن مثل هذا الكابح على ذات المستوى من الفاعلية حين يتعلق الأمر بالعلاقات الروسية ـ الأمريكية، والعلاقات الصينية ـ الأمريكية، وهذا ما جعل التناقضات تبرز على نحو أكثر حدة في علاقات روسيا والصين مع الولايات المتحدة.

 تفرد الولايات المتحدة في تقرير مصائر العالم، مكنها من ان تعيد تدوير الأزمات السياسية والأقتصادية، في مختلف قارات العالم بما يلائم مصالحها، ويتعارض مع مصالح القوى الأخرى الثلاث المنافسة. وقد برز ذلك على نحو سافر في إفشال واشنطن لصفقة الغواصات الأسترالية ـ الفرنسية. وتحويل قيمتها البالغة 54 مليار دولار الى خزائن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.

 وبالعودة الى موضوعنا ـ الصراع الدائر حاليا في أوكرانيا ـ سيكون واضحا، أن أنتصار أمريكا فيه يعني أستمرار تفردها في التحكم بالوضع العالمي، بذات الطريقة التي لا تعير اهتماما لمصالح الأخرين، سواء كانوا في معسكر من تصنفهم كخصوم، أو معسكر من توحي لهم بأنهم حلفاء. أما لو نجح بوتين في مغامرته، فسيتعين على أمريكا القبول باحترام مصالح الأخرين، وسيوفر تقلص الهيمنة الأمريكية، مجالا أرحب للبلدان الأقل تطورا، للمناورة الأقتصادية والسياسية التي ضيقتها واشنطن الى أبعد الحدود، وتتطلع الى القضاء المبرم على فرصها، وربما يشكل موقف بلدان الخليج ومصر من الأزمة الحالية، والذي لم يستجب تماما لرغبات إن لم نقل إملاءات واشنطن، دليلا على ذلك.