منذ ثلاثة شهور ونيف والعراق يشهد موجات متعاقبة من العواصف الترابية، ولعلها من حيث شدتها وطولها الزمني تُعد الأسوأ في تاريخه الحديث، لما ترتب عليها من أضرار فادحة في مختلف مناحي الحياة ، لاسيما الصحية والزراعية، وبالطبع -كما في كل الكوارث الطبيعية - فإن الفقراء والمعدمين وعامة الكادحين هم الأكثر تضرراً منها .ولئن عُرفت الأمطار و المياه الطبيعية الأخرى  التي تتغذى منها الزراعة، فإن هذه الأخيرة -عدا دورها في تلطيف الجو-تُغد بمثابة مصدات طبيعية لتخفيف العواصف الغبارية. والمفارقة المدهشة أن تحدث تلك العواصف المتواصلة في بلد أرتبط تاريخيا بتسميتين جميلتين كلتاهما ذات دلالة: الأولى "بلاد الرافدين" في إشارة إلى نهريه العظيمين " دجلة والفرات"، والثانية" أرض السواد"، كناية عن كثرة مساحاته الخضراء، لاسيما غابات النخيل التي كانت إلى عهد قريب لا مثيل لكثافتها وعددها في العالم. بيد أن تينك التسميتين بات ذكر أي منهما اليوم يثير في النفس لوعة وغصة؛ بالنظر إلى المآل البيئي الكارثي الذي آل إليه العراق جراء تضافر عوامل طبيعية وبشرية - سياسية مجتمعة. ويتمثل  " العامل السياسي" على وجه الخصوص في الحصاد المتراكم  من فساد ولا مبالاة الأنظمة الدكتاتورية المتتالية بالزراعة ومصادر المياه، وصولاً إلى الحكومات المتعاقبة التي التي ظلت تحتكر السلطة بُعيد الاحتلال الأميركي منذ نحو عقدين مستفيدة من عرف المحاصصة المقيت،  وهكذا  فلا "الرافدين" غدا على وضعهما البيئي الطبيعي المعهود تاريخياً؛ جراء انخفاض منسوبهما المائي وتفاقم تلوثهما، ولا " أرض السواد" بقيت على حالها كما كانت بعد ما تقلصت مساحاتها إلى أقل من مساحاتها الخضراء المعروفة تاريخياً، إن صح تقديرنا . 

مؤخراً تابعت فيديو قامت بتنزيله على اليوتيوب وكالة Step News، وقد تميز  بقدر معقول من الموضوعية في تحليله لمسببات عواصف العراق البيئية والسياسية، ولفت نظري في الفيديو الوصف الكتابي لمضمونه الذي جاء بهذه الصيغة :  " العراق لا يستطيع  التنفس…" والتي تذكرنا بالعبارة  الشهيرة التي أطلقها الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد "لا أستطيع التنفس"  أثناء جثوم شرطي أبيض بركبته على رقبته ما أفضى إلى مقتله، وقد تحولت عبارة فلويد بعدئذ شعاراً لحركة " حياة السود مهمة ”والتي رفعتها  في واحدة من أوسع الاحتجاجات الشعبية ضد العنصرية في التاريخ الأميركي بُعيد مقتل فلويد ،وذلك لما لعبارته الإستغاثية من دلالة مجازية للتعبير عن خنق حريات التعبير والحقوق المدنية، وتغييب مبدأ المساواة الذي لطالما تتباهى  به النظام الرأسمالي الأميركي كنص دستوري، لكنه ظل في الغالب غير مطبق بالكامل في الواقع العملي. وبموازاة تلك العواصف الغبارية التي تأخذ بخناق الشعب العراقي ، ها هو ذا نوع آخر من العواصف تخنق حقوقه المدنية الشخصي، وقد برعت في التحريض عليها  قوى الإسلام السياسي هادفة بذلك  إلى فرض ثقافة شمولية واحدة على بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب مفصلة على مفهومها الأحادي الضيق للدين، دون مبالاة منها بأنه حتى داخل المكون الواحد ثمة تعددية ثقافية مدنية، يل وتعددية وحتى في مفهوم وتطبيق الإسلام.

 ولعل آخر حلقة في سلسلة تلك العواصف المتوالية، ما أثارته مؤخراً تلك القوى من ضجة "تفسيقية" بحق حفل طلبة وطالبات خريجي كلية الرياضة في " جامعة بابل" بمدينة الحلة القريبة من النجف الأشرف، حيث تعمد بعضهم تهويل الأمر فوصفه بأنه جرى بجوار مرقد الإمام على ( ع ) ما يشكل مساً بقدسية المرقد! وهذا مجافي للحقيقة حيث نُظم الحفل في ناحية تتبع مدينة الحلة لا النجف، بل وفي داخل حرم الجامعة الكبير، وبعلم إدارتها وعلم أولياء أمور الطلبة المسلمين الذين تابعت أغلبيتهم الحفل. كل ذلك لمجرد أن لحظة شعور عفوية بالفرحة العارمة بنجاحهم وتخرجهم أعترت الطلبة بُعيد ختام الحفل، فقام جمع منهم- كزملاء وزميلات دراسة طويلة - بالتعبير عن تلك المشاعر الفياضة بالرقص الغنائي المشترك، هذا بالرغم من ظهورهم بملابس طلابية عادية محتشمة. وواضح أن تلك الحملة لم تأتِ من فراغ إنما هي محاولة من قِبل قوى الإسلام السياسي وأتباعها من بعض الأوساط المحافظة -ذات الغلو الديني المتطرف- لتأجيج مشاعر الناس الدينية العادية بغية إلهائها عن مطالبها المعيشية والحقوقية الآنية والتي رفعتها في انتفاضة تشرين 2019 الشعبية المجيدة،  والتي  ما برحت أيضاً تقض مضاجعهم لإصرار  شبابها وشاباتها، فضلاً عن القوى  الوطنية والديمقراطية، على مطالب الانتفاضة، بل وبغية تغطية إفلاسها السياسي،  بعد ما ثبت تورطها في الفساد المزمن من الرأس إلى أخمص القدمين وانكشاف  عدم كفاءتها في السلطة عند السواد الأعظم من الشعب وذلك منذ نحو عشرين عاماً علي وجودها فيها تقريباً.

عرض مقالات: