العشيرة هي وحدة اجتماعية تعتبر امتداد للأسرة وتتميز بتسلسل قربى معين يتفق مع نظام سكني خاص ولذلك فان العشيرة هي وحدة مكانيه ويعتقد افراد العشيرة الواحدة في وجود جد مشترك امتدت العشيرة منه، وأحياناً يكونوا قد رسموا لذلك الجد في أذهانهم شخصية أسطورية. وموضوع القبيلة يُعتبر من القضايا ألهامه والحساسة في هذه الحقبة الزمنية من تاريخ المجتمع العراقي. وقد بقيت القبائل العراقية على مدى تاريخها جزءً من تركيبة المجتمع وتظهر عندما تضعف سلطة الدولة ويتلاشى تأثيرها بنفوذ الدولة فهي عصية الكسر لكل من يخالفها، وسبّاقه في مقاومة الظلم، ورقم صعب في المعادلة السياسية والعسكرية في حكم العراق منذ ثورة 30 حزيران عام 1920 التي قادتها عشائر الجنوب.
القبيلة في العراق لا تزال تشكل أساس البنية الاجتماعية ولا تزال بالتالي تنتج أشكال التعبير السياسي فيه والقبيلة في العراق نشأت في مجتمع تقليدي في تكوينه وسلوكه لاسيما في المناطق التي حافظت على عزلتها ولم تتلاقح مع الخارج "الأرياف" ومما عزز من محافظتها على كيانها القبلي استنادها إلى الدين كوظيفة حامية لأخلاقه وعاداته من غزو الحداثة والعصرنة التي تأتي على القبيلة مستعيضة عنها بكيانات لا تقوم على أساس الدين والأصالة وهو ما تدَّعيه القبيلة لنفسها وبالإضافة إلى ذلك فان الزعامات القبلية أدركت منذ البداية تركيبة المجتمعات العربية العشائرية وبشكل أساسي في العراق واليمن والاردن فجعلت من القبيلة عصبية، وهذا الإدراك الواقعي دفعها لنقل الثروة والقوة إلى ساحتها لتكون المصدر الأول للسلطة فحافظت بذلك على دخولها في مفاصل الحكم، وفي مسألة القبيلة وعلاقتها بالمجتمع المدني يبرز بوضوح التفاوت الكبير في طبيعة القبيلة. ودول الشرق الأوسط مرَّت بتغيرات جوهرية على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خلال القرن الماضي، وعلى الرغم من أن هذه التحولات كانت متباينة في تأثيرها من دولة إلى أخرى، إلا أن جميعها كانت في إطار بناء الدول الحديثة. وعلى الرغم من هذه التغيرات، إلاّ أن القبيلة/ العشيرة ما زالت مؤسسة أساسية في النظم الاجتماعية بالمنطقة، وعلى الأخص في اليمن والعراق والأردن. والعلاقات القبلية متشابكة ومرتبطة على مستوى عميق بالدولة والعلاقات السياسية، إذ يمارس شيوخ القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة تأثيراَ واسعاَ على القرارات السياسية. وبالنتيجة، فإن النظم السياسية في المجتمعات العشائرية حريصة على كسب دعم القبائل والحفاظ عليه، بسبل تتضمن تمكين ممثلين سياسيين للقبائل الأكبر والأكثر تأثيراَ، من ممارسة التأثير على السياسة.
وفي العراق فإن غزو قوات التحالف، أدى إلى توفير تربة خصبة لإنعاش مؤسسة العشيرة إضافة إلى الطائفية والعرقية وغيرها من التكوينات. وتفاقم الخلاف حول توزيع السلطة بين الجماعات العرقية والدينية والمذهبية العراقية الثلاث الكبرى: الشيعة والسنة والأكراد، في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وزاد من تعقيد الجهود الرامية لإرساء الاستقرار والمؤسسات السياسية السليمة في العراق. وتبرز القبيلة والعشيرة كَبُنا اجتماعية فاعلة ومقررة وليست مجرد تشكيلات تنتمي إلى الماضي فبُنيَة القبيلة الاجتماعية تُشكل السمة المميزة للتركيب الاجتماعي، وفاعليتها لا ترتبط بالسلوك الفردي فحسب بل بالسلوك الجمعي أيضا وضمن مجالات الفعل السياسي والاجتماعي وتُعَد الأسرة الممتدة هي القاعدة العريضة التي تتكون منها القبيلة، وتُشكل الرابطة القبلية العامل الرئيس والأكثر أهميه في البناء القبلي. والعشيرة كرابطة دم اسرية ليست عبء على المجتمعات الحضارية، بالعكس تماماً فهي تُعد البنية الاساس لها، ومن خلالها يتم توطيد العلاقات الاجتماعية وتظهر معالم الادوار القيادية والتي يمكن استنباطها واستغلالها في العمل المؤسساتي، بالطبع ليس على اساس العشيرة واسمها، وانما وفق معطيات الاداء الذي تقوم به بعض الفئات داخل العشيرة وذلك بعد تقييمها وفق معايير خاصة تخدم المصلحة العامة، ولكن العبء الاساسي الذي تنتجه العشيرة هو حين تتحول اواصرها الى توجهات قبلية ذات حَميَّة عصبية لتصبح بذلك صاحبة تطلعات خارجة عن النطاق التنافسي القانوني، فتحاول فرض نفسها بالقوة، وذلك ما يولِّد ردة فعل سلبية من عشائر اخرى، فينتج عن ذلك اجمالا قوى تلبس رداء الوطنية وهي في الاساس تقوض العملية التحررية الوطنية وتجعلها تسير وفق مصالحها الخاصة، واهدافها العشائرية المسيسة سواءً ضد الاتجاهات العشائرية المنافسة او لجعل مملكتها الحزبية العشائرية محصنة من اية اختراقات قد تضعفها، بالطبع هذا كله على حساب الشعب وعلى حساب القضايا القومية الوطنية الاساسية.
فمن باب حرصنا على تنمية المجتمع وتطوره. نقول هناك فرق بين أن نتماها كلياً مع الظاهرة في سلبها وإيجابها، وبين أن تدرس هذه الظاهرة ونتخذ منها موقفاً (عقلانيا)، تراعي فيه خصوصيات الواقع الذي أنتجها، وما مدى استجابة هذا الواقع لها ولمُفرِزاتها، ثم ما هي الجوانب السلبية الكامنة فيها، والتي يجب محاربتها والعمل على إقصائها مادياً ومعنويا من جسم المجتمع وتفكيره، وما هي الجوانب الايجابية أيضاً التي يمكن استثمارها في هذه الظاهرة – العشائرية- من أجل تنمية المجتمع، وبالتالي تطوره بالضرورة.
وانطلاقا من الموقف العلمي والعقلاني في التحليل، أي انطلاقا من الظروف الاقتصادية والاجتماعية في التحليل، إن ظاهرة العشيرة والقبيلة في مجتمعنا العربي عموماً ومجتمعنا العراقي خصوصاً، هي من إحدى الظواهر الأساسية التي يتكون منها المجتمع، إن لم نقل إنها الظاهرة الأكثر حضورا التي تُشكل البنية الاجتماعية والذهنية للمواطن العربي، فمجتمعنا ، ومعظم ما نراه من ممارسات في نطاق مجتمعنا العربي يشير ويؤكد على دور العشيرة في انتاجها ، بالرغم من التحولات الكبيرة التي تمت في بنية هذه المستويات كافة، والتي نجزم تماما أنها – أي التحولات – قد لامست في واقع أمرها الشكل أكثر من المضمون، فما حدث من تطور في بنية المجتمع، لم يتحقق بعد في جوهر هذا المجتمع ، أي لم يصل بعد أو يتسرب إلى سلوكيات الفرد والمجتمع، الأمر الذي خلق حالة من الانفصام ما بين شكل المجتمع، الذي يدل على التمدين والعمران، وبين جوهره الذي لم تزل تعيش فيه عقلية العادات والتقاليد الفاسدة . والحكم الديمقراطي اليوم يقوم على مجالس نيابية وأعضاء مجلس النواب من نخب المجتمع المنتخبين، وبذلك يحق لشيوخ العشائر أن يكونوا من النخب طالما هم موجودون ومستشارون وطالما القبيلة مكوِّن من مكونات الدولة وممثل من الممثلين الشرعيين لهذا الشعب، فهم نخبة، اختارهم الناس، ليس فيها أي تناقض.
ولم يصل العراق إلى مرحلة التعامل الرسمي بين الدولة وبين القبيلة، لم نصل إلى مرحلة اعتراف الدولة، بوجود القبيلة كمكون من مكوناتها، وهنا يكون الخطأ والأسباب في الوقت الحاضر أسباب خارجية، وأستغرب للهجمة الكبيرة التي يشنها الغرب على القبيلة في مجتمعاتنا ، قد يكون مرجعها إلى أن القبيلة تمثل أفراد الشعب في المعنى الثاني وهو السلطة والتي قد تقف في الوقت الحالي ضد مخططات الغرب ،كسلطة إذا ما كان هناك انحلال والدولة رضيت عنه فالقبيلة تقاومه وهي مكون من مكوناتها، إذا الدولة يربطها بالفرد عقد تُمثِّل الشعب في تحقيق رغباته الحقيقية وحاولت أن تسير في غير هذا الاتجاه قد يضطر الفرد أن يستخدم القبيلة والاحزاب السياسية لثني الدولة عن السير في هذا المجال.
بن خلدون يرى "ان من اهم خصائص المجتمع البشري هو التضامن الاجتماعي والذي ينشأ نتيجة للضرورة اذ لا يستطيع الفرد في الطبيعة ان يحيا بمفرده ما لم يكن في رفقة الاخرين لعدم قدرته على صنع او انتاج كل ما يحتاجه من الأدوات والسلع ولكي يضمن الفرد إدامة نوعه وحصوله على السلاح والغذاء لابد ان يتعاون مع أبناء جنسه غير ان التعاون هذا يؤدي أيضا الى اتساع حاجة المجتمع الى استحداث الضوابط التي تحول دون قيام النزاع بين الافراد بحكم وجود الطبيعة العدوانية للإنسان، فالأسلحة التي تصبح في متناول افراد المجتمع تؤمن حمايتهم من الأخطار التي قد تواجههم، لكنها لا تكفل حمايتهم من اعتداء بعضهم على بعض، كما لا تصلح ان تكون ضابطا لسيطرة الزعامة عليهم مادامت في حوزتهم جميعا والى جانب ذلك فان الضبط الاجتماعي لا يمكن توفيره عن طريق الحيوانات لقصورها من الناحية العقلية، وعلى هذا فليس للمجتمع إلاّ ان يحصر سلطة الضبط بيد شخص واحد ليتولى حماية الافراد من بطش بعضهم لبعض" (1).
ويعاني مجتمعنا اليوم من تناقضات وصراعات جعلته يعيش فراغاً امنيا وثقافياً واضحاً اخترق وتسرَّب إلى جميع مناحي الحياة مما أدى إلى انهيار الامن الداخلي والثقافي لأفراده اذ إن سلامة المجتمع وقوة بنيانه ومدى تقدمه وازدهاره وتماسكه مرتبط بسلامة وقوة تماسك وولاء افراده للعشيرة التي ينتمي لها، اذ ان الفرد داخل المجتمع هو صانع المستقبل وهو المحور والمركز والهدف والغاية المنشودة، أما ما حول هذا الفرد من إنجازات وتخطيطات ليست أكثر من تقدير لمدى فعالية هذا الفرد، ولهذا فإن المجتمع الواعي هو الذي يضع نصب عينه قبل اهتماماته بالإنجازات والمشاريع المادية الفرد كأساس لازدهاره وتقدمه الاجتماعي، وحتى يكون هذا الفرد عضواً بارزاً في تحقيق التقدم الاجتماعي لا بد من الاهتمام بتنشئته الاجتماعية.
------------------------------
. د. غني ناصر حسين القريشي: الضبط الاجتماعي، ط1، دار صفاء، عمان، 2011، ص202. 1-