تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدم التفريط بنتائج أنتصارها في الحرب الباردة، والتي تمثلت باستفرادها بموقع القوة العالمية الأعظم، عقب تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وتجهد في الحيلولة دون بروز أطراف قوية أخرى تهدد نظام آحادية القطب، الذي حول العالم من أقصاه إلى أقصاه الى مجال حيوي لواشنطن، تديره وتنفرد في تقرير مصير كل جزء فيه.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد عملت ما في وسعها للنهوض باقتصاديات بلدان غرب أوربا، خلال فترة الحرب الباردة، للأستعانة بها في الصراع مع نقيضها الإيديولوجي، الإتحاد السوفييتي، عبر إبراز إفضليات النظام الرأسمالي، فأن موقفها من تحول وريثة الاتحاد السوفييتي، روسيا الإتحادية، إلى النظام الرأسمالي، قد أختلف تماما، إذ أن النجاحات الأقتصادية التي حققتها الصين، في عملية الأنتقال ألى نظام أقتصاد السوق، وما أفرزته تلك النجاحات من تعاظم لدور بكين السياسي على الساحة الدولية، قد نبه الجهات المسؤولة عن وضع الإستراتيجيات الأمريكية، إلى خطورة معاودة روسيا الرأسمالية، لعب دور المنافس القوي الذي يهدد آحادية القطب، خاصة وأنها قد تمكنت في أقل من عقدين من الزمن من أحتلال مركز متقدم نسبيا بين الأقتصادات العالمية، بعد الصعوبات الكارثية التي مرت بها خلال مرحلة الأنتقال من الأقتصاد الأشتراكي الموجه، إلى الأقتصاد الرأسمالي الحر. حيث أحتلت روسيا المركز الحادي عشر عالميا، وكانت في طريقها الى التسلق نحو ذرى أبعد، فيما لو ترك لها مجال المنافسة الحرة. ولا شك أن مراكز الأبحاث الأمريكية قد أنتبهت أيضا إلى أن القوة الأقتصادية الروسية مقرونة بقوتها العسكرية، والنووية منها بشكل خاص، الى جانب شساعة مساحتها الممتدة ما بين أوربا وأسيا، وثقلها الديموغرافي، ستمنحها أفضلية في المنافسة، وتجعل من عملية تحجيمها وأبقائها مجرد قوة إقليمية بلا طموحات عالمية، عملية غاية في الصعوبة إن لم تكن مستحيلة.
ووصل القلق الأمريكي ذروته مع توجه بلدان غرب أوربا، الحليفة لواشنطن، إلى الأعتماد على روسيا كمصدر أساسي للطاقة. كما أقلقها أن تتجه تركيا، حليفتها في الناتو، إلى أقتناء السلاح الروسي. وكلا الأمرين يعبران عن قوة روسيا أقتصاديا وعسكريا.

لكن العمل الأمريكي ضد ((الخطر الروسي)) قد سبق ذلك بسنوات عديدة، من خلال استدراج بلدان الاتحاد السوفييتي وحلف وارشو السابقين للأنضمام إلى حلف الناتو. ولم يفت هذا التوجه على إدارة فلاديمير بوتين، التي تأكدت أن توسيع الناتو، رغم غياب السبب الأيديولوجي لأنشائه، ولأنشاء حلف وارشو، له هدف واحد، هو محاصرة روسيا الرأسمالية وتهديدها، رغم تخليها عن الإشتراكية، وسعيها للحصول على مكان يتناسب مع أمكانتها في نادي الرأسماليين الكبار. لكن الكرملين رغم وقوفه على خلفيات السلوك الأمريكي، حاول إلتزام الحذر، والنأي عن أثارة حفيظة البيت الأبيض. حتى وصل الأمر إلى أوكرانيا.
وبألم ممض تابع الكرملين في شباط 2014، ضلوع جو بايدن، الذي كان نائبا للرئيس الأمريكي حينها، والسناتور جون ماكين ومندوبة أمريكا السابقة في الناتو، فيكتوريا نولاند التي كانت انذاك مساعدة لوزير الخارجية السابق للشؤون الأوروبية الآسيوية، ضلوعهم المباشر في ما أعتبرته موسكو أنقلابا ضد الرئيس الأوكراني المنتخب ديمقراطيا، والموالي لها، فيكتور يانوكوفيتش، وتنصيب حكومة من اليمينين المتطرف والعنصري، لأذلال روسيا، وروس أوكرانيا الذين يشكلون أغلبية سكانية في شرق أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم. والذين لم يعترفوا بالسلطة التي ألغت خصوصية هذه المناطق. وأعلنوا فك أرتباطهم بأوكرانيا، ونظموا في القرم أستفتاء أقر الأستقلال عن كييف، وطلب الألتحاق بالإتحاد الروسي. وكان لهم ما أرادوأ. فيما لم يعترف أحد بنتائج الأستفتاء الذي أجراه سكان شرق أوكرانيا الروس في أقليم الدونباس، والذي أسفر عن تشكيل إدارتين في دانتسك ولوغانسك أعلنت كل منهما أنها جمهورية مستقلة. ورغم أن الكرملين لم يعترف بالجمهوريتين، إلا أنه واصل دعمهما في وجه هجمات كييف العسكرية التي تواصلت طوال السنوات الثمان الماضية، بهدف إعادتهما قسرا الى الحظيرة الأوكرانية.

الغرب من جانبه لم يعترف بانفصال شبه جزيرة القرم، التي صارت روسية، ولا باستقلال جمهوريتي الدونباس. وسعى الى تشجيع حكام كييف على طلب الأنضمام إلى حلف الناتو، عبر استثارة أحلامهم بأستعادة المناطق الروسية المنفصلة، فأذا ما أنضموا إلى الناتو وشنوا حملة لاسترداد أو (( تحرير )) القرم لن يكون بإمكان موسكو صدهم، إذ يمكن حينها تفعيل الفصل الخامس من ميثاق الحلف الذي يعتبر الإعتداء على أحد أعضائه عدوانا على جميع الأعضاء، وسينهض لضرب روسيا.
ومع توجه أوكرانيا لطلب عضوية الناتو تأكد الكرملين أن الحلف يعد لشن حرب على روسيا تحت راية حق أوكرانيا في أستعادة القرم والدونباس، ورأي في ذلك خطرا وجوديا يستدعي التحرك، فعزز قواته في القرم، وحشد قوات أخرى على تخوم الدونباس. وحاول في ذات الوقت حل الموضوع سلميا، بمذكرة وجهها الى البيت الأبيض أكد فيها على مبدأ الأمن الجماعي، وأن أمن أي يطرف ينبغي أن لا يبنى على حساب طرف آخر، مشددا على أن ضم أوكرانيا للناتو يشكل تهديدا لأمنه، مطالبا بقائها محايدة، وبوقف تمدد الناتو على الحدود الروسية.

البيت الأبيض تعامل باستخفاف مع الهواجس الأمنية الروسية، واستثار لدى بلدان الناتو ما أسماه بحق الدول في أختيار الإنضمام إلى أي تكتل عسكري أو أقتصادي. ولم يكتف بذلك بل أشرك أوكرانيا مع بلدان الحلف في مناورات عسكرية بحرية وجوية على حدود القرم. أمر أوضح لموسكو أن واشنطن قد عزمت أمرها على المواجهة، بتحريك جارة روسيا الضعيفة أوكرانيا ضدها مدعومة بالناتو. وصار الأنتظار بالنسبة لموسكو موازيا للإنتحار. وإن كان لابد من المواجهة فمن فالأصوب والأأمن عدم ترك أمر المبادرة إليها في يد العدو. وكانت الخطوة الأولى إعتراف روسيا رسميا بجمهوريتي الدونباس، أردفتها سريعا الخطوة الثانية، غزو أوكرانيا لأرغامها على ((التنازل)) عن المطالبة باستعادتهما، والتخلي نهائيا وإلى الأبد عن فكرة الأستعانة بالناتو في شن حرب ضد روسيا لتحقيق ذلك.
وبغض النظر عن السيناريوهات التي تطور أو يمكن أن يتطور إليه الوضع، فان البيت الأبيض مطمئن إلى أن النتائج أيا كانت، ستكون في صالح مخططاته، لكبح الطموح الروسي الى النهوض مجددا كقوة عظمى تنافس القوة الأعظم، وتهدد نظام القطب الواحد. بغض النظر عن طبيعة النظام الأقتصادي أو التوجه الإيديولوجي السائد في روسيا، رأسماليا كان أو اشتراكيا. كما أن النتائج أيا كانت ستضعف الإتحاد الأوربي، كمنظومة، وكدول، كل دولة على حدة، وستزيد من تبيعية الإتحاد وأعضائة للبيت الأبيض. وسيلحق الأذى بالصين عبر إضعاف حليفها الموضوعي روسيا.

وبهذا المعنى فأن الصراع الدائر حاليا بين روسيا والأطلسي، هو في حقيقته صراع بين طرفين رأسماليين، روسيا وأمريكا، على الزعامة تسعى فيه واشنطن ترسيخ نظام أحادية القطب، وتحاول موسكو عبره العودة الى نظام الأقطاب المتعددة. وستخسر في هذا الصراع كل الأطراف التي جرت إليه كرها أو إستغفالا، وستخسر كل الشعوب والبلدان الأخرى أمكانية تحقيق قدر من الأستقلالية في رسم توجهاتها الاقتصادية والأجتماعية. وستكون أمريكا هي الرابح الوحيد من سفك الدماء، والدمار المادي والروحي، الذي طال وسيطال الجميع، بما في ذلك الشرائح الأشد فقرا في أمريكا ذاتها.