تحتفل الأوساط اليسارية والتقدمية المصرية والعربية بمرور قرن على ميلاد المفكر اليساري الكبير محمود أمين العالم ( 22 فبراير/ شباط من عام 1922). وكانت أسوأ محطة في مسيرة حياته النضالية والتي كاد أن يفقد حياته خلالها في أواخر خمسينيات القرن الماضي بعد أن أبدى ورفاقه الشيوعيون المصريون تحفظاتهم على الوحدة الإندماجبة التي تمت بين مصر وسوريا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر .
على أن السلطات الناصرية المصرية ردت على تحفظاتهم ليس بدراستها أو مقارعة الحجة بالحجة، بل تصرفت معهم كما لو أرتكبوا جريمة كببيرة لا تُغتفر، وإمعاناً في الفجور الأنتقامي أختارت بأن تحتفل به على طريقتها الخاصة ليكون توقيته ليلة رأس السنة الميلادية 1959، وهكذا وبعد مدة قصيرة من عودة محمود أمين العالم وزوجته الإعلامية سميرة الكيالي إلى منزلهما بعد أحتفالهما بتلك الليلة السعيدة داهمت السلطات البوليسية المنزل لتفتشه تفتيشاً دقيقا، ثم أعتقلت محمود محمود العالم ضمن أكبر حملة أعتقالات تلحق باليسار في تاريخ مصر الحديث، وقد تعرض جميع المعتقلين لصنوف من أشكال التعذيب الوحشي، وسقط على أثره في معتقل "أبو زعبل"سيء الصيت شهداء عديدون، وكان من أبرزهم القائد الشيوعي الفذ شهدي عطية..وكان العالم ممن واجهوا التعذيب بشجاعة وصمود وكان يوصف هذه الحال دائماً بهذا التعبير : " ضُربنا ضرب الأبل" حيث كُسرت على إثره إحدى رجليه، ولما كان مطلوب منه وجميع رفاقه القيام بأعمال شاقة في الجبل الذي يسيرون إليه صباحاً لمسافة طويلة حفاة الأقدام، فقد كان العالم يُحمل من قَبل رفيقين له، وعند بوابة الجبل يتم سحله حتى مكان العمل المطلوب حيث عرف أول مرة حينها معنى "السحل"على حد تعبيره، وأستمرت الآلام المبرحة تلازمه لفترة طويلة. وكانت أول عقوبة "تأديبية" نالها من النظام الناصري جرت في عام 1953 عندما أقدمت السلطة الناصرية على فصله ومجموعة كبيرة من أساتذة الجامعات؛ بسبب مواقفهم المطالبة بالديمقراطية، وكان حينها عُيّن مدرساً مساعداً لتدريس المنطق في كلية الآداب بجامعة القاهرة بُعيد نيله شهادة الماجستير عن " قانون المصادفة الفيزيائية ودلالاتها الفلسفية " التي أعتبرها المشرفان على رسالته بأنه يستحق عليها درجة الدكتوراه لولا تقيدهم بالنظام التدرجي في نيل الشهادات العليا، وكان عندئذ يستعد للتحضير لرسالة الدكتوراه عن " قانون الضرورة في العلوم الإنسانية" .
ومع أن الوحدة المصرية السورية فشلت عام 1961وأعترف عبد الناصر نفسه بفشلها لعوامل سبق أن ساقها الشيوعيون في أبداء مواقفهم التحفظية منها، ومع أن الميثاق الوطني الذي صدر في العالم التالي 1962 جاءت أفكاره مقتبسة بمعظمها من الفكر الاشتراكي الماركسي، إلا أنه لم يجرِ الإفراج عنهم إلا عام 1964 إثر ضغوط من الاتحاد السوفييتي عشية زيارة رئيسه خروشوف لمصر . وفور الإفراج عنهم تم الضغط بقوة على قياداتهم لحل حزبهم الشيوعي، وفُرض عليهم التعاون أو الأنضمام لحزب السلطة " الأتحاد الاشتراكي" ولم يكن لهم من خيار حينها سوى الخضوع لهذا الضغط، حيث أعلنت اللجنة المركزية حل الحزب في أبريل 1965.
أنخرط محمود أمين العالم مع مجموعة من رفاقه اليساريين في النضال السياسي تحت مظلة "الاتحاد الاشتراكي" وعينه الرئيس جمال عبد الناصر في "التنظيم الطليعي" السري الذي أنشئه داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه، ثم شغل مناصب عديدة، منها : رئاسة تحرير ومجلس إدارة صحيفة أخبار اليوم التي فُصل منها لرفضه تغيير في نص مقال له سينشر فيها، كما عُين رئيساً لمجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، كما اُنتخب عضواً قيادياً في نقابة الصحفيين. أما في عهد الرئيس أنور السادات فقد تعرض للاعتقال ضمن الحملة التي طالت القيادات الناصرية في مايو 1971، وبعد الإفراج عنه سافر إلى بريطانيا وأقام فيها لفترة قصيرة، ثم حط رحاله في باريس وعمل استاذاً في جامعة السوربون، كما أصدر من هناك مع رفيق دربه المناضل ميشيل كامل مجلة"اليسار العربي" وبعد عودته لمصر في عهد الرئيس حسني مبارك أصدر "مجلة قضايا فكرية" الدورية والتي ظلت تصدر بانتظام حتى رحيله في العاشر من يناير 2009 مخلفاً إرثاً فكرياً ونضالياً وسياسيا مهماً ً.
وبالرغم من أن محمود أمين العالم كان واحداً من قلة من المفكرين العرب الذين قدموا اسهامات تنظيرية متميزة في أثراء الفكر العربي بلا منازع ما أجمع عليه كل المفكرين وكبار المثقفين العرب على أختلاف مشاربهم الفكرية؛ إلا أنه كان إلى جانب ذلك ناقداً أدبياً كبيراً لا يشق له غبار، وإن لم يتفرغ بالكامل للعمل النقدي، إذا كان شغله الشاغل قضايا النضال السياسي اليومي وهموم الجماهير .