تستمد الأنظمة الديكتاتورية قوتها من الطاعة والتعاون التي تحصل عليه ؛فإذا كان الاضطهاد الذي تمارسه الديكتاتورية لا يضمن الطاعة . ولا يمكن تحدي السلطة القائمة التي بيدها المال والسلاح والإعلام تحدياً مقترناً بنجاح إلا إذا ظهر فشل زعماء الحكومة بشكل واضح لعدد كبير من الناس لأن طبيعة أسلوب الدكتاتور هو تحطيم إرادة أولئك الذين يحاولون المقاومة بإلصاق التهم بهم وقتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم وتشتيتهم وما إلى ذلك حتى لا يتمكنوا من المقاومة. فوصول الفاشيين إلى السلطة في إيطاليا مثلا كان ناتجا عن عدة عوامل. صحيح أن إرادتهم الحديدية وأساليبهم الإرهابية ساهمت في وصولهم إلى قمة السلطة، ولكن ينبغي ألا ننسى أن الملك كان ضعيفا لا يستطيع مواجهتهم وأن الدولة كانت قد أخذت في التفكك والانهيار.

 في هذه اللحظة  قفز الفاشيون على السلطة وأمسكوا بها جيدا، وكان ذلك عام 1922 عندما أصبح موسوليني رئيسا للوزراء. في البداية حاول موسوليني أن يظهر كسياسي معتدل يحترم الدستور.  لأنه كان لا يزال ضعيفا ويمكن للطبقة السياسية الليبرالية أن تقضي عليه إذا ما شعرت بأنه يهدد السلام المدني أو المبادئ الديمقراطية التي قامت عليها الدولة الإيطالية بصفتها دولة أوروبية حديثة تحترم الدستور والتعددية الفكرية والسياسية وتعتمد على المشروعية البرلمانية.ولكن عندما تمكن من الأمر وترسخت أقدامه في السلطة راح يصفي  خصومه  ويقضي على الطبقة السياسية الليبرالية برمتها. وهكذا استطاع أن يفرض النظام الفاشي الديكتاتوري المطلق على البلاد، وأدى ذلك إلى خنق الحريات في إيطاليا وإرهاب الناس، وعاشت البلاد عندئذ ظروفا عصيبة، وعمّ الخوف الناس. فلم يعد أحد يستطيع أن يعبر عن آرائه السياسية بحرية، فالإيديولوجيا الفاشية تقوم أساسا على عبادة الزعيم الأوحد وعلى تقديس السلطة والخضوع لها بشكل كامل من قبل الشعب. ومن لا يخضع تتم تصفيته جسديا إذا لزم الأمر. أما صعود الفاشية في البرتغال فقد شغل سالازار منصب رئيس الوزراء في البرتغال في الفترة من 1932 إلى 1968. كان رئيس الجمهورية في العام 1951 بصفة مؤقتة. أسس وقاد ما يعرف بالدولة الجديدة التي حكمت وسيطرت على البرتغال من العام 1932 حتى العام 1974. عندما أصبح رئيساً للوزراء أعلن في العام التالي من توليه منصبه دستوراً جعل منه حاكماً استبداديّاً، فقد أقام سالازار دولة عسكرية، واضعاً النقابات تحت إدارة الحكومة، ومنع حرية الصحافة والحريات السياسية، وأقام الاقتصاد على قواعد محكمة، لكنها كانت على حساب الأجور، ورفاهية كثير من المواطنين.

لقد بلغ التطور في مفهوم السيادة درجة جعلت الدولة القومية نفسها مهددة تحت مسميات كثيرة مثل عولمة الاقتصاد ،القومية والاثنية ،الضغوط الدولية من أجل حقوق الإنسان، والاعتبارات فوق القومية كمهددات للدولة القومية. وطبقا لتقرير الدفاع الاستراتيجي للناتو في سنة1998 يجب أن تعطى الأولوية للاهتمام بالمخاطر التي تؤثر على الاستقرار، مثل انقسام الدول وما ينشأ عنه من نزاعات دولية أو عبر الحدود ومخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة وانتهاك حقوق الإنسان وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتصرفات الدول التي لاتدور في فلك الغرب. وعلى عكس فترة الحرب الباردة حيث كان الاهتمام بالدول القوية التي تؤثر في ميزان القوى أضحى الاهتمام الآن بالدول الأضعف أو الدول المنهارة لإرتباطها بالإرهاب والهجرة وعدم الاستقرار. وهناك تطور آخر وهو أن التدخل العسكري نفسه أصبح مصحوبا بآليات وإجراءات قضائية،مثل المحاكم الجنائية. تبعاً لتطور المفهومين السابقين تطور مفهوم حق الدفاع عن النفس. أصبح في العالم نتيجة لتلك التطورات قوة أحادية عسكرية ونتيجة لذلك أصبح من حق بوش الابن أن يحلم بشأن الشرق الأوسط والمناطق الأخرى ساعده عاملان على ذلك:أولهما لم يعد هناك خوف من أن تقود التوترات الإقليمية إلى مواجهة بين القوى العظمى،وثانيهما لم يعد من الواجب على الولايات المتحدة الدخول في نزاع مع دول تزيدها قوة من الترسانة العسكرية .

 إضافة لذلك برزت تحولات أساسية في المفاهيم وهو باختصار سيادة الدولة على أراضيها وحقها في اتخاذ القرارات والسياسات والتشريعات فوق أراضيها،وحقها في الحصانة من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. شهد مفهوم السيادة استقرارا نسبيا في النظام الدولي -طوال فترة الحرب الباردة-أما في المرحلة الحالية فقد شهد تطورات نوعية إذ تم تدويل السيادة ،إذ أصبح على الدولة أن تلبي شروط المجتمع الدولي لتتمتع بالسيادة على أرضها،فتقلصت حدود السيادة السياسية وزاد التدخل الدولي لمبررات كثيرة منها التدخل الإنساني، حقوق الإنسان،حماية الأقليات وغيرها وتنامى دور المنظمات غير الحكومية. لقد بات التدخل إجباريا على الدول عبر المنظمة الدولية أو حتى خارج مظلتها،كما حدث في كوسوفو و تدخل حلف الناتو .بل وتم وضع دول ذات سيادة تحت الإدارة الدولية مثلما حدث في كوسوفو وتيمور الشرقية اللتين وضعتا تحت إدارة دولية انتقالية. 

   عملية التحول الديمقراطي هي عملية معقدة تتداخل في تشكيل مساراتها وتحديد نتائجها جملة من العوامل الداخلية والخارجية التي يتفاوت تأثيرها من حالة إلي أخري.  هناك حالات ومستويات متعددة للنظام الديمقراطي الذي يتم الانتقال إليه ، فقد يتحول من نظام تسلطي استبدادي  إلي نظام شبة ديمقراطي يأخذ شكل الديمقراطية الانتخابية ، ويمكن أن يتحول من نظام شبة ديمقراطي إلي نظام ديمقراطي ليبرالي أو يكون قريباً منه. وعملية التحول الديمقراطي ، تعني" الانتقال من نظم ذات طبيعة سلطوية أو شبه سلطوية إلي الديمقراطية "، أي تبني عدة سياسات منها " احترام الدستور وسيادة القانون ، ووجود مجلس تشريعي منتخب انتخاباً حراً ونزيهاً واستقلال القضاء ، وحرية الصحافة والإعلام ، والتعددية السياسية ، كما تبرز الحاجة إلي بلورة صيغ وأطر ومؤسسات دستورية وقانونية وسياسية ملائمة، تحقق أسس ومبادئ تقاسم السلطة، والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان ، وتضمن حسن إدارة التنوع المجتمعي العرقي والديني ، مثل توفير أطراً ملائمة لتطور المجتمع المدني، وتحقيق استقلاليته.و هناك تأثيرات سلبية للإنتماءت  العرقية والدينية والطائفية  علي عملية التحول الديمقراطي والمشاركة السياسية إنما يتطلب التحرك بفاعلية علي طريق بناء ثقافة للعيش المشترك، تستند إلي تكريس أسس ومبادئ المواطنة ، وسيادة القانون ، والعدالة الاجتماعية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ، فضلاً عن وضع وتنفيذ استراتيجيات وخطط لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة .

 و فكرة الإصلاح فكرة قديمة قدم الإنسانية ، حيث وجد في كتابات قدماء المفكرين اليونان من أمثال أفلاطون وأرسطو الكثير من الأفكار الإصلاحية مثل العدالة والقوانين وتنظيم المجتمع والدولة والاستقرار السياسي والتوزيع العادل للثروة وغيرها، ويمكن القول إن فكرة الإصلاح كانت ومازالت الهدف الأسمى للعديد من الفلاسفة والقادة والحركات السياسية والاجتماعية في مختلف أرجاء العالم ، فضلاً عن كونها موضوعاً رئيسياً في النظريات السياسية للفلاسفة والمفكرين منذ أيام ميكافيلي في العصور الوسطى حتى كارل ماركس في القرن العشرين. عملية التحول الديمقراطي هي مرحلة انتقالية ، تجمع خصائص النظام غير الديمقراطي والنظام الديمقراطي ، وفي المرحلة الأولي لهذا التحول تكون الغلبة لخصائص مرحلة ما قبل التحول في حالة ما إذا كان التحول يحدث بشكل متدرج ، وليس من خلال تحول جذري بقلب الأمور رأساً علي عقب ، ويتحول النظام السياسي من نظام غير ديمقراطي إلي نظام ديمقراطي ، وتلك إحدى طرق التحول الديمقراطي. وقد استندت معظم تجارب التحول الديمقراطي التي شهدتها دول أوربا الشرقية علي هذا النمط من التحول ، بينما شهدت دول أخري عملية تحول تدريجي. والتغيير الشامل يبدأ بتغيير القيادة الدكتاتورية ويمتد ليشمل جميع مناحي النظم الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتشريعية والقضائية والدينية ، ومن ثم فإن تغيير القيادة الديكتاتورية أو المتعسفة أو النجاح في تغيير أنماط تفكيرها بما يتناسب مع صالح الدولة أو المؤسسة لا يمثل الهدف النهائي للراغبين في إحداث التغييرات، ولكنه يمثل الخطوة الأولى الفعالة نحو التحولات النوعية الكبرى التي تنتقل  بالدولة أو المؤسسات انتقال إلى الأمام. فتغيير القيادة هو خطوة نحو التغيير ، وليس هو الهدف النهائي . حتى نستطيع أن نصل إلى قوانين تساهم في تحول ديمقراطي وعدم الانزلاق إلى نظام سلطوي جديد، فلابد لنا الخروج من هذه الذهنية السلطوية والابتعاد عن رموزها عند صياغة القوانين والالتزام بالمبادئ الديمقراطية في صياغة التشريعات ووضع محددات التحول الديمقراطي من دعم التعددية السياسية والمجتمعية، وإطلاق حرية الرأي والتعبير، وتحفيز حق التنظيم، موضع التنفيذ من خلال هذه التشريعات.

 وفى حالة عدم قدرة الشعوب المضطهدة على المقاومة ؛ فإنها تلجأ الى الاستعانة بقوة خارجية كالرأي العام أو بلد قوي ، ولكن هذه الطريق في حقيقة الأمر لها انعكاساتها الخطرة ، لأن التدخل  الخارجي لن يأتي لتحقيق ما تصبو له الشعوب ، لذا  يجب عدم الثقة به .أخطر ما يعاني منه العراق في الوقت الراهن  هو أزمة الفراغ السياسي في بلد لم يتعود على  مثل هذه الحالات لفترات طويلة حيث اعتاد الشعب على نظام ديكتاتوري شمولي . وطول أزمة الفراغ السياسي منذ 2003 والى يومنا هذا أعطي فرصة لنمو قوة رجالات النظام السابق  الطامحة للعودة الى السلطة، و التي كانت تتمتع بالمواقع والخبرة لتمسك بزمام المبادرة وتعيد إنتاج سلطة من بقايا النظام السابق. هذا الاحتمال ليس مستبعداً في المرحلة الانتقالية. وهو عملياً أخذ بالارتسام من خلال اعادة كوادر حزب البعث الى السلطة بعد انخراطهم في صفوف احزاب السلطة. الشيء المهم الآن ولا نقاش في صحته يتركز على أن التغيير حصل ولا مجال لعودة الديكتاتورية .

 وهذا التطور حاسم في كسر المعادلة الداخلية لكنه ليس كافياً في تأمين الانتقال المرن من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة التعدد والتسامح والنمو المستدام. الانتقال الديمقراطي  يحتاج الى ارادة والى عمل يرافق هذه الارادة وان تكون هناك توجهات تجري في جو وفضاء المجتمع المدني والاستقلال بالنسبة الى الجهات المنوط بها اجراء تحديث واصلاح وبشكل علمي وجدي. وبعد انهيار الانظمة الشمولية في كل من العراق وتونس وليبيا ومصر وظهور احزاب الاسلام السياسي قليلة الخبرة و المشبعة بالثقافة الثيوقراطية في إدارة شؤون الدولة الحديثة وفي ظل ظروف المرحلة الانتقالية من النظام الديكتاتوري الشمولي إلى النظام الديمقراطي والتي تشهد فيها هذه البلدان والمجتمعات تحولات كمية ونوعية هائلة وسريعة غير مسيطر عليها في بناها التحتية والفوقية ، وتزمتها وبنوع من التطرف والتشدد بخطها الأيديولوجي الذي لا يقبل التعاون والتحاور والتعايش مع الآخر( خاصة الاخوان المسلمين) جعلها تخفق وتفشل في تحقيق أية إنجازات ومكاسب نوعية ملموسة لصالح شعوبها ،وهذا الفشل والإخفاق سوف يجعل الجماهير التي صوتت لها في الانتخابات لأسباب دينية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية تتخلى عنها وتبحث عن البديل الذي يكون قادرا على تلبية متطلبات حياتها . وفي ظل قيادة قوى الإسلام السياسي الفاشلة لبناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات الدستورية سوف يتم التأسيس لظهور وانبعاث تيار القوى السياسية الديمقراطية الليبرالية لتعمل على توعية الجماهير الرافضة لأي شكل من أشكال الدولة الدينية التي أثبتت عمليا عجزها وفشلها في تحقيق ما تطمح إليه من مرتكزات الحياة الكريمة وتعبئتها باتجاه بناء الدولة المدنية دولة الخدمات التي تحقق العدالة والمساواة لجميع مكونات الشعب على أساس الانتماء الوطني وليس على أي أساس آخر، ومثل هذه القوى سوف تلتقي في رؤاها مع القوى الدولية التي تقود الحرب العالمية على الإرهاب وفق معادلات توازن القوى حول العلاقات الدولية المتوازنة بين الدول لضمان مصالح الجميع.