ان ماركس " هو اول من ادخل مفهوم الممارسة في نظرية المعرفة”، فأصبح النشاط النظري مترابطا مع الممارسة والنشاط المباشر الذي يمارسه الانسان على بيئته، ومن خلال ذلك التفاعل بين النظرية والتطبيق تتكشف صحة المعرفة. " فلا قاسم مشترك بين الفكر الثوري وعبادة الاوثان، لان البرامج والتنبؤات تصحح على ضوء التجربة التي هي المحك الأسمى للفكر البشري”، و" ان أفضل البرامج ستبقى حبرا على ورق إذا لم تتبنها الجماهير”.

        لقد وجد فهد (1901 – 1949) في الماركسية السلاح الفعال لمقاومة الظلم والاستغلال وتحقيق العدالة، اذ انكب منذ العشرينات من القرن الماضي على مطالعة الكتب الماركسية مثل البيان الشيوعي، ما العمل، الدولة والثورة، ساعده في ذلك انه يتقن العربية والسريانية والانجليزية والروسية. وبعد عودته في كانون الثاني من عام 1938 بعد دراسته في ( مدرسة كادحي الشرق) في الاتحاد السوفييتي ،  وجد الحزب قد تعرض لضربات قوية وانشقاقات داخلية ، فكرس كل جهوده لإعادة بناء الحزب من جديد مستندا الى ما حصل عليه من معارف كثيرة تتعلق ببناء الحزب على الأسس اللينينية ، فواجه الفردية الطاغية التي تنفر من كل ضبط ، وثرثرة المقاهي والافتقار الى الاحتراس والحذر ، ودخول اعداد من الناقمين على الأوضاع الى صفوف الحزب دون ان يدركوا التبعات الثقيلة التي تترتب على المشاركة في نضال شيوعي سري تلاحقه أجهزة البوليس . واستطاع ان يبني حزبا للطبقة العاملة العراقية لا يعرف المهادنة او المساومة وأصدر جريدة الشرارة عام 1940، وحول فهد الحزب بين أعوام (1941 – 1947) الى " قوة سياسية متماسكة وفعالة وبنى قاعدة جماهيرية واسعة وأصبح الحزب يتصدر نضالات شعبنا".

        في عام 1944عقد الحزب كونفرنسه الأول وسمي (مؤتمر الميثاق الوطني). قدم الرفيق فهد فيه التقرير السياسي (قضيتنا الوطنية) وميثاق العمل الوطني (برنامج ومهمات الحزب) التي شخص فيهما الأهداف الوطنية لشعبنا.

عقد المؤتمر الوطني الأول عام 1945 وسمي (مؤتمر التنظيم) تم فيه تقديم التقرير التنظيمي والنظام الداخلي للحزب والتقرير السياسي وميثاق العمل الوطني وانتخبت فيه اللجنة المركزية والمكتب السياسي وأصبح فهد سكرتيرا عاما للحزب وكان شعار المؤتمر (قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية).

في " قضيتنا الوطنية " ربط الرفيق فهد بين الانتصار على النازية وبين انعتاق كافة الشعوب من الكوارث التي سببتها، وان الشعوب التي ذاقت مرارات الحرب لم تعد ترضى لنفسها الاستمرار على العيش وفق النسق القديم، وتناول ما يهم الشعب العراقي بعد انتهاء الحرب من التخفيف من ضائقته الاقتصادية واستعادة سيادته التي لا يمكنه ان يكون شعبا حرا بدونها، واكد على انه لا يمكن نيل الحقوق دون تنظيم حزبي وطني يوجه الشعب ويقود نضاله. وحدد أسباب تأخر العراق صناعيا وزراعيا بسياسة السلطات العراقية التي تسعى لإبقاء العراق قطرا تابعا، والسيطرة الأجنبية المالية والعلاقات الاقطاعية القديمة في الإنتاج الزراعي وموقف غرفة تجارة بغداد والتجار بصورة عامة المعادي من تصنيع القطر لارتباطهم بالبضاعة الأجنبية ولوفرة الأرباح من التجارة والربا. وأدى تدفق البضاعة الأجنبية الى تدمير الصناعة الحرفية في العراق، ونهب الشركات الأجنبية لثروات العراق وفرض أسعارها الاحتكارية على اثمان المنتجات ووسائط النقل البحري.

واكد على ان بريطانيا تسعى لتثبيت نفوذها في العراق سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وبالتفاتة ذكية حذر فهد من التنافس الاستعماري بين بريطانيا وامريكا وبشكل خاص سعي أمريكا في السيطرة على الثروة النفطية في العراق.

تناول (الميثاق الوطني) وهو برنامج الحزب الشيوعي العراقي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية:

نناضل من اجل: (1- سيادتنا الوطنية لجعل استقلال قطرنا حقيقة لا لفظا. 2- إيجاد حكومة تعمل لمصلحة الشعب وجهاز حكومي ديمقراطي ونظام ديمقراطي صحيح، وبرلمان ومجالس إدارة وبلدية ينتخبها الشعب وتمثله حقا. 3- حل مشكلة التموين وتوفير المواد الضرورية للشعب. 4- تنمية اقتصادنا الوطني، وتطور بلادنا الصناعي واستثمار ثرواتنا الطبيعية، ورفع انتاجنا الزراعي وتخليص شعبنا من شركات الاحتكار الأجنبية. 5- إيقاف نهب أراضي الفلاحين والملاكين الصغار وتوزيع الأراضي على الفلاحين. 6- الدفاع عن مصالح العمال. 7- نظام ضرائب يعفي ذوي الدخل الصغير من اعبائها. 8- توسيع نطاق التعليم لأبناء الشعب من كلا الجنسين. 9- من اجل مساواة المرأة بالرجل. 10- إيجاد مساواة حقيقية في الحقوق للأكراد مع مراعاة حقوق الجماعات القومية والجنسية الأخرى. 11- الاعتناء بالجندي العراقي المكلف وصحته وتغذيته وتثقيفه وتربيته التربية الديمقراطية. 12- الصداقة والتعاون السياسي والاقتصادي والثقافي مع الشعوب الديمقراطية، وتأسيس علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي. 13- التقارب والتعاون السياسي بين الشعوب العربية، وبين احزابها السياسية الديمقراطية، من اجل السيادة الوطنية لفلسطين والاقطار العربية المستعمرة والمحمية، واستكمال استقلال العراق وسوريا ولبنان ومصر، ضد الصهيونية وضد الدول المستعمرة. نناضل في سبيل حلف شريف لتنفيذ تلك الغايات. 14- التعاون الاجتماعي بين شعوب البلدان العربية بين منظمات العمال والمثقفين والطلاب. 15- التعاون الاقتصادي بين الأقطار العربية).

بعد انفضاض اعمال المؤتمر الأول  اثار قسم من الرفاق والأصدقاء ضجة كبيرة حول المهمات والمضامين التي احتواها الميثاق الوطني ، واعتبروه برنامجا رغبويا تغلب عليه الاماني بعيدا عن حركة الواقع العراقي ، وعده البعض " اسطورة " او " مراهقة سياسية " مستندين الى وقائع وحقائق ومعطيات تجعل من تنفيذ تلك المهمات عملا خارقا ومستحيلا لا يتناسب تماما مع الامكانيات الذاتية للحزب والحركة الوطنية ، اذ خرج العراق من الحرب العالمية الثانية منهكا على مختلف الأصعدة ، فالامية بلغت اكثر من 95% من السكان ، و مستوى الفقر والفاقة فاقت التصور ولم يعد التموين علاجا كافيا لهذه الظاهرة ، ناهيك عن الفساد الذي يمارسه موظفو التموين والتلاعب بقوت الشعب ، و بلغت نسبة العاطلين عن العمل 42% ، وعصفت الامراض الفتاكة بالشعب ، فمن بين ( 4 )  ملايين وستمئة الف نسمة هم سكان العراق في تلك الفترة ، يوجد (500) الف شخص مصاب بالتدرن الرئوي ، منهم ( 50 ) الف مصاب في بغداد ، و بلغ عدد المصابين بالتراخوما  ( 54660 ) والملاريا ( 24866 ) والدزاننتريا ) 41201 ( ، ثلث عوائل العراق ( 431526 ) الف عائلة تسكن غرفة واحدة فقط ، و ( 200 ) الف عائلة تسكن الصرائف ، و ( 300 ) الف عائلة تسكن بيوتا من الطين . وتبلغ العوائل التي تسكن بيوتا من الطابوق والصخر (20%) فقط.

كان الاقتصاد العراقي اقتصاد متخلفا بسبب حقيقتين ثابتتين: الاولى " ان القوى البشرية والثروات الطبيعية كانت في حالة ناقصة وغير عقلانية من الاستثمار ". والثانية " ابقاء هذا الوقع على حاله من قبل قوى غير اقتصادية (التبعية الخارجية والعلاقات الاجتماعية شبه الاقطاعية).

امام هذه اللوحة المريعة اعتبر هؤلاء الرفاق والأصدقاء المطالبة بحكومة برلمانية، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، ومنح الاكراد وبقية المكونات حقوقها القومية المشروعة وبقية المطالب، ضربا من البرامج الخيالية، في ظل مجتمع يتضور جوعا ومرضا وتخلفا، تخضع حكومته الى ارادة اجنبية وتعاني الحركة الوطنية من مظاهر ضعف كثيرة.

بالرغم من قوة الحجة والبراهين لدى هؤلاء الرفاق والأصدقاء، فان الرفيق فهد تصدى بقوة لهذه الآراء، وقال " ان ميثاقنا ليس بأسطورة، بل هو منهاج عملي لا يتحقق بدون تنظيمات ملائمة شعبية قوية وهذه لا تتم عندنا اليوم بدون تقوية التنظيم الحزبي”، فالطغمة البربرية والقوة الجهنمية الفاشية لم تستطع الشروع بتنفيذ خططها الجهنمية الا بعد ان حطمت جميع اشكال التنظيمات الشعبية وبصورة خاصة تنظيمات الطبقة العاملة وتركتها دون سلاح تدافع به عن نفسها”. ان الواجب الوطني يدعونا الى العمل السريع على تنظيم شعبنا وتجنيد قواه لإحباط محاولات تكبيل حريات شعبنا وامتهان كرامتنا الوطنية واحباط جميع الذين يريدون تفريق شعبنا.

أكد فهد ان الاستعمار في قطر واحد لا يمثل مصالح دولة استعمارية واحدة بل المصالح الاستعمارية كافة. الاستعمار عدو مسلح من اسفله الى قمته، ولا تفيد معه أساليب النضال القديمة وعلى الشعب ومنظماته ان تقيم تنظيماتها بالشكل الذي تستطيع فيه مقاومة هذا العدو ويمكنها من جذب الأكثرية الساحقة من الشعب وزجها في المعركة". " ان النضال ضد الاستعمار يتطلب تحرير الجماهير من التردد والخوف وتحريرها من الاتكالية ويجب تدريب الشعب على جميع اشكال الكفاح السياسي وتهيئته لخوض معارك حاسمة مع العدو. وعلى المناضلين في الحقل النقابي ان ينظموا جميع العمال المؤيدين لقضية النقابات من اجل جميع الحقوق المتضمنة في قانون العمال وفي مقدمتها الاعتراف لهم بنقاباتهم، وعلى الشباب ان يتكتلوا وينظموا جميع شبان وشابات المدارس ويوجهوهم التوجيه الصحيح في النضال من اجل حل مشاكل الطلاب والشباب.

ان الحزب الشيوعي العراقي رسم ستراتيجيته استنادا الى المنهج الماركسي وبناها على دراسة الظروف الملموسة للخصائص الوطنية والقومية في العراق التي تتجسد في التحرر من التبعية الكولونيالية، واستعادة السيادة والاستقلال، والكفاح من اجل الديمقراطية، والكفاح من اجل القضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي).

اعتبر الرفيق فهد النضال الديمقراطي " هو الطريق والسلاح الأول لبلوغ اهدافنا "، وربط بين الديمقراطية السياسية وبين الكفاح السياسي في مرحلة التحرر الوطني، بين مهمات انهاء الاحتلال الأجنبي واستعادة السيادة والاستقلال وبين النضال من اجل الديمقراطية.

لقد وضع الحزب وبإشراف الرفيق فهد التكتيكات المناسبة لتحويل برنامج المؤتمر الأول الى واقع معاش اذ جند الحزب كل قواه لتطوير عمله الجماهيري وتقوية تنظيمه الحزبي، فبعد الكونفرنس حصل عمال السكك على حقهم في العمل النقابي وعقدوا مؤتمرهم في تشرين الثاني 1944، ونمت صفوف الحزب بين العمال والطلاب بشكل خاص وأقيمت صلات مع الفلاحين وركائز في بعض القرى، وركائز بين العسكريين. وتألفت في العمارة 1945 جمعية أصدقاء الفلاحين.

اعار الحزب مبكرا اهتماما خاصا بالطلاب، فهم الشريحة الأكبر من متعلمي المجتمع، وبعد محاولات عديدة نجح طلاب دار المعلمين العالية عام 1945 في فرض اتحادهم الشرعي وفي عام 1946 نجح طلاب الطب في فرض اتحادهم الطلابي، وكان اول شهيد شيوعي طالبا في ثانوية التجارة هو شاؤول طويق الذي استشهد في مظاهرة حزيران عام 1946. وتكللت هذه الجهود في مؤتمر السباع 14/ نيسان عام 1948 بتأسيس اتحاد الطلبة العام بعد انتصار وثبة كانون.

اعطى الحزب اهتماما خاصا بكسب النساء وحثهن على مشاركة الرجل في نضاله الوطني العام ومن اجل حقوقهن. وشجعهن في مجال النشاط الديمقراطي الى ان توجت تلك الجهود بتأسيس رابطة الدفاع عن حقوق المرأة في بداية الخمسينيات.

من اهم الاستنتاجات التي خرج بها الرفيق فهد هي ان تنفيذ (ميثاق العمل الوطني) امر لا يخص الحزب الشيوعي وحده، لان المهمات التي تضمنها الميثاق هي نفسها مهمات مرحلة التحرر الوطني وتنفيذها يتسع ليشمل الطبقات والشرائح الاجتماعية المتضررة من النظام الملكي المرتبط عضويا بمصالح الاستعمار العالمي. وهذا هو الجذر الموضوعي لفكرة التحالفات، والاساس النظري الذي جعل شعار المؤتمر الوطني الأول " قووا تنظيم حزبكم، قووا تنظيم الحركة الوطنية”. وتركزت جهود الحزب منذ أواسط الاربعينيات على تقوية وتعزيز التنظيم الحزبي من جهة وتوطيد علاقة الحزب مع الأحزاب والتنظيمات الوطنية الأخرى، وتكللت تلك الجهود بانطلاقة وثبة كانون عام 1948، وانتفاضة تشرين عام 1952، والتنسيق والتعاون في انتخابات عام 1954، والحراك الجماهيري عام 1956 تضامنا مع مصر ضد العدوان الثلاثي، وإقامة جبهة الاتحاد الوطني التي حسمت الصراع لصالح الشعب العراقي بانتصار ثورة الرابع عشر من تموز. وهذا يعني ان برنامج الحزب الشيوعي العراقي (ميثاق العمل الوطني) الذي اقره المؤتمر الأول للحزب الشيوعي العراقي عام 1945 والذي اعتبره البعض ضربا من الخيال واسطورة بعيدة المنال، تحول الى ممارسة عملية بعد ثلاثة عشر عاما فقط بانبثاق ثورة 14 تموز، عن طريق تكريس جهود الحزب قيادة وقواعد باعتماد تكتيكات مدروسة لتعبئة الجماهير باتجاه تبني ميثاق العمل الوطني ليصبح قوة حقيقية دكت حصون الكولونيالية في العراق .

بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية في مرحلتنا الراهنة عما كانت عليه في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فيمكن لقوى التغيير في بلادنا أحزابا وتيارات واشخاصا ان يستفيدوا من الكيفية التي اعتمدها الرفيق فهد في تحشيد الحزب والحركة الوطنية والمنظمات الجماهيرية باتجاه تحقيق تغيير شامل وجذري وانعتاق حقيقي من ربقة التبعية والتخلف.

عرض مقالات: