عرف ديسموند توتو بقدرته الدائمة على الابتسام. ووراء ابتسامة رجل الكنسية الجنوب أفريقي، والحائز على جائزة نوبل للسلام، يختفي مناضل صلب من أجل العدالة. على مدى عقود، خاض توتو معارك متوالية مع نظام الفصل العنصري. وعندما هزم الاستبداد، رافق حكومات المؤتمر الوطني الأفريقي بنقد لا يجامل. لم يرغب يوما في إرضاء الجميع، وكانت المصالحة هدفه الرئيس. رحل ديسموند توتو   26 يوم كانون الأول عن عمر ناهز 90 عامًا في دار لرعاية المسنين في كيب تاون.

الالتزام بقيم التسامح

في عمله الصادر عام 2015، سجل كيف نمت ذاكرته على قسوة أبيه على أمه، وعجزه كطفل صغير على الرد بالمثل. لكن توتو لم يرد أبدًا. وبدلاً من ذلك، استخدم مرارات الماضي، لتحقيق هدف حياته: التسامح. يكتب توتو ً: "نادراً ما تخلق الضربة القاضية الرضا"، ويضيف: "بدون مسامحة، نظل مقيدون بالسلاسل إلى الشخص الذي أساء إلينا. نحن مقيدون بسلاسل مرارة، مقيدون ببعضنا البعض، محاصرون. إلى أن نتمكن من مسامحة من أساء لنا، فإن هذا الشخص يحمل مفتاح سعادتنا، وهذا الشخص هو سجيننا. عندما نغفر، نستعيد السيطرة على أقدارنا ومشاعرنا. نصبح محررين لأنفسنا".

لم يؤثر سعي توتو الدائم لتحقيق المساواة أبدًا على تحليلاته الحادة والصريحة، فبعد أن أصبح رونالد ريغان رئيسًا للولايات المتحدة في عام 1981، وصفه توتو بكثافة متناهية بأنه "عنصري وفارغ وبسيط"، ورأى في حكومته "كارثة كاملة لنا نحن السود". كان ريغان داعما مهمًا لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ويمكن القول إن توتو كان أبرز المعارضين لهذا النظام، الذي لم يستطع سجنه أو دفعه الى المنفى.

حياة حافلة بالتحولات

ولد ديسموند توتو في عام 1931 في كليركسدورب، مركز منطقة جنوب غرب جوهانسبرج. ونشأ توتو ابنا لمدير مدرسة وطباخًة في ظروف بسيطة، وكما وصفه بنفسه في سيرته الذاتية الصادرة عام 2006:"ليس ثريًا، وليس فقيرًا جدًا". بعد المدرسة، قبل لدراسة الطب في جوهانسبرج، لكنه لم يستطع تحمل رسوم الدراسة. وأصبح في النهاية مدرسًا، ولم يستمر في مهنته طويلا، بسبب تطبيق دولة الفصل العنصري قانون تعليم البانتو في عام 1953، الذي فرض على الأطفال السود تعليما ابتدائيا متدنيا، لتحويليهم لاحقا الى قوة عمل رخيصة، قرر توتو أن يصبح قسا أنجليكانيًا. وعندما كان يدرس علم اللاهوت في جوهانسبرغ، لم يكن لديه أي علاقة بالاحتجاجات ضد الفصل العنصري؛ ووصف فيما بعد مجموعته الدراسية بأنها "مجموعة غير سياسية". وفي كانون الأول 1960، وبعد تسعة أشهر من مذبحة شاربفيل التي أطلقت فيها شرطة الفصل العنصري النار وقتلت 69 من المحتجين السود السلميين، تم تعيين توتو قسا في كاتدرائية سانت ماري في جوهانسبرج.

بدأ التسيس واضحا في تفكيره بعد أن اتصل لأول مرة بحركة الوعي الأسود، إبان عمله في إيسترن كيب في أواخر الستينيات، ومعايشته المباشرة لقمع الشرطة. وبصفته مديرًا لصندوق التعليم اللاهوتي التابع لمجلس الإرسالية الدولي في إفريقيا، تعامل، منذ عام 1972، عن كثب مع مُثُل لاهوت التحرير ايضا. وفي عام 1978 أصبح اول سكرتير عام أسود لمجلس الكنائس في جنوب إفريقيا، وفي عام 1985 أسقف جوهانسبرج وأخيراً في عام 1986 رئيس أساقفة كيب تاون. لقد استخدم موقعه الهام وغير المحمي لمهاجمة النظام مباشرة. وأعلن أن نظام الفصل العنصري "غير مسيحي"، وبالتالي هز الأساس الديني الزائف للنظام العنصري الذي رأى فيه البيض المخلصون أنفسهم مختارين من الله.

سلمية بعيدة عن الأوهام

لم يحصر توتو نفسه في الرمزية الدينية. وعلى الرغم من أنه ظل ملتزما بالسلمية طوال حياته، لكنه انحاز إلى الكفاح المسلح الذي اعتمده المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا، وفي المحكمة وقال إنه يفهم سبب استخدام السود في جنوب إفريقيا للعنف. بعد أن دعا علنًا إلى فرض عقوبات اقتصادية على جنوب إفريقيا في عام 1979، سحب النظام جواز سفره مؤقتًا، وهذه الممارسات تكررت في السنوات اللاحقة.

واصل توتو نضاله حتى بعد نهاية الفصل العنصري. بصفته رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة، التي كان من المفترض أن تنهي الجرائم التي ارتكبها نظام الفصل العنصري، دعا إلى العفو، والعفو حتى لأشد جرائم الفصل العنصري وحشية. كانت رؤيته لجنوب إفريقيا الديمقراطية ولا تزال رؤية "أمة قوس قزح"، وهو توصيف ابتكره توتو شخصيًا.

أهمية الإرادة السياسية

عندما تولت الحكومة الديمقراطية الجديدة برئاسة نيلسون مانديلا السلطة في عام 1994، أجابت على السؤال المتعلق بالتصالح مع الماضي عبر تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة.  التي ينبغي أن تكتشف جرائم النظام القديم فقط، بل أن تحقق أيضًا داخل منظمات التحرير، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. تولى توتو رئاسة اللجنة التي استمعت للضحايا، وكذلك لاعترافات الجناة في عدد لا يحصى من جلسات الاستماع العامة التي تم بثها على الهواء مباشرة بين عامي 1996 و1998. يعتقد توتو أن الحقيقة يجب أن تمكن الضحايا وأحبائهم من مسامحة الجناة من أجل إنهاء صدمتهم.

وفي هذا السياق يحمله البعض جزءا من مسؤولية استمرار الفساد، بحجة ان النخبة البيضاء أفلتت، بعد نهاية نظام الفصل العنصري الى حد كبير من العقاب. إن إلقاء اللوم عليه بهذه الطريقة سيكون خطأً. لأن أولئك الذين كانوا مسؤولين بشكل أساسي عن نظام الفصل العنصري، مثل صانعي القرار في الشركات الرابحة، رفضوا الإدلاء بشهادتهم على الإطلاق أمام اللجنة.

لقد كان هناك ضعف في الإرادة السياسية داخل قيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. لم تدفع الحكومة التي يقودها الحزب حتى التعويضات لضحايا الفصل العنصري التي دعا إليها التقرير النهائي للجنة الحقيقة. ولم تتحرك ضد أي من الشركات التي استفادت من اضطهاد الأغلبية السوداء من السكان. ولا حتى ضد العديد من البنوك الدولية، التي ضاعفت ارباحها من معدلات الفائدة المرتفعة التي حصل عليها النظام البالي من القروض خلال فترة العقوبات الاقتصادية، والتي كان لا بد من سدادها من قبل الحكومة الديمقراطية اللاحقة.

عرض مقالات: