بدأت المؤشرات الأولية لاتجاه الاتحاد السوفييتي نحو حافة الانهيار منذ مطلع الثمانينات، كما أسلفنا ، ولم يكن أحد مؤهلاً في القيادة المكونة في معظمها من الطاعنين في السن لأخذ زمام المبادرة بإجراء عملية إنقاذ فورية على شاكلة ما جرى في القيادة الصينية بعد رحيل ماوتسي تونج أواخر السبعينات، ولذلك لما اُتيح لجورباتشوف -الأصغر سناً نسبياً - للقيام بعملية إنقاذ فورية كان الوقت قد فات والأخطر من ذلك أثبت عدم كفاءته القيادية بإفراطه في الجرعات العلاجية نحو اليمين والتقرب إلى الدول الرأسمالية الكبرى التي وجدت ضالتها للتعجيل بدفع الاتحاد السوفييتي للانهيار عبر نصائحها التي ينصاع لها جورباتشوف وتدخلاتها المشبوهة وتكوين لوبيات محلية لها في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي الاخرى.
وبعد الانهيار أصبح إجراء النقد الذاتي والمراجعات الفكرية داخل الأحزاب الشيوعية العربية أمراً لا مفر منه، وإن كان بعض الانتقادات للتجارب الاشتراكية نُشرت قُبيل الانهيار بفترة قصيرة كما أسلفنا.
وعلى أي حال يمكن القول بوجه عام أن المراجعات تمحورت حول ثلاث مسائل على الأقل: الأولى تتمثل في "القضية الديمقراطية"، ويندرج في سياقها تغييب هذه القضية وما ترتب عليها من إشكاليات عديدة في الحياة الداخلية للأحزاب الشيوعية، كما يندرج في عدادها نقد الأخطاء الفادحة التي ترقى إلى مستوى الجرائم، ولا سيما التي اُرتكبت في الحقبة الستالينية واستمرت بدرجات أقل في العهود اللاحقة. (ويمكننا النظر على سبيل المثال من هذه المراجعات: ١-ماهر الشريف، عن بعض مظاهر أزمة الماركسية، دار الينابيع، دمشق 1995، ٢- د. إبراهيم سعد الدين، أزمة النظام الاشتراكي كتاب الأهالي، القاهرة، مارس 1989، محمد الجندي، ماذا يجري في العالم الاشتراكي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1990، ٤-عامر عبد الله، مقوضات النظام الاشتراكي العالمي، دار المدى، دمشق 1998) بالإضافة إلى التقارير التي صدرت عن عدد من الأحزاب الشيوعية كنتاج لدراسات ومناقشات داخلية مستفيضة.
والثانية تتمثل في "المسألة الدينية" وذلك بالتعالي عملياً بدون قصد على ثقافة الجماهير الشعبية الدينية مما أدى إلى خلق واحد من الحواجز بينها وبين جماهيرها المفترضين من الطبقات الفقيرة أستطاع أعداء الشيوعية في العالم العربي توظيف ذلك ببراعة في حملاتهم ضد الشيوعية. والثالثة تتمثل في "المسألة القومية" التي كانت تنظر إليها في الغالب بمجملها شكلاً من أشكال الشوفينية القومية جراء ممارسات الأنظمة القومية، ومن ثم إيلاء البعد الاُممي اهتماماً أكبر منها، مما ترك هذه المسألة لتلك الأحزاب القومية الحاكمة بتوجهاتها الشوفينية تصول وتجول فيها وحدها لدغدغة مشاعر الجماهير في هذه المسألة، في حين كان الشيوعيون أجدر بتقديم نموذج فكري بديل للمسألة القومية. بيد أن ثمة نقاط أخرى يمكن إدراجها في سياق الأخطاء الذاتية لم يجرِ في تقديرنا تناولها، منها على سبيل المثال لا الحصر ، اهتمام ربما أغلب الأحزاب الشيوعية العربية بالكم على حساب الكيف فيما يتعلق بالانضمام إلى هذه الأحزاب، ما أدى إلى ضعف الكثيرين من الذين تم ضمهم أمام العدو ، بل ووقوع العديد منهم في شراك أجهزة المخابرات وابتعاد أعداد كبيرة اخرى منهم عن أحزابهم وانقلابهم عليها، وبخاصة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وإن كانت الأمانة تقتضي القول أنه في مناخ الإحباط الذي ولّده زلزال الانهيار، ثمة كوادر قيادية حزبية تساقطت تنكر بعضها للماركسية وبعضها الآخر أصبحت معاول هدم ضد أحزابها لا تعرف سوى لغة النقد الهدام متناسية دورها في خلق ما تعتبره من أخطاء، وبخاصة المقيمة في الخارج ولا ترى أي حرج وهي انتقاداتها اللاذعة ودروسها إلى قيادات الأحزاب في الداخل القابضة على الجمر . وإذا كانت الأحزاب الشيوعية تتفق على وجوب إحلال الديموقراطية داخل تنظيماتها، فإنه بات من الأهمية بمكان اليوم وضع هذه المسألة موضع التطبيق ليس داخل هذه الأحزاب فحسب، بل وحتى في مواقفها الخارجية، ومن ثم إذا كنا نفرح بصمود واستمرار بضعة دول اشتراكية وعلى رأسها الصين الشعبية ، فإنه لا ينبغي مجاملة أي دولة اشتراكية شمولية بالمطلق وبلا حدود كما كنا في زمن الاتحاد السوفييتي إذا لا كانت الدولة الاشتراكية تأخذ بالديمقراطية في سياساتها داخل الحزب وفي الحياة السياسية والمجتمع، أو لا تراعي حقوق الإنسان إزاء شعبها ، ولا ينبغي أيضاً ممالئة دولة في حال ما إذا وصل حكامها اليساريون من خلال انقلاب عسكري، كما كان الحال أيضاً زمن الحقبة السوفييتية، فالصدق مع النفس من الأهمية بمكان أمام الجماهير وأمام العالم لاتساق الأقوال مع الأفعال في ترجمة ما تم من مراجعات فكرية وتصحيحات سياسية.
وفي تقديرنا فقد خلت المراجعات الفكرية أيضاً من مسألة رد الاعتبار لما عُرفت ب " الأورو شيوعية " والتي اُتهمت بالتحريفية خلال الفترة السوفييتية، فلئن كانت الأحزاب الشيوعية العربية ردت الاعتبار لإسهامات رموز ماركسية كبيرة مثل جرامشي وروزا لوكسمبورغ وغيرهما، فقد آن الأوان أيضا للاستفادة من إسهامات مفكرين وقادة شيوعيين في بلدان أوروبا الغربية باعتبارهم خاضوا نضالات سلمية في بلدانهم الرأسٍمالية بفكر ديمقراطي صحي غير متأثر بالتبعية للمركز، واستلموا السلطة في بعض تلك الدول الرأسمالية وفق تحالفات جبهوية مع الاشتراكيين وغيرهم من قوى ديمقراطية ، فالشيوعيون في أوروبا الغربية هم من أوائل من تنبهوا مبكراً إلى خطورة تغييب الديمقراطية على الأنظمة الاشتراكية السابقة في الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية بما يهدد مستقبل تلك الأنظمة الاشتراكية وهو ما حدث لاحقاً للأسف.
ولعل يجدر بنا في هذا السياق أن نشير إلى ندوتين عالميتين عُقدتا في باريس : الأولى عُقدت بُعيد انهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، أي قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بسنة واحدة، وتحديداً بين 17 إلى 19أيار/ مايو 1990 تحت رعاية كل من مجلة "ماركس الآن "و" المعهد الايطالي للدراسات الفلسفية" وشارك فيها نخبة من كبار المفكرين اليساريين والديمقراطيين في أوروبا الغربية وغيرها ونشرتها دار المطبوعات الجامعية الفرنسية، والثانية عُقدت أيضاً في باريس في عام 1998، أي بعد سنوات قليلة من الانهيار، وذلك بمناسبة مرور 150 عاماً على صدور البيان الشيوعي، وقد شارك فيها أيضاً نخبة من كبار الباحثين والمفكرين الماركسيين، ومن بين الذين شاركوا في الندوة الأولى وقدموا أوراق مهمة فيها: نيقولا بادالوني استاذ الفلسفة في جامعة بيزا وهو رئيس مركز جرامشي بروما ومتخصص في تاريخ الفلسفة، ودانيال بن سعيد استاذ الفلسفة بجامعة سان دينيس بباريس، وروسانا روساندا القيادية السابقة في الحزب الشيوعي الإيطالي وذات اهتمام بانتفاضة الطلبة 1968، ولوسين سيف القيادي السابق في الحزب الشيوعي الفرنسي وواحد من مديري مركز الدراسات الماركسية للبحوث في باريس. أما من بين أهم المشاركين في الندوة الثانية وبعضهم شارك في الندوة الأولى: جورج لابيكا استاذ الفلسفة في جامعة باريس، والمفكر الماركسي مايكل لووي وكلود ميزوريك وكاترين ساماري ولوسيان سيڤ وهو من أبرز منظري الحزب الشيوعي الفرنسي. وربما ثمة ملتقيات وندوات عالمية اخرى لم نقف عليها في المصادر الإعلامية التي تحت متناول أيدينا .ويبدو لنا للأسف أن المشاركات اليسارية العربية في كلتي الندوتين المهمتين كانت ضعيفة ، وبالمثل فإن تغطية كل منهما في الإعلام اليساري كان محدوداً، رغم أن الأوراق المقدمة فيهما شديدة الأهمية وجديرة بترجمتها كاملة ( يبلغ مجموعها في الندوة الأولى عشرة مجلدات ) للاستفادة بما يمكن الاستفادة منها في مراجعات الأحزاب الشيوعية، وخلاصاتها أو نتائجها مازالت في رأيي تحتفظ إلى حد كبير بقيمتها حتى بعد مرور زهاء 30 عاماً على الندوتين، ومن ثم فإن أهمية ترجمة أوراق الندوتين ما زالت قائمة.
وإذا كنا نوهنا بشجاعة المراجعات التي تناولت بالنقد المتناهي الصراحة التجربة السوفييتية منذ ثورة أكتوبر 1917، فإن ثمة ظاهرة من الظواهر السلبية اللافتة في الإعلام اليساري والشيوعي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتتمثل في عدم إيلاء أهمية لترجمة عشرات الكتب التي صدرت لقادة ومسؤولين كبار في الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي الحاكم والتي يتحدثون فيها عن حقائق صادمة من الانحرافات في التطبيق الاشتراكي وأسرار في غاية الخطورة عن سياسات الاتحاد السوفييتي الخارجية والداخلية( يمكن الرجوع لمعرفة نماذج منها في حلقات قناة برنامج RT الروسية رحلة في الذاكرة لخالد الرشد) .
وإذا كان من المفهوم أن تكون الظروف المالية التي تمر بها الأحزاب الشيوعية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي لا تسمح كالسابق ببحبوحة الترجمة والنشر قبل الانهيار، فإنه من غير المفهوم أن ينعدم الاهتمام بهذا الشأن جملة وتفصيلا تقريبا، كذلك نعتقد من الأهمية بمكان أن يكون للأحزاب الشيوعية مجلة إعلامية نظرية مشتركة تصدر إما شهرية أو فصلية، أو على الأقل نصف سنوية.
وبعد، فقد حان الوقت لأن أن تقدم الأحزاب الشيوعية على مراجعة شجاعة جديدة بدراسة ما تحقق من تصحيحات وفق مراجعاتها وانتقاداتها الذاتية بعد مرور ثلاثة عقود من الانهيار، وباعتقادنا ما زالت هذه الأحزاب بما تملكه من تجربة تاريخية طويلة واجهت خلالها محطات خطيرة من الانتكاسات وتجاوزتها تملك اليوم زمام المبادرة بقوة وجاذبية أفكارها وخبراتها شريطة تجديد لغتها الفكرية لتتلاءم مع حاضرنا بكل متغيراته في سياق النظرية الماركسية، ولتكون لغتها أكثر جاذبية لشبيبة وروحها والتي غدت فئات غير قليلة منها حائرة في اختيار الخط الصحيح للنضال، وبخاصة في ضوء وعيها وإدراكها الملموس من تجربتها بإفلاس الحركات الإسلاموية، ذلك بأن شبيبة اليوم في النضج والوعي اللذين ينبغي أن تراهن عليه الأحزاب الشيوعية هي امتداد لشبيبة الربيع العربي التي خرجت لوحدها تحت رايات وشعارات بعيدة عن رايات وشعارات أحزاب الإسلام السياسي والتي استطاعت هذه الأخيرة بمكرها كيف تندس بين صفوفها وتحرف شعاراتها وتخطف نتائجها والركوب على أكتافها للوصول للسلطة ما أدى إلى نتائج كارثية فيما نتابعه منذ مطلع العقد الماضي على أكثر من صعيد إلى يومنا ، وبمثل هذه المبادرة يستطيع الجيل الحالي من قدامى ومخضرمي القيادات النضالية الحالية في أحزابنا الشيوعية أن يسهم حقاً في ضخ دماء جديدة في قياداتها بما يحقق تجديد ألق الراية الحمراء وأن يسلمها إلى جيل جدير بالمسؤولية لترتفع مجدداً على أيديه خفاقة في السماء كما كانت في عصور ازدهارها وانتصاراتها .