يتحدث الجميع تقريبا عن هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان هذه الأيام، لكن لا يوجد تعريف وتصنيف واحد لهذا الفشل. وعلى الرغم من أن الفشل يعتبر أحياناً عسكرياً بحتاً، ولكن برأيي أن هذا لا يكفي. إذ يجب تحديد الفشل في إطار تحقيق أهداف محددة. إذا إفترضنا أن الغرض من قدوم الولايات المتحدة إلى أفغانستان كان حقاً حرباً على الإرهاب، وسعت الولايات المتحدة إلى مواجهته بهذه الطريقة، فإن الوضع الحالي هو هزيمة. لكن لم تكن هناك حرب بالفعل يمكن أن نصفها بالنصر أو الهزيمة في ساحة المعركة. كيف يمكننا أن نقبل أن نفس الطرف الأمريكي الذي استطاع في عام 2001 في وقت قصير جداً إلحاق الهزيمة بطالبان، والذين كانت لديهم حكومة وأتباع وجهاز كبير ومستوى عالٍ من الروح القتالية ووحدة عمل، ولكن اليوم فشلت أمريكا في حربها ضد الطالبان الذين لم يمارسوا ضغوط حرب كبيرة على الأمريكيين؟ إن البحث في عدة عوامل هي بعيدة كل البعد عن وجهة النظر المار ذكرها، والتي بدونها لا يمكن أن يكتمل تصورنا للوضع الحالي. تكمن هذه العوامل في السياسة الخفية الأمريكية لتحويل أفغانستان إلى بؤرة صراع في وسط وجنوب غرب آسيا.
السؤال هنا يمكن أن يُطرح بحق على الوجه التالي، هل كانت حرب القوات الأمريكية ضد الإرهاب هي الهدف الرئيسي حقاً أم أنها كانت ضربا من الستار الذي تستخدمه الولايات المتحدة للتستر على أهداف أخرى؟ وإذا كان هدف الولايات المتحدة في الواقع هو محاربة هذا النوع من الإرهاب، فلماذا لم تبحث أولاً عن مصدره الرئيسي، كالمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج وغير الخليجية الممولة للإرهاب على سبيل المثال؟ وعندها يمكن أن نلاحظ أن ذريعة محاربة الإرهاب لا تنسجم مع احتلال أفغانستان. وعلاوة على ذلك، فليس من العبث القول إن مؤسس الإرهاب والإسلام المتطرف والأصولي هو الولايات المتحدة نفسها، وأن أفغانستان أضحت مسرحاً لتنفيذه على نطاق واسع منذ أواخر السبعينيات. وإذا ما قمنا بتقييم دقيق للوجود العسكري للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لمدة 20 عاماً في أفغانستان، فسوف نستنتج أنه باستثناء فترة الإطاحة بطالبان في عام 2001، لم تكن هناك حرب حقيقية بين طالبان والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ولم نر مؤشرات هزيمة الولايات المتحدة على يد طالبان. إن خطة هزيمة الجيش الأمريكي على يد طالبان هي مجرد خديعة تستخدم لتبرير 20 عاماً من العمليات الأمريكية في أفغانستان.
في الواقع، لم تكن طالبان أبداً قادرة على مواجهة وإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة. فعلى مر السنين، لجأت طالبان إلى حد كبير إلى عمليات التخريب والتفجيرات بعيداً عن القواعد الرئيسية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ويعتقد الكثيرون في أفغانستان اليوم أن رغبة الولايات المتحدة في تحويل طالبان إلى بديل لحكومتها الديكتاتورية في كابول أدت بطالبان إلى احتلال كل أفغانستان بسهولة ويسر. يعتقد الكثيرون أنه بعد كل هذا لا يمكننا الحديث عن هزيمة الولايات المتحدة، ولكن عن تغيير في سياسة الولايات المتحدة في أفغانستان. بالنسبة للعديد من الناس حول العالم، وخاصة الشعب الأفغاني، فإن أطروحة الولايات المتحدة حول مكافحة الإرهاب في أفغانستان غير مقبولة. وفي الواقع، لم يكن هدف الولايات المتحدة في أفغانستان هو محاربة الإرهاب. على العكس من ذلك، كانت نتيجة عشرين عاماً من الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان تقوية غير مسبوقة للإرهاب والأصولية وتحول طالبان من حركة غير منظمة إلى حكومة حقيقية.
نتيجة لذلك، نرى أن هناك غموضاً في تحديد الغرض من الحرب في أفغانستان. فكيف يمكن عندئذ تقييم الهزيمة في مثل هذه الحالة؟ إذا ما شككنا في أطروحة الولايات المتحدة في أفغانستان، فعلينا أن نقدم بديلاً يقوم على أساس منطقي. في هذا الصدد، غالباً ما يتم الإعتقاد أن الموقف الاستراتيجي لأفغانستان هو الذي أدى إلى توجه أكثر من 150 ألف جندي أمريكي إلى أفغانستان، التي تتمتع ببيئة طبيعية صعبة، وأن 11 أيلول ومكافحة الإرهاب لم تكن أكثر من ذريعة. فالهدف الأساسي للاحتلال الأمريكي لأفغانستان هو تحويلها إلى مركز لتصدير الأصولية الإسلامية وخلق توترات في المنطقة وإضعاف خصوم الولايات المتحدة التقليديين، أي إيران وروسيا والصين. من حيث المبدأ، ينبغي ألا تشعر الولايات المتحدة بعدم الرضى عن وجودها لمدة 20 عاماً في أفغانستان، لأنها حققت بالكامل ما يمكن اعتباره هدفها الرئيسي.
ونظراً لموقع أفغانستان الاستراتيجي بين إيران وباكستان والصين ودول آسيا الوسطى، وقربها من روسيا، فإن الولايات المتحدة كانت في أمس الحاجة إلى تحويلها إلى بؤرة متفجرة جاهزة لزعزعة استقرار المنطقة، وباحتلالها وإعدادها لطرف متطرف، متعصب، أصولي، عنيف، سلطوي، متشدد، وبعيد عن قواعد العالم المتحضر اليوم مثل طالبان، يتم تحويل أفغانستان الى مركز لا يمكن إنكاره لمثل هذه الظاهرة. وعلى طريق التمهيد لذلك، زرعت الولايات المتحدة بذور التشنج الذي احتاجته لاحتواء العديد من التيارات في المنطقة، وفي المستقبل ستغرق منطقتنا في اضطراب كبير. في هذه الحالة، ستكون دول المنطقة أكثر اهتماماً بتدعيم وضعها بشكل أكثر من اهتمامها بمواجهة الولايات المتحدة.
ربما يمكن تلخيص سياسة الولايات المتحدة تجاه أفغانستان على أنها تمهيد الطريق لإثارة الاضطرابات في آسيا الوسطى ضد روسيا والصين، واستخدام الأصولية الإسلامية كأداة سياسية في جميع أنحاء منطقة جنوب غرب آسيا وآسيا الوسطى، وإنشاء قاعدة عملياتية لمثل هذا الغرض.
وعلاوة على ذلك، فإنه نتيجة لسياسات الولايات المتحدة أثناء احتلال أفغانستان، يمكننا الحديث عن زرع بذور النظام الرأسمالي النيوليبرالي، والتدمير العملي والنظري لآمال الناس في مسار آخر غير مسار هذه الرأسمالية الجامحة. لقد تم تدمير آخر بقايا البنية التحتية الاقتصادية المختلطة التي تشكلت في أفغانستان على مر السنين، والتي إزدهرت وتطورت في ظل الحكومة التي قادها حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني لأكثر من اثني عشر عاماً. لقد أدى هذا النهج المدمر إلى تغيير التركيب الطبقي للمجتمع الأفغاني، حيث تبلورت طبقة ثرية للغاية، من الدلالين والمقاولين، وأضحت في مركز النظام الحالي، وتحولت إلى عقبة رئيسية أمام التغيير الديمقراطي. لقد تعمقت الفجوة الطبقية بشكل كبير، بحيث أصبح اليوم أكثر من 60٪ من شعبنا تحت خط الفقر. وبدت بوادر إنهيارالمجتمع الأفغاني. وبناءً على تنفيذ السياسات الأمريكية، تم اتخاذ تدابير واسعة النطاق لتغيير عقلية مجتمعنا وفرض النموذج والقواعد وممارسات الركض وراء الربح في نظام خال من العاطفة للمجتمع الرأسمالي، بحيث تحول جزء من شعبنا من بشر عاديين إلى ذئاب بشرية. لقد بلغت صعوبات هذه المرحلة إلى حد أن تلاشت روح مساعدة الفقراء والمحتاجين، التي كان لهم مكانة سامية في تقاليد وعادات مجتمعنا، وحلت محلها تقاليد النهش والافتراس المؤلم واللامبالاة. هذه الأجواء التي تبلورت خلال السنوات العشرين أدت إلى تغيير في الوعي الإجتماعي حطم الأمال في إرساء قواعد أي قدر من العدالة الاجتماعية.
إن إلقاء نظرة على تاريخ أفغانستان على مدار العشرين عاماً الماضية ، إلى جانب الدول الإسلامية الأخرى، يشير إلى أن الولايات المتحدة ليس لديها مشكلة أخلاقية مع التيارات المتطرفة مثل طالبان، وليس لديها مشكلة مع فكرها وممارستها ضد المرأة والأقوام والمجاميع الأثنية التي تتباين مع أصولهم، ومعارضتها لنمط الحياة والثقافة الحديثة، فهذه الأمور وضعتها الولايات المتحدة على الرف، مادام إنها لا تصطدم بمصالحها. وطالبان فئة من نفس هذه الطينة، ومن السهل على الولايات المتحدة التوصل إلى إتفاق معها. فالأمريكان أنفسهم هم من صنع هذه الشراذم.
لا شك في أن الولايات المتحدة قد فشلت في أفغانستان. لكن هذا الفشل من نوع مختلف، وليس هو ما يجري طرحه على العالم كل يوم. لقد عانت الولايات المتحدة من هزيمة معنوية في أفغانستان. هذا الفشل الأخلاقي لا يقتصر على القتل الوحشي لشعبنا. فهزيمة الولايات المتحدة تكمن أيضاً في حقيقة أنها لم تستطع إثبات أنها أتت بالفعل إلى أفغانستان لمحاربة الإرهاب. فشل الولايات المتحدة تكمن في عدم قدرتها على إقناع الرأي العام العالمي بصحة سياساتها تجاه أفغانستان. كما يعني فشل الولايات المتحدة أن سياستها أحاطها الإبهام في جميع مراحل وجودها في أفغانستان. وهناك غموض ليس فقط في سياسة الولايات المتحدة، ولكن أيضاً في سلوكها العملي. على سبيل المثال، الغموض في التعرف على من هو صديق أمريكا وعدوها، والغموض في عمل الولايات المتحدة على نطاق أوسع مثل إضفاء الطابع المؤسسي على الديمقراطية وحرية التعبير، وما إلى ذلك.
في هذا الصدد، هناك بالفعل قدر كبير من الغموض حول مصير القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان. وينص اتفاق الدوحة، الموقع في شباط عام 2020 بين طالبان والمبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد، على أن الولايات المتحدة ستغلق خمسا من قواعدها التسع في أفغانستان. بادئ ذي بدء، هناك قدر كبير من الغموض في عدد القواعد العسكرية. فلا أحد يعرف عدد القواعد العسكرية التي بنتها الولايات المتحدة في أفغانستان وعدد هذه القواعد المحفوظة الآن وأين توجد. كما أن مصير الاتفاقية الأمنية الموقعة بين أفغانستان والولايات المتحدة، والتي تفتح على أي حال الباب للتدخل الأمريكي في أفغانستان، موضع شك كبير ولم يتم التطرق إليها بشكل متعمد في محادثات الدوحة.
نتيجة لذلك، أدت السياسات الغامضة والسرية للولايات المتحدة في أفغانستان إلى أن يمر الشعب الأفغاني بفترة من التكهنات المؤلمة ولحظات انتظار صعبة للغاية. اليوم ، يجد شعب أفغانستان نفسه على حافة الجحيم. هل ستكون طالبان اليوم على غرار طالبان الأمس، أم أنها تغيرت كما تغير العالم؟ أحداث الأيام القادمة ستعطي الإجابة اللازمة على هذا السؤال. ولكن يمكن القول على وجه اليقين إنه، بالاستناد إلى معايير علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، لا يمكن أن تكون القدرة على التغيير في موقف باحث ميداني أو طالب مرحلة قوياً جداً. في هذه الأيام، بسبب الأوامر الصادرة إلى طالبان، يتم تصويرهم على أنهم أناس صبورون وذو سلوك غير قبيح، لكن المعاملة العنيفة لطالبان تشق طريقها تدريجياً بمرور الوقت. ويمكن أن نستنتج أن أياماً صعبة للغاية في إنتظار شعبنا. فكيف سيكون رد فعل الأمريكان على هذا الوضع، وهم الذين كان لهم حتى الآن تأثير كبير على مجريات الأحداث في أفغانستان، وربما لفترة أخرى مديدة ؟ هل سيسمحون بفتح أبواب الجحيم أمام الشعب الأفغاني؟ أم أنهم سيدعون طالبان إلى قدر من ضبط النفس، حليفهم الجديد على أي حال؟ ستظهر الحياة في الأيام والأشهر القادمة الحقيقة.
*أسد الله كشتمند من ولادة كابل عام 1940، حصل على شهادة الماجستير في الزراعة من إحدى الجامعات الفرنسية. عضو سابق في اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، ومعاون الدائرة الأممية للحزب، ثم تولى منصب سفير أفغانستان في المجر وإيران وإثيوبيا. وهو الآن مستقر في لندن-المملكة المتحدة(م).