في شرح السياسة الخارجية الجديدة للديمقراطيين لعام 2021، استشهد مستشار الأمن القومي لبايدن في مقالة له بـ "صلاة الصفاء"‎‎ (Serenity Prayer). هذه الصلاة التي وردت في مصادر مختلفة وهي كالتالي: "اللهم ألهمنا العقل كي نعرف الفرق بين ما نستطيع تغييره وما لا نستطيع".

وفي المقال نفسه، يقول المستشار إنه عندما طالب موظفو الأمن القومي في اجتماع غرفة الأزمات بالبيت الأبيض بالمزيد من الأموال والائتمان من باراك أوباما لأفغانستان، اعترض على ذلك أوباما قائلاً: "لدينا العديد من الأولويات المحلية ولا يمكنني زيادة ميزانية أفغانستان. أنني الشخص الوحيد الذي يعرف ما يجب وما لا ينبغي أن ننفقه في الولايات المتحدة.

تشير هذه الأمور وغيرها، التي سيتم توضيحها أدناه، إلى بروز قضية أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية وهي: أن أمريكا اليوم ليست أمريكا عام 1951. فالنظام الدولي اليوم متعدد الأقطاب (أمريكا والصين وروسيا)، فهو أيضاً هرمي (ظهور الهند والبرازيل وكوريا الجنوبية، إلخ). إن تبوء المركز الأول في عام 1951 واستمرار تبوء الولايات المتحدة المركز الأول عام 2021 لا ينطويان على ظروف متساوية. إن بايدن الديمقراطي الذي يقف على يمين وسط الطيف السياسي الأمريكي ((Right of the Center، وكذلك الكتلة الديموقراطية ككل، تبنت هذا التغيير، وإن السياسات التي تم تبنيها خلال الأشهر السبعة الماضية تعكس هذه النظرة العالمية الجديدة للأمور. إنهم يسعون إلى تحقيق توازن بين الالتزامات الخارجية والموارد المتاحة. ويشير بول كينيدي، أستاذ العلاقات الدولية:"لقد فقد العثمانيون والسوفييت والبريطانيون قوتهم تدريجياً عندما تجاوزت التزاماتهم إمكانياتهم الواقعية".

ومن أجل فهم مكانة أفغانستان وإيران والشرق الأوسط في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يصبح الاستنباط الدقيق لهيكل صنع القرار "الداخلي" الأمريكية أمرا أساسيا، وليس هذا بالضرورة يتعلق بما يحدث في أفغانستان وإيران والشرق الأوسط. هناك مبدأ راسخ نسبياً في نصوص السياسة الخارجية: سواء في كل من الدول الديمقراطية أو غير الديمقراطية، فإن اتخاذ القرار في السياسة الخارجية يتم في غرف صغيرة وبين عدد محدود من المسؤولين. ولكن السؤال المهم اللاحق هو: في مصلحة من يصب هذا القرار وفي مصلحة أية تيارات اجتماعية؟

يعتقد البعض في وسائل الإعلام، أن الولايات المتحدة فشلت أو هربت من أفغانستان، أو وصلت إلى طريق مسدود، أو فشلت في بناء الدولة الأفغانية. ربما لو قمنا بتلخيص ما قد يصل إلى 80٪ من أسباب الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق في عامي 2001 و2003 في جملة واحدة، يمكن وضعها على هذا النحو: السبب هو النسيج شديد التعقيد لشبكة النفط والغاز والطاقة والأسلحة في أمريكا لإدارة بوش وخاصة وجود نائبه ديك تشيني. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من حوالي 2.5 (اثنان ونصف تريليون دولار) أنفقت في أفغانستان والعراق قد عادت إلى الولايات المتحدة نفسها. وقد صنع الآلاف من المقاولين المعدات وزودوا القوات العسكرية والمدنية بمنتجاتهم. وتم الاستعانة بالشركات الأمريكية لتنفيذ مئات المشاريع في الخارج. يبقى أن نرى ما إذا كان أولئك الذين يعارضون انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان هم أعضاء في مجلس إدارة شركات المعدات الكبيرة أم لا. لقد كان تدخل الولايات المتحدة في أحداث عام 1953 وعام 1978 في إيران قد بلغ 95٪، لمنع نفوذ ودخول الاتحاد السوفيتي والشيوعية في إيران. وبعبارة أخرى، فإن الأولويات والقضايا الداخلية الحاكمة في أمريكا هي المهمة، وليس الديناميكية الداخلية في إيران، كتاريخ المشروطة والنزعات التحررية وعوامل أخرى. في الداخل الإيراني

وبالتالي، فإن فهم ما اتخذ من قرارات في غرفة الأزمات في البيت الأبيض لصالح أي تيار والهدف منه يضئ لنا الطريق لفهم جوهر السياسة الأمريكية، ويسهل علينا معرفة أولوياتها وسياستها الخارجية. في التطورات الأخيرة، كان السبب الرئيسي لفشل الاتفاقية النووية مع إيران هو تجاهل عملية صنع القرار من شخص باراك أوباما من ناحية، والاعتماد المفرط على العمل الإعلامي لمجموعة الضغط التي تصرفت على شاكلة تلاميذ المدارس الابتدائية. من الذي استفاد من صنع القرار الأمريكي في 2015 في حالة الاتفاقية النووية مع إيران؟ الجواب: رئيس الولايات المتحدة نفسه. وهل كان الكونغرس على اتفاق معه؟ لا. هل كانت هناك مجموعة ضغط تدعمه؟ لا. وفي حالة إيران، هل كانت مجموعة الضغط المرتبطة بشركة بوينج مهمة، أم مجموعة الضغط اليهودية؟ اليهودية بلا شك. وسواء أكان هذا الرأي على صواب أم خطأ، فلا يمكن لأي رئيس أمريكي في تلك الغرفة الصغيرة مع فريق السياسة الخارجية أن يتوصل إلى تفاهم دائم مع إيران دون موافقة اللوبي اليهودي. وعندما أرسل أوباما فريقه إلى مجلس الشيوخ لكسب تأييد أعضاء مجلس الشيوخ، كان أربعة أعضاء فقط (من أصل 100) حاضرين للموافقة على صحة الاتفاقية النووية مع إيران.

لطالما تحدثت إدارة بايدن عن مغادرة أفغانستان، وربما دون إعلان علني، وسعى بايدن إلى تحويل الميزانيات العسكرية الإضافية من الشرق الأوسط إلى مشاريع تنموية ضخمة داخل الولايات المتحدة مهدت الطريق للنشاط الاقتصادي ونمو العمالة وتوليد الدخل ونفقات المواجهة مع الصين. ويحرص فريق السياسة الخارجية والأمن القومي والاقتصادي لبايدن على شرح الأولويات والالتزام بها. ووضع مستشار الأمن القومي لإدارة بايدن في مؤسسة كارنيجي، إلى جانب آخرين، إطاراً للسياسة الخارجية لصالح الطبقة الوسطى الأمريكية. وقال إنه في أي نهج للسياسة الخارجية، يجب أن نرى ما إذا كانت السياسة الخارجية تصب في مصلحة الشركات الكبيرة مثل وول مارت (Walmart) في النشاط الخارجي وفتح فروع جديدة لها بانتظام خارج الولايات المتحدة، أم لصالح طبقة في المجتمع الأمريكي ذات الدخل المتوسط والتي تتمسك بالقيم والآمال الأمريكية على أسس الحداثة والعمل الجاد.

ويمكن الإشارة إلى أن اثنين من منظري فريق بايدن، هما جيك سوليفان وويليام بيرنز، وكلاهما عملا قبل هذه الإدارة في مؤسسة كارنيجي المعروفة بتمسكها بالقيم الأمريكية. وكلاهما يؤيدان بقوة الدبلوماسية، والتعددية، وتوفير الحوافز لحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت بالواقعية وتحديد الأولويات. إنهما على اعتقاد بأن الأساليب العسكرية ليست قادرة دائماً على حل الأزمات الدولية.

لقد كلفت جائحة Covid-19 الحكومة الأمريكية حوالي 5-6 تريليون دولار حتى الآن. وإذا كان بايدن يريد الحفاظ على هيمنة الديمقراطيين على الكونغرس في العام المقبل، وتجاوز النمو الاقتصادي مستوى 2٪ أو حتى 3٪ بحلول عام 2024، والسيطرة على تفشي جائحة Covid-19، فسيتعين عليه إتباع نهج الانضباط المالي، وإعطاء الأولوية للإنفاق الوطني، والتركيز على التخطيط. وفي هذا السياق، سيحتل الشرق الأوسط في أحسن الأحوال بين 5 و10 في المائة من أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

كما تعتبر الصين والإدارة الصينية محور السياسة الخارجية الأمريكية. إن الصين، على عكس الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، والذي لم يكن له تقريباً أية علاقات اقتصادية مع الكتلة الغربية. فالصين متجذرة في أعماق الاقتصاديات الغربية. واستثمرت مؤسسات الضمان الاجتماعي الأمريكية حوالي تريليون دولار في الشركات الصينية لدفع معاشات الموظفين الأمريكيين. وأضحت الصين مصدراً رئيسياً لتمويل حكومة الولايات المتحدة. إن صنع السياسة وإدارة العلاقات مع الصين بالنسبة للولايات المتحدة لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي أو روسيا.

وتعتبر قضية تايوان أخطر أزمة أمنية في علاقات الصين مع الولايات المتحدة. الصينيون مشغولون ببرامج السيبري على نطاق واسع، والمواجهة مع السفن التايوانية، واختراق وسائل التواصل الاجتماعي للتايوانيين، وكسر حاجز الصوت حتى على أساس يومي. وبنى الصينيون عشرات الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي، واعتبروها ضمن أقاليمهم البحرية، ولديهم نزاعات يومية مع الأمريكيين حول تفسيرهم لقانون البحار. وإذا ما احتل الصينيون تايوان، فأي رد فعل أميركي سيواجهونه؟

وفي أوروبا الشرقية، تعتبر أوكرانيا أهم قضية أمنية أمريكية مع روسيا. لقد شكلت استثمارات روسيا الضخمة في الصناعة العسكرية وهيمنتها المتزايدة على موارد وممرات القطب الشمالي تحديات جديدة للولايات المتحدة في الساحة الجيوسياسية في أوروبا وأوراسيا. في هذا الوضع الهش مع الصين وروسيا، فإن أكبر كابوس أمام حكومة بايدن هو ارتفاع أسعار النفط. إذ لا يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى الإضرار بالنمو الاقتصادي الأمريكي فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى تحسين السياسات المحلية لصالح الجمهوريين. في هذا السياق، تسعى حكومة بايدن إلى معالجة الأولويات التالية حسب الترتيب:

إنشاء كتل متعددة في آسيا وأوروبا لتقليل نفوذ الصين وإبطاء نمو صندوق النقد الأجنبي الصيني من خلال تكثيف مراكز التصنيع وسلاسل التوريد الجديدة للسلع والخدمات. إن الهند في آسيا وألمانيا في أوروبا شريكان جادان ومحتملان في هذه الاستراتيجية، لكن كلاهما وجدا الكثير من المحاور المالية والإنتاجية الجديدة لدرجة أنهما قد يحاولان العمل مع كل من الولايات المتحدة والصين من خلال دبلوماسية متشابكة. وإذا ما تم تشكيل هذه الكتل التعددية الأمريكية في جميع القارات الخمس، فسوف يحتاج نجاحه إلى فترة تمتد إلى 5-10 سنوات. ومن غير الواضح ما إذا كان الديمقراطيون سيستمرون في الحكم في عام 2024 أو أن يتولى الجمهوريون بأولويات جديدة. ولقد أشار مسؤول ألماني رفيع المستوى للكاتب إلى أننا لا نعرف ماذا سيكون عليه اتجاه السياسة الخارجية للولايات المتحدة في تشرين الثاني عام 2024. لذلك يجب علينا اتباع استراتيجيتين متوازيتين: أ) إقامة علاقات مكثفة مع الآسيويين، وب) إقامة ترابط بين الصناعة والمصارف الألمانية والأمريكية من أجل حماية مصالحنا بمعزل عن التقلبات السياسية، بحيث إن أية حكومة تصل إلى السلطة، سيتعين على الولايات المتحدة الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع ألمانيا.

هذا إلى جانب الحد من خيارات روسيا في أوروبا الشرقية والوسطى من خلال الحفاظ على التزامات الناتو، والتعاون مع تركيا، وتوسيع العلاقات في مجال الطاقة وكافة العلاقات الاقتصادية مع دول أوروبا الشرقية والوسطى. إن تقييد روسيا مشروع أسهل بكثير من تقييد الصين لأن موسكو لا تمتلك القدرة على عمل اقتصادي طويل الأجل ووجود عسكري طويل الأجل في الخارج. ستكون المناورات السياسية والتدخل الإلكتروني وحرية الحركة في القطب الشمالي في صُلب أنشطة روسيا. من ناحية أخرى، قد لا يكون من الممكن تصور قيام تحالف بين موسكو وبكين، لأنه في مثل هذه الحالة ستكون روسيا هي القوة الثانية، ولن يبرر مجدها التاريخي وحجمها الجغرافي وقوتها النووية / العسكرية القوية مثل هذا الموقف. وعلى عكس الصين، التي تمتلك وستتمتع بقدرات كبيرة في مجال تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي وG5 والإنترنت، فإن روسيا تتخلف كثيراً عن الصين والولايات المتحدة في هذا النوع من التكنولوجيا، وبغض النظر عن مدى صعوبة محاولاتها، فلن تتمكن من الوصول إلى موقع متقدم كما هو الحال في وادي السيليكون في الولايات المتحدة. ويتمثل التحدي الكبير الذي تواجهه واشنطن في مواءمة الأوروبيين مع روسيا وربما إيجاد شريك موثوق به في تركيا للحد من نفوذ موسكو. ويبدو أن إدارة بايدن لديها شركاء موثوق بهم في مجلسي الكونغرس والشيوخ بقدر ما يتعلق بالموقف من الصين وروسيا.

في هذا السياق من العلاقات الواسعة مع القوى على المسرح الدولي، والتركيز على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي، تسعى واشنطن إلى شرق أوسط سلمي وخالٍ من المتاعب وقليل الكلفة ولا "يلوث نفسه بأزمات لا نهاية لها وبحكومات غير فعالة". وهكذا يبدو أن حكومة بايدن أسندت مهمة أفغانستان إلى باكستان للتخلص من تكاليفها العسكرية والسياسية وبأموال الدول العربية وربما الصين. ولدى الولايات المتحدة قواعد عسكرية في 70 دولة، وهي تسعى إلى اختيار القواعد المهمة من بينها. إن الطريق مفتوح الآن أمام النفوذ الصيني والروسي في أفغانستان. كما جعلت الولايات المتحدة العراق أقرب إلى التعامل مع الدول العربية في الخليج والأردن ومصر لعلاج مشاكله وتوفير العلاج الذاتي له.

أما فيما يتعلق بإيران، ففي أواخر عام 2020، انسحبت إدارة ترامب من اتفاقية الأجواء المفتوحة (Open Skies Treaty). لقد سمحت هذه المعاهدة لـ 34 من أعضائها بالتحليق فوق سماء بعضهم البعض والتقاط الصور مع بعضهم البعض، بالتنسيق المسبق وفي ظل ظروف مرتبة مسبقاً. وكان أحد الأسباب التي دفعت إدارة ترامب للحصول على دعم الكونجرس هو الزيادة الكبيرة في القدرات التكنولوجية الأمريكية في الفضاء عبر الأقمار الصناعية، والتي عطلت مثل هذه الرحلات الجوية، والتي ساعدت الولايات المتحدة على تقييد تأثير 196 مورد منها منذ دخول المعاهدة حيز التنفيذ في عام 2002. في هذا الصدد، فإن أحد أسباب انسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط هو التقنيات الجديدة: طائرات بدون طيار يمكنها استهداف أي مكان في المنطقة في أقل من ثلاث ساعات، أو أقمار صناعية يمكنها مراقبة حركة الدول والقوات على مدار 24 ساعة في اليوم. وسيتم بعد ذلك مراجعة هذه المعلومات واتخاذ قرار بشأنها في واشنطن.

قد تغادر القوات الأمريكية الشرق الأوسط بالكامل، لكن ستستمر المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية الواسعة النطاق في شبه الجزيرة العربية، والتي لا تشكل أي تهديد لها في تلك البلدان، وهي مصدر دخل لواشنطن. وفي الوقت نفسه، ستستمر المخابرات الأمريكية والتطويق السيبراني للشرق الأوسط بأكمله قائماً.

وتركز استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران على منعها من أن تصبح دولة نووية. إن تمديد الاتفاقية النووية، والاهتمام بالمفاوضات مع إيران، واستمرار العقوبات ضدها، وتنفيذ العقوبات الجديدة، والحرب الإلكترونية بالتعاون مع الشركاء الإقليميين، هي روافع واشنطن في هذه الاستراتيجية. كما تعارض الصين وروسيا بشدة تحويل إيران إلى دولة نووية. وبالنظر إلى تاريخ روسيا الطويل في الانخراط في المجتمع الإيراني، فإن تعاون موسكو الشامل مع الغرب وشركائها الإقليميين لمنع إيران من أن تصبح قوة نووية أمر يبدو أمراً ممكناً تماماً.

ولعل أهم قضية وأولوية في سياسة إيران الخارجية، بحسب رأي الكاتب، هي العلاقات المالية والمصرفية مع المحيط الدولي، والتي لا يمكن حلها سواء من خلال روسيا أو الصين. والأمريكيون ليسوا في عجلة من أمرهم لحل المشاكل مع إيران. ويعتبر الأمريكان أنه باستخدام المراقبة الاستخباراتية والأجهزة السيبرانية، يمكنهم إدارة خلافاتهم مع إيران بالتوازي مع المفاوضات المحتملة، على الورق على الأقل. الهدف هو التقليل التدريجي من اعتماد أفغانستان والعراق على إيران بمرور الوقت. أما فيما يتعلق بإيران، فالولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير الهيكل السياسي ولا تعتبر ذلك ممكناً. فالغرض والأفق هو التغيير في التوجه السياسي. وتنتهج أوروبا السياسة نفسها لأسباب بقدر ما يتعلق بالأمن والهجرة. من هذا المنظور، يمكن أن نستنتج أن دول المنطقة تسعى إلى خلق حالة من انعدام الأمن لإيران بدلاً من الولايات المتحدة تحديداً. وفي الوقت نفسه، يجب ألا يغيب عن البال أن حكومة بايدن هي التي "أوعزت" إلى المملكة العربية السعودية بفتح باب الحوار مع إيران.

بالنظر إلى أن حكومة بايدن ستبقى في السلطة لمدة ثلاث سنوات ونصف أخرى على الأقل، وربما 7.5 سنوات أخرى في ولاية ثانية، فقد أعطت الأولوية لإعادة الإعمار الاقتصادي الداخلي، والتعامل مع الإدارة الصينية الروسية، والحفاظ على الهدوء في الشرق الأوسط. فكيف ستقوم إيران بإعادة النظر بسياستها الخارجية ضمن هدف التنمية الاقتصادية؟ وهل تريد التفكير في ذلك في الشهرين المقبلين أم في خلال العشر سنوات القادمة؟ وهل تريد التفكير في إطار الصلة بالهدف الاستراتيجي؟ وهل تبحث عن علاج أم عن مسكن؟

أياً كانت السياسة التي تنتهجها إيران، فإنها ستواجه حكومة بايدن التي تركز على الداخل لمدة 3.5 سنوات قادمة على الأقل. ولا يبدو أن الصين وروسيا ستتخذان خطوات تربو إلى مستوى "العلاقات الاستراتيجية" مع إيران بسبب مصالحهما الواسعة مع الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، على الرغم من أن كلا علماء النفس يدركان أهمية الشخصية الإيرانية. قد يتم تحديد المشاريع وحتى اكتمالها في إيران، ويتم إجراء بعض التغييرات، لكن إيران لا تستطيع حل المشكلات الأساسية للاقتصاد الإيراني.

على المدى البعيد، لن تتمتع إيران بأمن قومي قوي طالما أنها لا تمتلك اقتصاداً يحتاجه الآخرون؛ هذا هو المسار الذي سلكته البرازيل، وإندونيسيا، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، وعلى نطاق أوسع، الهند والصين، حيث جعل الغربيين يعتمدون عليهم. هذه حقيقة عالمية. إن النموذج الصيني لهذا النوع من الحكومات لا يحتاج حتى إلى الديمقراطية. فبدون حل القضايا الدولية، لن تتمكن إيران من حيث المبدأ من القيام بأنشطة اقتصادية مستدامة في المنطقة.

يتطلب مستقبل إيران المستقر والآمن نظرية شاملة تفهم أولاً حقائق السياق العالمي ثم تكييفها مع السياقات الإقليمية والمحلية. وسيكون فهم ضرورات الاقتصاد الدولي هو الأساس لفهم حقائق "الطبق" العالمي. لقد كان أخطر ضعف نظري للحكومة الثانية عشرة الإيرانية هو عدم إلمامها بتعقيدات الاقتصاد الدولي. فمستقبل إيران يحتاج إلى عمالقة نظريين لرسم خريطة للحقائق الداخلية والخارجية معاً؛ وهو المسار الذي اختطته فيتنام ونفذته في عام 1995.

بالنسبة لأولئك الذين لا يمتلكون التخصص في العلاقات الدولية، فإن مشاهدة مقطع فيديو مدته 3 ساعات و35 دقيقة و19 ثانية لأمير أصلان أفشار، آخر رئيس لتشريفات البلاط الامبراطوري البهلوي الثاني على موقع يوتيوب، قد يكون مجرد دعوة للصمت والحذر؛ وقد لا يكون وسيلة للحكم على التعقيدات الداخلية للدول الأخرى باستخدام جهاز التحكم عن بعد وتحليله دقيقاً. ويشير أمير أصلان أفشار سفير إيران في ذروة العلاقات الإستراتيجية بين إيران والولايات المتحدة في واشنطن (1963-1973) إن:" محمد رضا شاه طلب منه التحدث إلى المسؤولين الأمريكيين حول أسباب تأخير تسليم الأسلحة إلى إيران رغم دفع جميع الأقساط ببطء خلال اجتماع مع وليام فولبرايت، الرئيس القوي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. وقد وبخ فولبرايت أمير أصلان أفشار بسبب شراء إيران الكثير من الأسلحة من السوفييت. بعد بضعة أسئلة وأجوبة، أدرك أفشار أن فولبرايت أخطأ في ذروة العلاقات إيران والعراق، وهذا مثال على الأولويات أمام البلدان.

قام الأسيويون على مدى 30 عاماً بإنجاز عمل نفذه الغربيون حلال قرنين من الزمن في التصنيع، وبدون ضجة وبشكل تدريجي، وبانسجام سياسي وانضباط في العمل، ليس فقط في أوروبا وأمريكا ولكن أيضاً في إفريقيا، التي سيتضاعف عدد سكانها إلى حوالي ملياري نسمة بحلول عام 2050. سيعتمد الناس على سلعهم وخدماتهم وأعمالهم المصرفية، لدرجة أن جوزيف بوريل، رئيس لجنة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اعترف مؤخراً في ندوة عبر الإنترنت: بينما تفكر الشركات الغربية في إرضاء مساهميها في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام، يخطط الصينيون للسنوات العشرين القادمة.

في أحد الاجتماعات التي دارت في دافوس، سأل وزير خارجية الولايات المتحدة الكاتب: ما هو برأيك أهم نقطة ضعف في السياسة الخارجية الأمريكية؟ كانت الإجابة نظرية، ومزيج من مبدأ القوة وعلم النفس، وقلت له: إذا قارنت نفسك بالإنجليز، فستصل إلى العديد من النقاط والاختلافات في الفكر والسلوك. فالبريطانيون يدرسون الهدف والدولة بتفاصيله الثقافية والتاريخية ثم يوفقون بين مصالحهم والواقع الموضوعي. في حين إن الولايات المتحدة تفرض سياستها الخارجية بما تتمتع من إطار جغرافي واسع وقدرة عسكرية ضخمة ومصادر مالية ضخمة وتحديث وأجهزة معقدة ونظام بيروقراطي وتتخذ القرارات حول سياستها الخارجية. كما تتخذ الصين واليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا قراراتها المتعلقة بعلاقاتها الدولية وتديرها على غرار البريطانيين. كلما زادت القوة، يجب أن يصبح علم النفس السلوكي أكثر تعقيداً. في السنوات القادمة، سيستفيد الديمقراطيون أكثر من القوة الناعمة لأمريكا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمود سريع القلم، أستاذ العلاقات الدولية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة شهيد بهشتي (الجامعة الوطنية الإيرانية سابقًا) منذ عام 1987. ولد في طهران - إيران في عام 1959. حصل على شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية / الإدارة من جامعة ولاية كاليفورنيا، وشهادة الماجستير والدكتوراه من جامعة نورثريدج في عام 1980. وحصل على درجات علمية في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا في عام 1982 وفي عام 1987 على التوالي. أكمل محمود سريع القلم أيضاً برنامج ما بعد الدكتوراه في جامعة أوهايو في عام 1997. وخلال العام الدراسي 2009-2010، قام بالتدريس في جامعة الكويت.

إن محمود سريع القلم متخصص في السياسة الدولية للشرق الأوسط والسياسة الخارجية الإيرانية والثقافة السياسية. وقد كتب على نطاق واسع بالفارسية والعربية والإنجليزية. وهو عضو في جمعية الدراسات الدولية (الولايات المتحدة)، ومجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي (سويسرا) وباحث غير مقيم في ASERI (إيطاليا).

 

عرض مقالات: