مقاطعة الانتخابات من عدمها هي موقف سياسي تتخذه الأحزاب والمنظمات وبعض الشخصيات من العملية السياسية وكيفية إدارتها. النقاش بين القوى الديمقراطية-المدنية يدور حول طريقة التغيير من نظام المحاصصة الحالي إلى نظام ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية، أمّا الأحزاب الماسكة للسلطة، من طائفية وقومية، تتحدّث عن الإصلاح، والمقصود بالإصلاح بالنسبة لها هو عبارة عن تغيير بعض الوجوه ومحاولة إقناع قوى تتشكك بنزاهة الانتخابات بمنحها بعض المقاعد لتجميل صورة البرلمان القادم لتضمن الحفاظ على امتيازاتها، أي نحن نتحدّث عن امتيازات فئات بيروقراطية وطفيلية والتي أصبح الكثير من أفرادها بمصاف المليارديرات في العالم، وذلك عن طريق السرقات والاحتيالات والتهديدات وتحريم ملايين الكسبة والكادحين من لقمة عيشهم.
إنّ الأوضاع التي عاشتها جماهير شعبنا هي التي أججت انتفاضة 25 شباط 2011 والمطالبة "بإصلاح العملية السياسية"، لكنّ الأوضاع زادت سوءا من كافة النواحي، خاصة الأمنية والاقتصادية وزادت الفوارق الطبقية في المجتمع، وحينها بادر الحزب الشيوعي لتجديد حملة الحراك الجماهيري وقيام انتفاضة تمّوز 2015 التي قمعت أيضا بكل الأساليب الوحشية والاحتيال وسقوط شهداء. بعد الانتفاضة أصبح شعار "الإصلاح" مجرّد يافطة ترفعها حتى أحزاب السلطة، ورغم ذلك استمرّ الحراك والاعتصام في بعض المحافظات حتى قيام انتفاضة تشرين 2019.
لعب الحراك الجماهيري دورا كبيرا في زيادة وعي الناس وقناعتهم بعدم جدوى الإصلاح الذي أصبح مجرّد أكذوبة، لذا كانت مقاطعة الأغلبية، حوالي 80%، لانتخابات 2018 أسلوبا آخر للاحتجاج على الأوضاع المأساوية التي يعيشها العراق منذ عام 2003 وتعمّق أزمة الحكم من كل نواحيها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية والتي مهّدت لقيام انتفاضة الأول من تشرين الأول 2019 المجيدة.
"أريد وطن"، كان هذا شعار الانتفاضة الرئيسي الذي لاقى صدا واسعا في داخل وخارج العراق لأنّ له دلالات واقعية أولها شعور المواطن بالغربة وهو على أرض وطنه، أي مغترب عن ثرواته وخيراته ليعيش في حالة فقر في بلد يعد واحدا من عشر بلدان العالم الغنية بثرواتها الطبيعية (حسب معهد الطاقة الأمريكي. وحسب التقارير الجيولوجيين العراقيين يمتلك العراق 600 مليون طن من الكبريت في حقول المشراق أي ما يعادل 50% من الاحتياطي العالمي، ويعتبر بعض علماء الاقتصاد بأن استثمار الكبريت واستخداماته الواسعة يعد مقاسا للتقدّم الصناعي للبلد ومستواه الاقتصادي!!!)، هذا بالإضافة إلى حرمانه من حرية التعبير وملاحقته وفقدانه للأمن والأمان، وتحت هذه الأوضاع عاش و يعيش الملايين من العراقيين لتلاحقهم البطالة والفقر الذي يقدّر، رسميا، ب 30% بينما الحقيقية يصل إلى ما يقارب 35%، وبعض المحافظات يصل الفقر فيها إلى أكثر من 50%. بسبب عدم إقدام الأحزاب الحاكمة إلى أي تغيير وتمسكها بنظام المحاصصة منذ فقدت الجماهير ثقتها بهذه الأحزاب وأصبح التغيير هو طريق الخلاص من هذا النظام، والتغيير يأتي عن طريق انتخابات حرة نزيهة، لذا طرح المنتفضون إسقاط حكومة عادل عبد المهدي والتمهيد لإجراء انتخابات مبكرة وفي أجواء آمنة، أي منع استخدام السلاح والمال لترهيب وإغراء الناخبين وبعض المرشحين. أغرقت حكومة عبد المهدي الانتفاضة بالدماء باستشهاد مئات المنتفضين واختطاف عشرات الآخرين فأجمع المنتفضون بطرح مطالب، أهمّها: محاسبة قتلة المتظاهرين، محاسبة الفاسدين، حصر السلاح بيد السلطة، هذا بالإضافة إلى فقدان الثقة بمفوضية الانتخابات لأنّها تشكّل، عادة، عن طريق التحاصص بين الأحزاب الحاكمة لضمان التلاعب بنتائج الانتخابات، وقانون الانتخابات هو الآخر فصّل على مقاس هذه الأحزاب لمنع دخول القوى الوطنية إلى البرلمان التي تعيق إصدار قوانين تضمن امتيازاتهم وتفضح أساليب فسادهم وإخفاء ملفاته وملفات الإرهاب، وكان الحزب الشيوعي قد طرح سابقا أهمية تغيير قانون الانتخابات وإبعاد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عن المحاصصة وأكّدها في وثائق مؤتمره العاشر. لاقت الانتفاضة دعما واسعا من قبل الجماهير بكل أطيافها الدينية والطائفية والقومية من عمّال وفلاّحين وكسبة وموظفين وطلاّب ومثقفين بشتى فئاتهم، والملفت في الانتفاضة المشاركة الواسعة من قبل المرأة رغم كل القيود التي تفرضها العادات المتخلفة، وكان للشباب من الجنسين الحضور الهائل والذي يقدّر بحوالي 90%. الحضور الملاييني للمنتفضين في أكثرية المحافظات يدل على مدى توسع الوعي الجماهيري وقناعتها بضرورة التغيير وعدم ثقتها بوعود الأحزاب الحاكمة لأنّها أصبحت مجرّد وعود انتخابية لا تمسّ الوطن والمواطن بشيء، وبهذا أصبح الصراع الطبقي السلمي أكثر وضوحا لدى أوسع الجماهير.
تحت ضغط الانتفاضة قدّم عبد المهدي استقالته وأصبح رئيس وزراء تصريف الأعمال، إلاّ أنّه لم يتخلّى عن محاولاته لقمع الانتفاضة. وبعد جدال وصراعات طويلة بين الأحزاب الحاكمة وتقديمها بعض الوجوه لشغل منصب رئاسة مجلس الوزراء والتي رفضت من قبل المنتفضين تمّ أخيرا اختيار السيد مصطفى الكاظمي لهذه المهمة والذي هو الآخر رفض من قبل الانتفاضة، ولم يأتي الكاظمي ولا غيره من رؤساء الوزارة السابقين بدون إيماءة من خارج الحدود.
أول حديث للكاظمي بعد استلامه المنصب كان إشادته بالانتفاضة وسلميتها ووعده بتنفيذ مطالب المتظاهرين الأساسية. قام الكاظمي ببعض النشاطات التي توحي بتنفيذ وعوده، مثل تحديده موعد الانتخابات المبكرة في مطلع حزيران2021 الذي رفض من قبل أحزاب المحاصصة لأنّ الظروف لم تكن جميعها لصالحها فأجبرت الكاظمي لتأجيلها حتى العاشر من تشر ين أول القادم لحاجتها إلى وقت أطول لترتيب أوضاعها التي شتتها الانتفاضة، زيارة بعض عائلات الشهداء ووعده بالقبض على القتلة وتشكيل لجان تحقيقية لكشفهم، إطلاق بعض التعيينات التي أصبحت سوق لتجارة الوظائف الحكومية ومصدر زيادة أرباح الفاسدين، إرسال وحدات عسكرية لمراقبة المنافذ الحدودية والتي لم تستطع منع الفاسدين من مواصلة الاستحواذ عليها وغيرها من الإجراءات التي لا تمسّ حياة المواطن والتقليل من معاناته. كان لهذه الإجراءات تأثيرا محدودا جدا على استمرار الانتفاضة لأنّ انتشار وباء كورونا وتقيّد المنتفضين ببعض الإجراءات الوقائية وخوفهم من تحوّله إلى كارثة وطنية، رغم أنّ بعض المنتفضين اعتبروها أهون من حكم الفاسدين، هو الذي لعب الدور الأساسي بالتقليص الكبير في أعداد المتظاهرين وتحوّل الانتفاضة إلى فئات من المتظاهرين تطالب بحقوقها وأصبحت تشبه أوضاع ما قبل انتفاضة تشرين وهي بازدياد مطّرد.
لم يستطع الكاظمي من تنفيذ أي مطلب أساسي للمنتفضين، سواء بتقديم قتلة المتظاهرين للقضاء أو محاسبة الفاسدين أو حصر السلاح بيد السلطة. هذه المطالب غير قابلة للتجزئة، الفاسد يحتمي بالسلاح المنفلت للإفلات من القضاء والحفاظ على أمواله المسروقة والتي جزء منها يذهب لتمويل حملته الانتخابية، والقتلة هم جزء لا يتجزأ من فصائل السلاح المنفلت الذي يستخدم لإرهاب الناخبين وبعض المرشحين واغتيال النشطاء. إذا كان الاعتقاد سابقا بإمكانية التغيير التدريجي عن طريق الانتخابات بدون توفير الشروط الملائمة لإجرائها، أصبح هذا الاعتقاد الآن من الماضي وجاءت انتفاضة تشرين 2019 لتثبت ذلك. أصبحت أجواء الانتخابات "المبكرة" مؤاتية لصالح أحزاب السلطة، أي أنّ هذه الانتخابات لا تغير من الوضع الحالي قيد أنملة. إذن على ماذا نشارك؟
لقد كان موقف الحزب الشيوعي من أجواء إجراء الانتخابات، وليس الموقف من الانتخابات، واضحا في بيان اللجنة المركزية في 3 آب 2020 الذي جاء فيه "أنّ تأمين البيئة الضرورية لتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة فعلا تعبّر عن آراء وخيارات الناخبين مرهون، إلى حدّ كبير، بإجراءات وخطوات فعّالة في مجالات رئيسية يأتي في مقدّمتها الكشف عن قتلة المنتفضين والمتظاهرين ...وفتح ملفات الفساد...وتعهّد الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة" ثم بيانها في 9 أيار 2021 الذي صدر تحت عنوان: "اكشفوا قتلة إيهاب الوزني ومن يقف وراءهم وحاسبوهم فلا مشاركة في الانتخابات من دون ذلك". لم تتوفّر القناعة الكافية بإمكانية الكاظمي في توفير أجواء صالحة للانتخابات لأنّ توفيرها يعني تنفيذ المطالب الأساسية للانتفاضة ولكنّه فشل في تنفيذ أي منها لأنها مرتبطة ببعضها وغير قابلة للتجزئة، لذلك قرر الحزب مقاطعة هذه الانتخابات بعد استفتاء كافة منظماته وصدور بيان من اللجنة المركزية بذلك في 24 تمّوز 2021 تحت عنوان: "لا مشاركة في انتخابات لا تكون بوابة للتغيير المنشود".