في حوار أجرته معه مجلة جاكوبين اليسارية الامريكية ونشر في موقعها الألماني، تحدث ألفارو غارسيا لينيرا نائب الرئيس البوليفي السابق ايفو موراليس، في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس حول دروس انقلاب 2019 اليميني   ، وحالة الحكومات التقدمية في أمريكا اللاتينية وأفضل استراتيجية سياسية لقيام حكومة يسارية بإيقاف محاولات الانقلابات اليمينية، وكسر سلطة الاحتكارات، وتمهيد الطريق لمستقبل اشتراكي.

 وقبل ان نقدم عرضا لاهم الموضوعات الواردة في الحوار، دعونا نتعرف على ألفارو غارسيا لينيرا:

  هو أحد أهم المثقفين في أمريكا اللاتينية ومن أكثر الفاعلين السياسيين خبرة في المنطقة. وخلال أربعة عشر عامًا من عمله في حكومة بوليفيا المتعددة القوميات، لم يكن مسؤولاً فقط عن رسم الإستراتيجية السياسية لحكومة إيفو موراليس، بل أيضًا وضع الأسس النظرية للحزب الحاكم "حركة من اجل الاشتراكية"

في الثمانينيات كان غارسيا لينيرا أحد قادة حركة الكفاح المسلح الماركسية "توباك كتاري". وبسبب نشاطه السياسي، أمضى الكثير من سنوات تكوينه الفكري خلف القضبان: وعندما كان يقضي عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة مشاركته في انتفاضة مسلحة ضد حكومة خايمي باز زامورا، كرس وقته لدراسة الماركسية وكتب كتاب (شكل القيمة وشكل المجتمع)، الذي يعد الآن من كلاسيكيًات الماركسية في أمريكا اللاتينية.

 المنابع الفكرية التي تأثر بها غارسيا لينيرا متعددة الجوانب: الماركسية، الموروث الثقافي للسكان الأصليين (الهنود الحمر)، التفكير المستقل لأنطونيو نيغري والاشتراكية الديمقراطية لنيكوس بولانتزاس. ويُعد اليوم من أبرز مفكري اليسار في أمريكا اللاتينية وخارجها.

 طبيعة الانقلاب

 أن الانقلابات هي دائمًا مكائد تآمريه لعدد قليل من الأشخاص، لكنها لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت العوامل الخارجية ملائمة. ولكي ينجح الانقلاب، يجب أن يكون قسم من المجتمع مستعدًا للانفصال عن النظام الدستوري والديمقراطية.

لقد ضمت المجموعة التآمريه المسؤولة عن انقلاب 2019 جنرالات في الجيش والشرطة، ورجال أعمال قاموا برشوة ضباط وقادة، ولويس ألماغرو  سكتير  منظمة الدول الأمريكية، وثيقة الصلة بواشنطن، وعاملين في ووزارة الخارجية، وبعض أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، وحتى رؤساء سابقين. اجتمعت هذه المجموعة الأساسية وادارت القوات اللازمة لتنفيذ الانقلاب.

 والانقلاب لم يأت من فراغ: في السنوات الأربع الماضية رأينا وسطا كبيرًا من المجتمع، ممثلا بالفئات الوسطى التقليدية (تميزا عن الفئات الوسطى الجديدة الصاعدة بفضل السياسات التقدمية)، يعارض بغضب الديمقراطية. وهو ما خلق مناخا من العنف، من خلال نشر اراء وموضوعات عنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الأخرى، دعمت في نهاية المطاف إطاحة مسلحة استبدادية بالسلطة المنتخبة.

وهذه الكتلة الاجتماعية لا تزال موجودة في أوساط الراي العام البوليفي. وعندما أصبحت نتائج انتخابات 2020 معروفة، توجهوا مرة أخرى الى الثكنات العسكرية للدعوة إلى انقلاب آخر. وزعموا في صحفهم وشبكاتهم وجود تزوير انتخابي، مع غياب تام للأدلة. ان الأمر بالنسبة لهم على هذا النحو: إذا انتصر "الهنود الحمر"، فلا بد من وجود احتيالً. لكنهم خسروا وسيستمرون في الخسارة - لأنهم أقلية، ومنحطون كذلك.

رد فعل حكومة اليسار

ما حدث في انقلاب تشرين الثاني 2019 كان هزيمة عسكرية لمشروع سياسي شعبي. تم حشد القوات اليمينية المحافظة لاحتلال المدن والمناطق. كان رد حكومة اليسار على هذه المحاولة خالي من أي إجراءات قسرية؛ وحاولت تشجيع العمل الجماعي ليكون بمثابة كاسر أمواج لمواجهة التظاهرات اليمينية. وكان الهدف امتصاص زخم التظاهرات

لقد كان رد الحكومة سياسيا، ولو بقي الصراع على المستوى السياسي لانتصرت الشرعية. خطأ الحكومة الكبير عدم الانتباه الى ان اليمين المحافظ سيقوم برشوة القوات المسلحة بمبالغ مالية كبيرة. كان هذا هو العامل الجديد في انقلاب عام 2019. في مواجهة انقلاب عام 2008، اتبعت الحكومة تكتيكين: أولاً، حاولت عزل الانقلابين سياسيًا حتى يتم القضاء عليها في النهاية؛ وثانياً، نظمت تعبئة اجتماعية حاشدة للتغلب على الانقلابين. لكن في الانقلاب الأخير، وقبل أن تتمكن الحكومة من إضعافهم سياسيًا، كانوا قد كسبوا الجيش والشرطة إلى جانبهم.

عندما اختاروا الطريق العسكري، كان هناك خياران: إما أن تحشيد السكان لمواجهة الشرطة والجيش او عدمه. هذا القرار كان بيد الرئيس، الذي قال: "لن أرسل رفاقي إلى حتفهم"، لقد كان قرارًا متعمدًا مبنيًا على قناعة أخلاقية. من الناحية النظرية، كان بالإمكان الدخول في مواجهة مفتوحة، ووقوع خسائر فادحة، وموت العديد من الناس. لذلك كان القرار عدم التعبئة واختار الرئيس التنحي.

الطبقة الوسطى التقليدية، التي تشعر بالتهديد من صعود طبقة وسطى جديدة وشعبية من سكان البلاد الأصليين، لا تملك نقابات، لكن لديها هياكلها الخاصة في شكل مجموعات الأحياء السكنية ونوادي كرة القدم بالإضافة إلى شبكاتها الخاصة في المدارس والجامعات. ولم يكن لدى الحكومة آليات للدخول في حوار مع هذه الهياكل لتحييدها سياسياً. لقد تمخض الصراع عن دروس منها.

 الدرس الأول: هو معالجة الأسباب التي أدت بهذه الجماعات إلى الانجراف نحو الفاشية.. إذا توقفت الحكومة عن جهودها لتحقيق العدالة الاجتماعية وحقوق السكان الأصليين، فيمكنها التوقف عن تسمية نفسها بالحكومة التقدمية. ما يمكن فعله، هو الحفاظ على سياستها الخاصة بالحراك الاجتماعي للطبقات الشعبية، وفي الوقت نفسه أيضًا إشراك الطبقة الوسطى التقليدية من أجل تفكيك صلتها السياسية الوثيقة بالتيار اليميني المتطرف.

 التعامل مع الشرطة والجيش أكثر تعقيدًا. لن تمنع أبدًا رجل أعمال ثريًا من رشوتهم بملايين الدولارات. الجيش جزء من الدولة وله ديناميكياته الخاصة. لكن يجب أن تكون السياسة قادرة على التأثير على هذه الديناميكية من خلال احترام المؤسسة العسكرية، ولكن في الوقت نفسه التأثير في تأهيل الجنود من أجل خلق روح جماعية أقل فسادًا وتعزيز التضامن مع مصالح السكان. بمعنى آخر، عليك تغيير التركيبة الطبقية للقوات المسلحة.

 التجربة الملموسة تقول في لحظات المواجهه لا مكان للتجريب والمراهنات على تجارب سابقة. إذا تآمر رجال الأعمال والجنرالات ووقفت الطبقة الوسطى التقليدية المحافظة وراءهم، فعندئذ يجب مواجهة ذلك على الفور بالتعبئة الاجتماعية الجماهيرية.

 هذا ليس مجرد درس للمثقف أو الحكومة أو المرشح، انه قبل كل شيء درس اجتماعي: أن تكون متشككًا وتتحرك للدفاع عما ناضلت من أجله. وهذا ما حدث في أغسطس 2020 عندما تظاهر أنصار الحركة من اجل الاشتراكية وأغلقوا الطرق لمنع حكومة الانقلاب من تأجيل الانتخابات الجديدة. عندما تواصلت الحركة مع الناس والحركات والمنظمات الاجتماعية، كانوا يعرفون ما يجب عليهم فعله. كانوا يعلمون أنه على الرغم من القمع الانقلابيين، يمكنهم ممارسة السلطة السياسية من خلال السيطرة على الأرض.

 حدثت التعبئة الجماهيرية آخر مرة في عام 2000 - لم يكن ذلك ضروريًا في اعوام 2005، 2008، و2009، لكنه كان ضروريا في عام 2019. لقد ضاعت التجربة في غضون ذلك.  بعد الانقلاب، وفي آب 2020، كانت السيطرة على الأراضي مرة أخرى مصدر قوة. لقد استيقظت المعرفة العملية والتكتيكية للمجتمع، وبالتالي يمكن منع مذبحة أو عملية عسكرية أخرى يقدم عليها الانقلابيون.

 يحتاج هذا النوع من المعرفة الجماعية إلى التوسع والتعزيز. إنها ليست مسألة قضايا عسكرية بحته بقدر ما هي مسألة كيف يمكن للمرء أن يقوم بعمل جماعي للدفاع عن نفسه ضد العنف المسلح. في بلد مثل بوليفيا، حيث عدد سكان الريف كبير، وبروليتاريا صناعية سيئة التنظيم، وجد الناس هذه الفرصة لممارسة السلطة بطريقتهم الخاصة. يجب توسيع هذه الاستراتيجية وتحسينها، لمنع الانقلابات التي يقودها العسكر في المستقبل.

 راهن أمريكا اللاتينية

ما يجري في أمريكا اللاتينية موجات تقدمية. ومن الأفضل استخدام مفردة "موجة" بدلا من "دورة"، لان مفردة "دورة" تؤدي إلى الحتمية، بينما تعني "الموجة" شيئًا أكثر ديناميكية.  لقد رأى ماركس في عام 1848 أن الثورات تتقدم في حركات موجية.

هذه الموجة الجديدة التي تعيشها القارة اليوم لا يمكن ولن تكون تكرارًا للموجة السابقة لعدة أسباب. لقد انتهى ازدهار المواد الخام ودخل الاقتصاد في ركود غير مسبوق في السنوات الأخيرة. وليس فقط الظروف، بل اختلف الناس والقادة أيضًا. وربما يكون أخطر تغيير، حدث في طبيعة الخصوم السياسيين: على عكس سنوات 2005 - 2015، عندما طغت الموجة التقدمية على اليمين ولم يكن لديهم إجابات، ووجدوا الآن واحدة - مرتجلة وقصيرة النظر، لكن مع ذلك: اجابتهم ليبرالية جديدة، معادية للديمقراطية والمرأة وعنيفة وعنصرية ومتشددة محافظة.

 اليوم اليسار واليمين مجزئين، وسيتصارع الطرفان مع بعضهما البعض لبعض الوقت ، وسيتعرضان أحيانا للهزيمة، واحيانا أخرى ا ينتصران، لذلك من الخطأ الافتراض امكانية العودة ببساطة إلى الاستقرار السابق والإجماع التقدمي الذي سبق تأسيسه. في السياسة، كل الانتصارات مؤقتة.

 ان العالم يعيش بفعل وباء كورونا وضعا عائم. ونفتقر إلى الأفق. تمر الدقائق، ويستمر الوقت الفعلي،الزمن الاجتماعي لا يزال قائماً لأنه ليس هناك هدف يتم السعي لتحقيقه. العالم مرتبك لأن كل شيء غير مؤكد: هل ستظل لدينا وظيفة غدًا، وهل سيشهد العالم وباء آخر وما إلى ذلك. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث في غضون عام.

 في ظل هذه الظروف، تصبح السياسة مكثفة للغاية تكتيكيا، وفي الوقت نفسه غير محددة للغاية استراتيجيا. من الناحية التكتيكية، حدث ذلك في بوليفيا في غضون عام (حدوث الانقلاب وهزيمة الانقلابين بوسائل سلمية)، وكان من الممكن، في ظل ظروف أخرى، أن يستغرق عشر سنوات. في الأرجنتين، انتهت الحلقة المحافظة التي بدأت بانتخاب ماوريسيو ماكري بعد أربع سنوات، و كان ممكنا أن تستمر أربعة عشر عامًا، أي بعد دورة انتخابية واحدة. ولا يمكن لأحد القول، ما إذا كانت الحلقة التقدمية الحالية ستستمر أكثر من أربع سنوات. الأمر نفسه ينطبق على بوليفيا: من يستطيع أن يستبعد أن ينتهي وجود اليسار في السلطة بعد عامين أو أربعة أو ستة أعوام؟ (مبدأ النصر والهزيمة في اللعبة الانتخابية).

 عدم اليقين الاستراتيجي هذا هو أيضًا عنصر جديد يتعين على الموجة التقدمية الحالية التعامل معه. في عام 2005، وفي غياب أي رد فعل محافظ، بدت حركة اليسار والتقدم وكأنها البديل النهائي للليبرالية الجديدة. لكنها اليوم ليست الوحيدة التي ترشح للانتخابات - فهناك أيضًا حركة محافظة متشددة.

بطريقة ما، بين مصير دونالد ترامب حدود الخطاب السياسي الذي يغذي الكراهية. تعتبر الليبرالية الجديدة المحافظة حلاً طارئًا، لكن اليوم جميع المشاريع السياسية المتاحة هي حلول طارئة. وفي خضم هذه الفوضى، من المهم أن يسعي اليسار للمراجعة، للتغلب على نقاط ضعفه، والبناء على ممارساته الصحيحة في الماضي.

 السؤال ليس إذا كانت هذه دورة جديدة أم يمكن تكرار الدورة السابقة، في ظل ظروف الفوضى التي نعيشها اليوم، تعتمد احتمالات المشروع التقدمي على عاملين، الأول: لكي يتم تنفيذ مشروع يساري، يجب أن يكون هناك أساس للعمل الجماعي. والثاني يجب أن يكون المشروع، مشروعً الشعب، وليس مجرد مشروع للشعب.

 تجربة بوليفيا تبين أن الانقلابات والانتكاسات المؤقتة يمكن أن تحدث، ولكن طالما أن حكومة السكان الأصليين (الهنود الحمر) هي مشروع للطبقات المضطهدة، فإنها ستنتصر في النهاية، لأنها تمتلك دافع تاريخي لا ينضب، قادر على التغلب على الأصعب. هذا لا يعني أن امتلاكك الإدراك الصحيح، سيجعلك تتوقف عن ارتكاب الأخطاء. ستستمر في مواجهة المشاكل وسيستمر سوء الإدارة التكتيكية. لكن طالما أنك تدرك أن هذا المشروع معني بالناس، وان منظماتهم وقدراتهم هي من تتخذ القرارات بشأن مستقبلهم، وبغض النظر عن عدد العقبات التي يمكن أن يخلقها الأعداء. ستكون الحركة دائمًا قادرة، في النهاية، على اتجاوزها.

منذ سنوات طويلة يدور نقاش بشأن الكيفية التي يجب أن تتفاعل بها حكومات الشعب في أمريكا اللاتينية عندما تبادر الطبقات السائدة للهجوم. هل ان تقديم تنازلات امر حتميا؟ أم ينبغي على المرء، على العكس من ذلك، تكثيف الصراع ومحاولة حرمان البرجوازية من قوتها السياسية والمجتمعية؟

إن مسألة كيفية التعامل مع الأوليغارشية مسألة معقدة للغاية. وهذا السؤال لم يواجه الثورات التي نفذت بالوسائل العسكرية إطلاقا، فالانتصار العسكري يحسم الأمر ببساطة ويحل الأوليغارشية. اما تحقيق التحول السياسي عبر انتخابات ديمقراطية، فإن التعايش مع الطبقة الرأسمالية يرافق حكومة يسارية طوال الوقت. لأن الحكومة المنتخبة، لا تستطيع ببساطة حل الرأسمالية بقرار. هذه هي الخلفية التي يجري على أساسها التحول الاجتماعي والسياسي في أمريكا اللاتينية وسيستمر على هذا المنوال.

 لا بد من تصور الاشتراكية الديمقراطية (أي الاشتراكية المتلازمة مع الديمقراطية) على أساس العرض السابق لهذه المشكلة. تحتاج الحكومات التقدمية إيجاد طرق عملية للتعامل مع القطاع الخاص، ليس لأن حقوق الملكية والتصرف مكفولة للطبقة الرأسمالية دستوريًا، بل أيضًا بسبب سلطتها على التنمية الاقتصادية للبلاد.

 يمكن للدولة مواجهة ضغوط اقتصادية معينة، وجعل قوة رجال الأعمال تحت السيطرة، ومساعدة الناس في الدفاع عن عملية التحول الاجتماعي. ويجب على الحكومة التقدمية اتخاذ هذه الإجراءات التكتيكية. ومن أجل القيام بذلك، يجب على الدولة أن تتحكم على الأقل في جزء من الناتج الاقتصادي القومي. وإلا فسوف تطغى عليها القوى الاقتصادية    القائمة، وكثير منها أقوى من الدولة.

 اللحظة الحاسمة بالنسبة للحكومة التقدمية هي اللحظة التي تتمتع بقوة اقتصادية كبيرة بحيث يصعب على الفاعلين الاقتصاديين الكبار التعامل معها من موقع القوة. ولتحقيق ذلك، يجب أن تسيطر الدولة على 30 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي. ومن ثم يمكنها مواجهة القطاع الخاص من موقع السلطة وليس الخضوع. وإذا بدأ رجال الأعمال بالتآمر ، يجب اتخاذ تدابير مضادة ، ووضع جداولهم الضريبية، ممتلكاتهم، وحساباتهم المصرفية تحت المجهر.

 الاشتراكية الديمقراطية ليست شكلاً محددًا من أشكال السياسة، ولكنها تصاعد في لتحولات الاجتماعية، تدفق للديمقراطية من الانتخابات إلى الدولة ومن الدولة إلى الاقتصاد، إلى المصنع، إلى البنك، إلى المال، إلى الملكية وهكذا.

 يمكن للحركة التقدمية أن تتجاوز هذا التعايش التكتيكي فقط عندما لا يناقش حزب واحد، ولا الحكومة بمفردها، بل المجتمع ككل إمكانية إضفاء الطابع الديمقراطي على هذه الثروة. وطالما أن المجتمع لا يدعي ذلك، يمكن للحكومة فقط استبدال الاحتكار الخاص باحتكار الدولة للسلع المشتركة.

 إذا أممت القطاعات الاقتصادية، فإن مواردها تصبح عامة، لكنها تعود للدولة باعتبارها احتكارًا. وهذا لا يلغي المسافة بين العمال ووسائل الإنتاج. تعتمد إمكانية التحرك نحو نظام ملكية مختلف على ما إذا كان المجتمع والعمال في مختلف قطاعات الاقتصاد يدفعون نحو الإدارة الجماعية للثروة. فإذا كانوا مستعدين للسير في هذا الاتجاه، فإن مهمة الحكومة التقدمية هي الشروع في هذه العملية ومرافقتها.

 إن مجرد تأميم الصناعات لا يحل مشكلة تحول النظام الاقتصادي. إنه يضع وسائل الإنتاج تحت سيطرة احتكار الدولة فقط. ومن ناحية أخرى، فإن البناء المجتمعي يدور حول دمقرطة الإنتاج.

 وبشأن التفاوض مع رجال الأعمال أو زاحتهم: عندما يكون اليسار في الحكومة فقط، يجب أن يتفاوض معهم؛ ولكن عندما يطالب المجتمع بأخذ المبادرة بيديه، يحين وقت ازاحتهم. (الفرق بين ان تحكم أوان تهيمين).

 الحكومة والمجتمع المدني والتغيير الجذري

 لدولة حالة فيزيائية للمجتمع - تمامًا كما ان هناك مادة سائلة وغازية وصلبة. مثل هذا الفهم للدولة يحمينا من الوقوع في المفاهيم الذرائعية والفوضوية والماركسية الساذجة عن الدولة. وبدلاً منه، يجب تتبع فهم ماركس نفسه للدولة كمشترك وهمي: إنه بالفعل ما نشترك فيه، ولكن في شكل احتكاري وإلى هذا الحد وهمي – بقدر ما يبدو ذلك متناقضا.

 عتقد الفوضوية وبعض ضروب من الماركسية أنه لا يتعين الاستيلاء على سلطة الدولة لأن السلطة الحقيقية تكمن في المجتمع. ولكن ما هو ا المشترك لسكان بلد ما لا يعود بالفعل الى الدولة؟ لغة، مؤسسات، تاريخ، وثروة طبيعية، ضرائب، حقوق، ونظام صحي - قد لا يأتي أي من منها من الدولة، لكن الأمر متروك للدولة. تمركز الدولة كل ما هو مشترك في المجتمع. ان الدولة تعني القدرة على احتكار وتركيز ما يأتي من المجتمع.

 إن قوة الدولة أو ضعفها مشتق من المجتمع نفسه. في أمريكا اللاتينية، تم تأميم الموارد كلما قرر المجتمع أنها يجب أن نعود إلى جميع البوليفيين، وجميع الأكوادوريين، وجميع الفنزويليين. حتى قبل وصول إيفو موراليس، روفائيل وكوريا، وهوغو تشافيز إلى السلطة، بدأ الناس يفكرون بالتأميم. ثم تأتي إلى الوجود حكومة تقدمية. تؤمم الصناعات والموارد، فيتوفر مزيدا من الأموال لبناء المدارس والمستشفيات، ودفع أجور أعلى، وأشياء أخرى كثيرة لتحسين حياة الناس. لكن المجتمع ليس لديه بعد أي سيطرة مباشرة على ثرواته، فهذه السيطرة في الاحتكار، الذي تمارسه الدولة. قد يشعر الناس ان الدولة تمثلهم، لكنه يبقى احتكار. هذه هي الحدود التي يمكن للحكومة التقدمية أن تتحرك داخلها.

لماذا لا تستطيع حكومة تقدمية أن تتجاوز ذلك؟ لماذا لا تتقدم إلى الاشتراكية؟ ماذا تعني الاشتراكية في الواقع في هذه الحالة؟ لم تعني الاشتراكية قط مجرد تأميم البنوك والشركات والمصانع. اتبعت كل من ثورة أكتوبر وكومونة باريس عام 1871 فكرة أن الاشتراكية لا تعني إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى السلع، بل تعني دمقرطة السيطرة على هذه السلع وملكيتها واستخدامها وإدارتها.

كيف تقدم هذه السلع المشتركة؟ بمرسوم تنفيذي؟ بالطبع لا ، لأن المرسوم التنفيذي هو أمر تفرضه البيروقراطية أو النخبة ، سواء كانت تلك النخبة شعبية أو ثورية أو أيا كانت. لقد تعلمنا من الثورات الاجتماعية في القرن العشرين أنه لا يمكنك ببساطة أن تدعي تمثيل الطبقة العاملة. لا أستطيع أن أفترض أنني أمثل الطبقة العاملة أو النساء أو السكان الأصليين. الحركة النسائية تنظمها وتقودها النساء، وحركة السكان الأصليين من قبل السكان الأصليين والحركة العمالية من قبل العمال.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت تجارب القرن العشرين أن الدولة لا يمكن أن تأخذ دور المجتمع في التحول. لا يمكن للحكومة أن تسلك مسارًا جذريًا إلا إذا أصر المجتمع عليه. والأمل ان تفعل الاشتراكية الديمقراطية ذلك وفق التوصيف الوارد أعلاه.

الرأسمالية وتقييد التحول الاجتماعي

عالم الاجتماع الأمريكي فريد بلوك يسلط الضوء على ما هو جوهري: بواسعة الحجم الذي يظل فيه احتكار القطاع الخاص للاستثمار قائما، يمكن لرجال الأعمال اعلان اضراب رأس المال لإخضاع الحكومة التقدمية. لقد رأينا ذلك في تشيلي في عهد أليندي، ومؤخرًا في فنزويلا، ولكن أيضًا في مشاريع حكومية أقل جذرية. قد يجلب للتأميم مشاكله الخاصة معه، ولهذا يصبح من الضروري، وبشكل مطلق وضع الرافعات المركزية للسلطة الاقتصادية، مثل البنوك والتجارة الخارجية، تحت سيطرة الدولة من أجل التحرر من القيود الهيكلية التي تفرض، بخلاف ذلك، منطق الرأسمال على حكومة تقدمية، ولهذا فان نهج بلوك مثير للاهتمام لأنه، على عكس العديد من التفسيرات الماركسية الأخرى، يواجه حقيقة عملية: عندما تصل حكومة تقدمية إلى السلطة، يميل رجال الأعمال إلى الحفاظ على أموالهم آمنة. لا يحتاج الرأسماليون الأفراد هنا التنسيق الجماعي، بل سيبتكر كل واحد منهم طريقته الخاصة.

إن هذا السيناريو يستند إلى افتراض غير المعلن بأن الحكومة التقدمية تصل إلى السلطة في الوقت الذي تكون فيه الرأسمالية مستقرة. لكن العكس هو الصحيح: الحكومات اليسارية تأتي في زمن الأزمات التي لا يستثمر فيها الرأسماليون، ولا يوفرون فرص عمل للناس، في وقت يكون فيه الاقتصاد والحكومة غير فاعلين.

لا تصل الحكومات اليسارية إلى السلطة عندما يكون الاقتصاد على ما يرام وهناك لكل فرد فرصة عمل، بل عندما يكون رأس المال قد فر بالفعل من البلاد، وعندما تنتشر المضاربة، ولا يكون هناك استثمار، عندما ترتفع معدلات البطالة، ويحدث اضطراب اجتماعي واسع النطاق. يعود وصول حكومة يسارية الى السلطة، الى مطالبة السكان السياسيين بإعادة الوضع إلى نصابه. وهذا هو مصدر شرعيتها.

إذا لم تنفذ هذه الحكومة المهمة الموكلة اليها، فلا يعود ذلك الى تعرضها للتخويف من قبل الطبقات السائدة، بل لعدم امتلاكها الإرادة او الرغبة في السير في هذا الطريق أو لأنها تخشى العواقب. والعقبة في هذه الحالة ليست رأس المال، بل رؤيتها للعالم أو فهم الحكومة الذاتي لطبيعتها ودورها.

في بوليفيا، تسلم اليسار الحكومة وسط أزمة اقتصادية. إذا لم تقم الحكومة حينها بتأميم القطاعات الرئيسية، لاستمرت الأزمة لأكثر من عشر سنوات. أين كان ممكن أن تجد الحكومة المال إن لم يكن في قطاعات الاتصالات والكهرباء والنفط والغاز؟ بمجرد أن أصبحت هذه القطاعات تحت سيطرة الدولة، تمكنت الحكومة من صنع السياسة.

الأجور هي النقطة الشائكة الأخرى. لم تلتقي الحكومة مرة واحدة بأرباب العمل للتفاوض بشأن الأجور، وبدلاً من ذلك التقت مع النقابات. كان عليها أن تأخذ بنظر الاعتبار كيفية تطوير المبيعات في قطاع معين، ومدى ارتفاع الأرباح، ومقدار الضرائب المفروضة، ومدى نمو الاقتصاد وما إلى ذلك.

 يمكنك، من ناحية أن تأخذ شيئًا ما من رجال الأعمال، ولكن، عليك أن تعيد، من ناحية أخرى، شيئًا مقابل في شكل إعانات للكهرباء والنقل والغاز وما شابه ذلك. وعندما يبدأ رجال بالاحتجاج، عندها تقول الحكومة: "إذا كنتم لا تريدون رفع الأجور، فسنقطع عنكم الدعم".

 بهذه الطريقة رفعت الحكومة الأجر الحقيقي للعامل بنسبة 450 في المائة خلال 14 عامًا، من 50 إلى 306 دولار. لماذا ليس أكثر؟ لأنك في لحظة ستصلالى الاضرار بالشركات الصغيرة التي يصبح معدل ربحها قليل جدا. كان الهدف حد أدنى للأجور يبلغ 400 دولار، لكن سرعان ما أصبح واضحا أن الشركات الصغيرة التي يعمل بها أربعة منتسبين فقط يبيعون، على سبيل المثال، الأحذية أو الدراجات الهوائية، لا تستطيع الاستمرار. وعندما اضطر البعض الى إغلاق شركته، تم التوقف عند هذا المستوى من الاجور. يجب على الحكومة الشعبية بالطبع أن تهتم دائمًا بالعاملين، ولكن أيضًا بمن هم فوقهم بقليل: الأشخاص الذين لديهم شركات صغيرة ويبيعون خدمة أو طعامًا، وعدد عامليهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.  هؤلاء ينتمون إلى الطبقات الشعبية، ويجب الاهتمام بهم.

 في حالة الشركات الكبيرة، يمكنك استخدام وسائل أشد. على سبيل المثال، تم تأميم الشركات الأجنبية وفرضت ضريبة بنسبة 50 في المائة على أرباح البنوك. يمكن للبنوك أيضًا تخفيض أرباحها، لذلك عليك إجبارها على تقديم قروض إنتاجية. ومن هنا جاء قرار الحكومة بتوجيه 60 في المائة من إجمالي القروض إلى القطاع الإنتاجي. وبواسطة الـ 40 في المائة المتبقية، يمكن البنوك فعل ما تريد، المضاربة وما إلى ذلك. هذا التوجه يضمن أن يصب القسم الاكبر من المال، المتحقق عمليا من مدخرات الناس، مرة أخرى في الإنتاج.  ان توجيه الأموال الخاصة إلى قطاعات معينة في سبيل تحفيز النمو الاقتصادي، يمثل جزءا من القوة الاحتكارية للدولة.

 يسمح هذا النوع من السياسة الاقتصادية للحكومة التقدمية بإلغاء الفيتو الاقتصادي لرأس المال على سياسات الحكومة. عندما يهدد الاحتكار الرأسمالي بشل الدورة الاقتصادية، تتم مواجهة هذا التهديد، بأنشاء شركات مملوكة للدولة. لا يجب بالضرورة تأميم كل شيء، ولكن بالضرورة التأكد من قدرة الاقتصاد على تحمل إضراب يعلنه رأس المال.

يبقى السؤال المركزي بالنسبة للحكومة التقدمية ما إذا كانت هناك طاقة اجتماعية كافية لتعميق مثل هذه التدابير التنظيمية. وهذا لا ينحصر في امكانيات سلطة الدولة. يعتقد بعض الرفاق من اليسار في أمريكا اللاتينية أن الحكومات التقدمية تحد من زخم المجتمع، كما لو كانت هناك موجة قوية من العمل الجماعي الذي يدفع باتجاه ملكية جديدة وتجذير الديمقراطية. لكن هؤلاء الرفاق لا يستطيعون الإشارة إلى مكان وجود هذه الموجة.

 مثال من بوليفيا: خلال حكومة موراليس الأخيرة، أراد بعض عمال مناجم القصدير انهاء أشكال للملكية والإدارة السائدة - وقد شجعت الحكومة هذا المسعى بقوة. وفي النهاية، كان هناك 5 آلاف عامل يديرون منجمًا ذاتيًا بأموال عامة. لكنهم احتفظوا بجميع الأرباح، ولم يعود أي منها إلى المجتمع. لذا فإن ما يدور في أذهان بعض الرفاق لم يتحقق، فالثروة هنا بقيت ملكية خاصة، الذي تغير عدد المالكين من اثنان الى 5 آلاف. هذه هي تجربة محاولات الإدارة الذاتية للعمال التي حدثت في بوليفيا من 2010 إلى 2011 ثم مرة أخرى من 2017 إلى 2018.

 المساحات الممكنة

 يمكن للحكومة التقدمية بالطبع أن تضع بعض القضايا على رأس جدول الأعمال. يمكن أن تساعد الناس على ترتيب تجاربهم اليومية بشكل أفضل. يمكنها أن تفعل عددًا لا يحصى من الأشياء التي تتجاوز مجرد ممارسة الحكم. لكنها لا يمكن أن تحل محل التجربة الاجتماعية، يجب أن تكون الاشتراكية متجذرة في المجتمع.

 ويعد ذلك ممارسة لينينية، ليس وفق شيوعية الحرب، بل وفق السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب). كانت السياسة الاقتصادية الجديدة اعتراف لينين العظيم: بغض النظر عن عمق جذرية الطليعة، لا يمكن التغلب على الرأسمالية إلا إذا شرع المجتمع نفسه بالقيام بذلك.

 هناك نص رائع كتبه لينين من عام 1923: "من الأفضل أقل، شرط ان يكون أحسن". قيّم فيه شيوعية الحرب وتلك السنوات المضطربة التي كان يُعتقد فيها أن سلسلة من الإجراءات الشجاعة ستكون كافية للتغلب على الرأسمالية. يقول لينين بشكل أساسي، "حسنًا، بالمعنى الدقيق للكلمة، لقد وصلنا الى رأسمالية الدولة". يمكننا التأميم بقدر ما نريد، لكننا لن نصل إلى الاشتراكية حتى يطور الناس أشكالًا جماعية حقيقية في الاقتصاد

بناء الجماعية من انسان لآخر وليس من الأعلى الى اسفل، هذا هو جوهر الاشتراكية. هذا هو الشكل الحقيقي الوحيد للجماعية، وليس الدولة، التي هي، كما تقدم، شكلا للاحتكار. يمكن للدولة بالطبع المشاركة في هذا البناء، وتوجيهه في الاتجاه الصحيح، لكنها لا تستطيع القيام بالبناء الفعلي.

 دار الجدل في كوبا خلال السنوات العشر الماضية حول هذا السؤال: كيف يمكن تنفيذ تدابير تتجاوز رأسمالية الدولة؟ بتعبير آخر، كيف نشجع تنمية مثل هذه الجماعية في المجتمع؟ يمتلك عالم السكان الأصليين (الهنود الأحمر) وكذلك الفلاحين تقليدًا ثريًا من الأشكال الجماعية. لقد عانت من الضرر، لكنها موجودة. تعرف المدن أيضًا الجماعية على مستوى الجوار. ما لدينا هو أجزاء من الجماعيات، يمكن أن تكون نقطة انطلاق لبناء مجتمع جماعي جديد.

 وبالعودة الى لينين: لا يمكنك أبدًا أن تتقدم على الناس بأكثر من خطوة واحدة، لا خطوتين ولا أربعة. لا تبتعد أكثر من خطوة عما يشعرون به، يفكرون به، ويعيشونه. لا أستطيع التفكير في طريقة أخرى سوى المضي لا اقل، ولا أكثر من خطوة امام المجتمع العامل.

عرض مقالات: