لا يختلف اثنان من ان العراق ومنذ الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣ هو بلد محتل. وفتح هذا الاحتلال شهية جيران العراق إيران وتركيا لتقاسم كعكة العراق مع المحتل الرئيسي وإقامة قواعد عسكرية (تركيا) بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، كما تغلغلت إيران في جميع مؤسسات الدولة العراقية عبر الأحزاب الإسلامية الموالية لها حيث كان نظام المحاصصة الطائفية والعرقية كحاضنة لها والذي شجع الأمريكان بناءه ولقي مباركة وترحيب من قبل القوى القومية الكوردية والأحزاب الإسلامية الشيعية منها والسنية..

 واليوم نحن نعيش تداعيات هذا النظام وهذا الاحتلال والفوضى المرافقة له دون أن يلتزم المحتل الرئيسي بأخلاق تنفيذ الوعد الذي قطعه للعراقيين والعالم من ان العراق سوف يكون نموذجا يقتدى به في المنطقة "تصريح الرئيس بوش الإبن" عام ٢٠٠٣!! وبالطبع فإن القوى التي هيمنت على مقدرات البلد في ظل الاحتلال كيفت الدين والمذهب لتغييب وعي الجماهير واستغلالها في حين كانت الثروات والميزانيات السنوية للبلد تنهب عن طريق المشاريع الوهمية والرواتب والمخصصات الضخمة والسمسرة وتهريب النفط وغيرها من الطرق الملتوية المبتكرة.. حدث كل ذلك تحت نظر وسمع قوات الاحتلال الأمريكي الذي غض الطرف عنها لانشغال قواته في محاربة القاعدة وداعش بعدها.. وفي الوقت نفسه تمكنت الكتل الموالية لإيران بتنسيق وإشراف منها من تشكيل أذرعها العسكرية وتبوأ أتباعها المراكز والمناصب العليا والمتوسطة في جميع مفاصل الجيش والقوات الأمنية والمخابراتية، وبعدها توسعت سيطرتها عبر ما يسمى بالحشد الشعبي والحشد العشائري. وهذه التطورات مهدت الطريق لإضعاف كفة الأمريكان وأصبحوا عرضة لقصف قواعدهم وسفارتهم من قبل تلك الميليشيات. ويبدو من تطور الأحداث أن المحتلين الثلاثة متوافقون ضمنا لجعل العراق يعيش بحالة فوضى في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل اضعافه وسهولة السيطرة عليه كما هو الحال اليوم.

 ورغم أن العملية النوعية التي أمر بها الرئيس السابق ترامپ بقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس أرسلت رسالة قوية إلى ايران وميليشياتها من أن أميركا تستطيع الرد المناسب للقصف المستمر للقواعد التي تتواجد فيها قواتها كما أنها قادرة على تقليم أظافرها لو رغبت بذلك, ومما دفع بقادة الميليشيات في العراق الاختباء أو الهرب الى ايران خوفا من استهدافها, إلا أن ايران ردت بقصف شديد لقاعدة عسكرية تضم قوات أميركية بصواريخ بعيدة المدى وألحقت أضرارا جسيمة وإصابات بصفوف القوات الأمريكية والعراقية, لم تكن تتوقعه الإدارة الأمريكية فحسب ولكن أيضا لم تكن مستعدة أكثر لضعضعة الوضع وتوسيع رقعته, وأرسلت إشارات للجانب الآخر من انها لا ترغب بالتصعيد والذي استجاب لرغبات ايران والميليشيات الموالية لها.  

  واندلعت انتفاضة تشرين الشبابية خارج سياقات التوافقات السابقة وقلبت المعادلات واجبرت حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة بعد أن قدم المحتجون مئات الشهداء وألوف الجرحى والمغيبين، ورفعوا شعار (أريد وطن) هدفه التغيير في بنية النظام السياسي، نظام المحاصصة البغيض، واسترجاع البلد من المحتلين وتقديم القتلة وحيتان الفساد إلى العدالة واسترجاع الأموال المنهوبة وحصر السلاح بيد الدولة وتسخير ثروات البلد لبنائه وتقديم الخدمات للمواطنين. وعندما شعرت الكتل الإسلامية المهيمنة على القرار السياسي بخطورة أهداف هذه الانتفاضة على مصالحها وارتباطاتها الخارجية حاولت ركوب موجتها وعندما فشلت، سلكت طريق الاغتيالات والترهيب ونعتها بشتى النعوت الكاذبة، إلا ان جميع هذه المحاولات لم تجد نفعا واستمر نبض الشباب يتصاعد ويقوى ويجهد لتوحيد قواه التي لا مفر منها لهزيمة عدو مسلح ورافض للتغيير والإصلاح الحقيقي.. وقد ساعد استلام مصطفى الكاظمي رئاسة الوزارة وتقديم وعود للمنتفضين بتحقيق مطالبهم وإجراء انتخابات مبكرة، وتفشي وباء كورونا كطوق نجاة للكتل الفاسدة حيث استخدمها الكاظمي وتلك الكتل وميليشياتها بمهارة من أجل إطفاء جذوة الانتفاضة والالتفاف عليها ومحاولة وأدها بالوعود الكاذبة والقتل العمد. ورغم كل ذلك لم تصمد أمام إصرار الشباب الواعي الاستمرار في الاحتجاجات السلمية التي كانت تجابه بالقسوة من قبل قوات أمن الكاظمي واغتيال الناشطين عبر كواتم صوت الميليشيات الموالية لإيران.

 وانطلقت الأخبار مؤخرا بأن العسكريين الأمريكان يخططون للرد على المخاطر التي تشكلها طائرات الدرون التي استخدمتها الميليشيات الموالية لإيران على القواعد التي يتواجد فيها العسكريون الأمريكان في أربيل وعين الأسد, إلا ان هذه الأخبار ما هي إلا جس نبض وتحذير لإيران وميليشياتها من تكرارها, كما كانت نوعا من أساليب الضغط على ايران في محادثاتها حول برنامجها النووي والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها الإدارة الأمريكية, وليس لها علاقة بواقع محاصرة الميليشيات للمنطقة الخضراء وتهديد الكاظمي بعد اعتقال  قاسم مصلح الخفاجي المسؤول عن اغتيال الشهيد إيهاب الوزني, ومسؤوليته عن قصف قاعدة عين الأسد.. وفي هذا السياق يقال انه تم اعتقال عدد آخر من منتسبي الحشد الشعبي ومن خارجه إثر اعترافات قدمها المتهم الرئيسي قاسم مصلح. وعلى أثر ذلك توترت العلاقة بين حكومة الكاظمي وقوات الحشد وجاء تصريح وزير الدفاع العراقي الشديد اللهجة محذرا الميليشيات المسلحة من مغبة تكرار استعراضاتها العسكرية ومحاولة كسر (هيبة الدولة) ليضيف عليها نوع من الإثارة!

 ما يهمنا هو أن العراق تربطه بالولايات المتحدة معاهدة الأمن الدفاعي، لكننا نجد خرقا مستمرا من قبل تركيا للأراضي العراقية وقصف للقرى في إقليم كردستان دون تدخل من الولايات المتحدة ولا حتى إدانتها لهذه الأفعال التي تتعارض مع القانون الدولي. كما لم تستجب تركيا لمطالبات الحكومات العراقية بالانسحاب من الأراضي العراقية واغلاق قواعدها المتواجدة قرب سنجار ودهوك وزاخو. وهذا يقودنا إلى المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة التي احتلت العراق وتنصلت من تنفيذ وعودها بإعادة بناء العراق وتوطيد الديمقراطية الهشة التي بنيت على نظام المحاصصة الطائفية والعرقية والتي هي سبب البلاء، وكذلك حماية امن وسلامة العراق الموحد من التدخلات الأجنبية!

 فإذا كانت كل هذه الفوضى لا تحرك الولايات المتحدة وتدفعها لتصحيح مسار ما خربته سياستها وسياسة الكتل الفاسدة العميلة التي جاءت بقطارهم، يا ترى ما الرسالة التي توصلها هذه السياسة الخائبة للمنتفضين الشجعان الذين قدموا أكثر من ٨٠٠ شهيد وآلاف الجرحى؟ وكيف ستقرأ الكتل الميليشياوية تردد أو عدم رغبة الولايات المتحدة الالتزام بتعهداتها تجاه الشعب العراقي؟ الجواب واضح أن جميع المحتلين الكبار والصغار متوافقون على إبقاء العراق ضعيفا، مقسّما، ومتخلفا لكي يسهل عليهم استغلاله والهيمنة على قراراته وثلم سيادته.. فهل سيكون للشعب العراقي وشبيبة أكتوبر قولا آخر لمواصلة النضال الصعب من أجل التغيير واسترجاع الوطن المسلوب؟   

عرض مقالات: