نظرة عامة على الصين

أريد أن أبدأ بما أسميه نظرة عامة على الصين. بالطبع، نحن جميعاً نعلم أن هذا البلد يسكنه عدد كبير جداً من البشر، 1400 مليون نسمة، أي حوالي خمس سكان العالم، وهم أكثر بقليل من الهند. ثانياً، وإنها تمتاز بمساحتها الكبيرة جدًا. وهي في الواقع رابع أكبر دولة في العالم. ثالثاً، إنها أقدم كيان أو قوة سياسية في العالم، عمرها أكثر من ألفي عام. ولا يوجد بلد في العالم يمكن مقارنته بها في هذا الصدد. لكن بطبيعة الحال، من نواحٍ أخرى، فإن الصين أقدم بكثير. وتعود الحضارة الصينية إلى ما لا يقل عن أربعة أو خمسة آلاف عام مضى. وهناك نقطة أخرى مهمة للغاية بالنسبة للصين هي أنها كانت الدولة الأكثر تقدماً في العالم خلال أربع فترات تاريخية على الأقل، أو كما يورد البعض أنها خمس فترات تاريخية؛ أو ربما كانت من أكثر الدول تقدماً عند النظر إلى الماضي البعيد.

وتبدأ هذه القوة السياسية من سلالة هان التي حكمت في الفترة (220 قبل الميلاد - 220 بعد الميلاد)، أي قبل ألفي عام. وبعد قرون تولت سلالة تانغ (أسرة تانغ، 618-907) الحكم؛ وبعد ذلك تولت سلالة سونغ الحكم (960-1279)؛ وتلاها سلالة مينج (سلالة مينغ، 1368-1644)؛ وخامسها سلالة تشينغ (1636-1912). وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار الآن أنه لا يوجد بلد آخر في العالم تطور على هذه الشكلة. فعادة ما يحدث هو أن الدول تظهر ثم تتهاوى. بالطبع، يمكن أن يخطر على بال القارئ اليونان القديمة، أو الإمبراطورية الرومانية، أو السلالات الأخمينية والساسانية في إيران، أو حضارة مصر القديمة إلخ. وقد يفكر في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. لكن لم يحدث شيء من هذا القبيل في هذه البلدان حيث يختلف الأمر بالنسبة إلى الصين. كانت الصين أهم دولة قومية في العالم خلال أربع أو خمس فترات تاريخية قيد المناقشة. وإننا نشهد الآن فقط الفترة التاريخية الخامسة أو السادسة من تاريخ الصين، والتي ستصبح أهم دولة في العالم. لأنه، حسب رأيي، وليس هناك أدنى شك في أن الصين ستحل عاجلاً أم آجلاً محل الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الأكثر أهمية وتأثيراً في العالم. وبالتالي، فهي حضارة رائعة ليس لها، في رأيي، مثال مشابه لها أو موازٍ في تاريخ البشرية.

ما هي المعضلة الرئيسية بالنسبة للصين؟

هناك مشكلة، أو على الأقل لدى الغرب مشكلة من نوع خطير للغاية. وهي إننا لا نفهم الصين! إنها لا تدخل في عقولنا! ونحاول أن نفهم الصين بمعاييرنا الخاصة، وحسب القواعد الغربية. لكن لا يمكن فهم الصين طبقاً للقواعد الغربية! بالطبع، ليس لدى الصين شيء مشترك معنا. وتختلف الصين في الأساس تماماً عن الغرب. ولقد كانت مختلفة على الدوام، ولا تزال وستظل دائماً كذلك. إنني أعتقد أن المشكلة تكمن في طريقة التفكير الغربية. فكما نرى، وعلى مدى قرنين من الزمان، كان الغرب،  سواء الأوروبيين أولاً وبعد ذلك الولايات المتحدة، يهيمنون على العالم ويسيطرون عليه عملياً. وطل الفهم في الحداثة محصور بالحداثة هي الحداثة الغربية: ولا يوجد سوى شكل واحد من أشكال الحداثة، وهي الحداثة الغربية. ولكن هذا ليس صحيحاً بكل بساطة. فلدينا حداثة صينية تتطور بسرعة الآن. كما لدينا على سبيل المثال حداثة يابانية؛ ونرى وسنرى المزيد من أنماط الحداثة التي تتفاوت مع الحضارة الغربية. وببساطة، ليس من الصحيح القول أنه لا يوجد في العالم سوى نوع واحد من الحداثة: ألا وهي الحداثة الغربية. هناك العديد من أنماط الحداثة في العالم في الوقت الحالي. لذا في هذه الحالة، فمن الخطل التفكير بأن على كل شخص أن يكون مثلنا. بمعنى آخر، يجب أن نفهم الصين بمعاييرها الخاصة! ولا يمكننا فهم الصين بالمعايير الغربية. وهذا تحد كبير. ومع ذلك، اذا ما فكرنا بهذه الطريقة فلا يمكننا أن نفهم الصين. وهنا يكمن الخطأ في النظرة إلى الصين.

أتذكر بوضوح شديد أنه في أواخر القرن العشرين، عندما بدأت الصين تنمو بسرعة كبيرة (سأعود إلى ذلك لاحقًا، بالطبع)، بفعل الإصلاحات التي قادها دنغ شياو بينغ (1904-1997) من عام 1978، قيل "إنهم يبالغون في الأرقام"، وإن"الإحصائيات غير صحيحة"، "ولا يمكن لها أن تدوم" ... لقد كنا مخطئين! وكنا مخطئين جدا! إذ لم نكن على قدر من الفهم للصين. كان التصور السائد لدينا هو أنه إذا لم يصبح النظام السياسي في الصين على شاكلة نظامنا، أي ديمقراطية غربية، فلن يستمر التحول الدرامي للصين ولن تنعم الصين بالاستقرار. والآن في عام 2020، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على بدء الإصلاحات، أصبح النظام السياسي في الصين مختلفاً عن ذي قبل. ويلاحظ أن الكاتب والمنظر الأمريكي يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما بأن الصين قد استفادت أكثر من أية دولة أخرى من الاستمرار القوي لنظام حكمها لأكثر من ألفي عام. وبعبارة أخرى، خلال الحكم الإمبراطوري والآن في ظل الحكم الشيوعي، إذ كان الشيء البارز تماماً هو استمرارية نظام الحكم، وليس خلافاته. لذا فلا نتوقع أن تكون الصين على شاكلة الغرب. لأنه لن يحدث مثل هذا في السابق. ويجب أن نحترم الصين كما هي. ويجب أن نتعرف عليها من خلال قواعدها الخاصة. وإذا ما أردنا معرفة هذه الحضارة المدهشة، فيجب أن نكون فضوليين وغير مقيدين. ويجب أن نتحلى بعقل متفتح وليس منغلق!

لماذا الصين على هذا القدر من الاختلاف؟

حسناً، قد يطرح السؤال التالي، لماذا تختلف الصين عنا إلى هذا الحد؟ لماذا تختلف كثيرا عن التقاليد الغربية؟ حسناً، يمكن في هذا الصدد طرح العديد من النقاط، لكنني سأذكر ثلاث نقاط فقط:

أحدها هو أن الصين في المقام الأول ليست حتى دولة-أمة. في التقاليد الغربية، نحن نعني قبل كل شيء بالدولة -الأمة. لقد بدأت الصين تتحول إلى دولة-أمة في أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت ضعيفة للغاية، وكانت في طور الخضوع للسيطرة الاستعمارية من قبل بلدان أوروبا الغربية. لكن حتى اليوم، لا يمكن وصف الصين كـ "دولة -أمة" في المقام الأول.

لننظر إلى الصين ككيان سياسي عمره 2000 سنة وحضارة عمرها 5000 إلى 6000 عام. إذن من أين تأتي الخصوصية الأولية للصين؟ لا أعتقد أن هذه الخاصية تشكلت في صيرورة محددة مع الدولة-الأمة. لأننا إذا ألقينا نظرة في حدود المائة أو المائة وعشرين عاماً الأخيرة، نجد أن عمر الصين يبلغ ألفي عام. ونحن نتحدث عن إرث هو قبل كل شيء حصيلة ونتاج حضارة للصين تمتد إلى ألفي عام، وليس الصين بمثابة دولة – أمة، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن الغرب. وبالتالي، فإن السمة الرئيسية للصين هي في الواقع حصيلة الحضارة التاريخية للصين. واسمحوا لي أن أقدم بعض الأمثلة.

لا شك أن إحدى أهم خصوصيات الصين هي تمسكها بالقيم الكونفوشيوسية. ومن المعلوم أن كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد)، هو فيلسوف صيني عاش قبل ألفي وخمسمائة عام إلى جانب العديد من الشخصيات الرئيسية الأخرى. وتحدث كونفوشيوس عن أهمية الأسرة والدور الهام للإمبراطور كنموذج لأب الأسرة؛ كما تحدث عن أهمية الجدارة والكفاءة، وأهمية الحكم الرشيد، وأهمية الحكم القوي، وأهمية علاقات الحكم مع الشعب. وهذه سمات متميزة جدًا وباقية حتى اليوم. وهذه الأفكار تجد لها التأثير ليس فقط في الصين، ولكن أيضاً في الدول التي نسميها بالكونفوشيوسية: اليابان، وإلى حد ما كوريا الجنوبية، وفيتنام، وتايوان، وما إلى ذلك. فالتفكير الكونفوشيوسي سائد في كل هذه البلدان.

إن العلاقات بين الدولة والأمة مختلفة جداً في الصين. كما يختلف خطاب وطبيعة الأسرة اختلافاً كبيراً أيضاً. وتعتبر مجموعة "Guanxi”، أو ما يعادلها من (الشبكة الاجتماعية) للعلاقات (الفردية)، والطريقة التي تعمل بها هذه العلاقات مهمة جداً. إن شبكة الروابط في الصين ذات أهمية لفهم المجتمع والثقافة الصينية. وفي هذا السياق، يمكننا إضافة طبيعة اللغة أو اللغات الصينية التي لها نص مشترك، ولكن في الواقع هناك عدة لهجات لهذه اللغات. أو يمكن الإشارة إلى الطعام الصيني اللذيذ المتنوع للغاية في جميع أنحاء الصين. كل هذا نتاج الحضارة الصينية، وليس الصين كدولة -أمة. هذا مختلف جدًا عن أوروبا والولايات المتحدة. وأعني يذلك أن دولاً مثل الولايات المتحدة وأستراليا كانت نتاجاً للاستعمار الأوروبي، وأصبحت فيما بعد مجرد نتاج لنظام الدولة - أمة. قد تعود المجتمعات الأوروبية إلى الماضي، لكنها بشكل عام بعيدة كل البعد عن ماضيها. فقد تشكلت الدول الأوروبية بشكل أساسي من خلال إنشاء الدولة - الأمة. حسناً، هكذا ترون مدى اختلاف الصين عن التقاليد الغربية. وأستطيع القول إن النقطة الأساسية هي أن الصين نتاج حضارة وليست نتاج تكوين دولة -أمة.

النقطة الثانية تتعلق بالدولة والمجتمع، وبالطبع يرتبط هذا ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الحضارة الصينية. إذ تختلف طبيعة العلاقات بين الدولة والشعب اختلافًا كبيراً عما هو سائد في التقاليد الغربية. الآن يجري تضليل الناس في إنجلترا وإيهامهم بأن الأمر كله يتعلق بماو أو الشيوعية أو شيء من هذا القبيل وحسب. انسوا ذلك! ليس هذا هو العامل التاريخي الرئيسي. العامل الأول هو هذا التقليد التاريخي، الذي يعود إلى ما قبل التقاليد الكونفوشيوسية بوقت بعيد، وتأثر بها الشعب الصيني إلى حد كبير والتي بلورت علاقة وطيدة للغاية وعاطفية بين الدولة والشعب. ففي جوهر الفكر الكونفوشيوسي يتضمن الحكم وأهمية علاقته مع الشعب؛ وكما أشرت، يجب أن يقدم الإمبراطور نفسه على أنه الأب المثالي للعائلة. وبعبارة أخر، إن تصور الأسرة عن الحكم موجود في طريقة التفكير والتصرف الصينية، وإذا ما نظرنا عن كثب، فإننا نرى ذلك في كل مكان. وبالطبع، فإن الجدارة في الإدارة التي أكدها كونفوشيوس تحتل مكانة كبيرة. وليس لدي أدنى شك في أنه، على الرغم من أن الصين دولة نامية، إلاّ أن لديها أكثر أنظمة الحكم تعقيداً ولائقاً في العالم. وهذا أمر حاسم في الاعتراف بإنجازات الصين في السنوات الأخيرة. وفي الوقت نفسه، هناك اعتقاد بأن شرعية النظام هي نتاج الانتخابات، ولأن الصين ليس لديها مثل هذا الحل الشامل عن طريق الانتخابات، فإن النظام يفتقر إلى الشرعية. وهذه فكرة خاطئة تماما! فإذا ما نظرنا إلى بيانات مركز بيو للأبحاث، نجد أن الحكومة الصينية تتمتع بشرعية ودعم شعبي أكثر من أية حكومة في الديمقراطيات الغربية. وهذا رائع. وعندما يتعلق الأمر بالصين؛ يجب علينا أن نفكر بمنطق مختلف، وهذا مهم جداً لفهم هذا البلد.

النقطة الثالثة التي أريد أن أوضحها وهي التي تميز الصين تماماً عن الغرب. فلم تكن الصين دولة تسعى إلى التوسع على حساب الأخرين. من المؤكد أن الصين لديها رسالة إلى العالم، بمعنى آخر، أن يكون لديها حضارة أسمى، كما تفعل الدول الغربية. لكن رؤية أوروبا للعالمية هي أنه يجب عليها أن تمدن العالم بأسره، وهذا بالضبط ما حدث على يد الإمبراطوريات الاستعمارية. وقد استمر هذا التقليد الاستعماري إلى حد ما حتى يومنا هذا بدعوى أن القيم الأوروبية متسامية ويجب قبولها بالقوة، بما في ذلك مؤسسات ونظام الحكم الغربية وما إلى ذلك. ولكن لم يكن لدى الصين مثل هذه التقاليد.

فالطريقة الصينية هي نعم نحن نمثل الحضارة الأكثر تقدماً وتقدمية في العالم، لكننا أصحاب” هوية ثقافية"، ولا نريد توسيع حدودنا على حساب دول أخرى لأن ذلك يعد خطوة على طريق التخلي عن الحضارة والتاريخ الصيني. لذلك، لا يوجد تقليد توسعي في الصين. ولم تقوم الصين بأي عمل عسكري قط ولم تتطور بهذه الطريقة. سأورد كيف تطورت الصين: في جزء منه اقتصادي وفي جزء أكثر ثقافي. في الواقع، وإذا كنت تريد أن تعرف ما يهم الصينيين، فإن أحدهما هو الاقتصاد والآخر هو الثقافة. هذا مختلف جداً عن التقاليد الغربية.  فقد كان التوسع والاحتلال العسكري في غاية الأهمية في الثقافة والتقاليد الأوروبية والأمريكية.

أهمية معرفة الصين

آمل أن يكون قد أصبح واضحاً لكم، على الأقل إلى حد ما، مدى التحدي في فهم الصين، خاصة في الغرب، لأنها مختلفة تماماً. الآن يمكننا أن نتنكر دور التسلط ودور المهيمن تماماً، وهو بالتأكيد لم يعد هو الحال بعد الآن، إذ نحن نعيش في فترة يقترب فيها هذا التقليد من نهايته. ونعتقد أن هذا الموضوع مثير للاهتمام. وبعبارة أخرى، إنه تحد واجهناه في الماضي، ونحتاج اليوم إلى فهم الظاهرة الصينية. وهذا هو نوع التفكير الذي نحتاجه الآن وفي المستقبل في سلوكنا وفي علاقتنا مع الصين.

لفترة طويلة، لم نكن بحاجة حقاً إلى فهم الصين. لأنه منذ بداية القرن التاسع عشر، انحدرت الصين صوب الاضمحلال، واستمر هذا الاتجاه بقية القرن وحتى القرن العشرين. أعتقد أن وقف هذا الاتجاه بدأ في منتصف القرن العشرين. وفي الأساس، تم استبعاد الصين من الثورة الصناعية لأسباب مختلفة. ثم وقعت ضحية التفوق الغربي، وتحولت إلى شبه مستعمرة من قبل القوى الأوروبية واليابان، وبدرجة أقل من الولايات المتحدة. وهكذا، في تلك الفترة من نجاح التوسع الغربي، كانت الصين في حالة اضطراب كامل وغرقت في فقر مدقع. لذلك لم تعد الصين ذات تأثير ولم يعر أحد لها أي اهتمام. لكن بدأ الحال يتغير. وأعتقد أن ثورة عام 1949 لعبت دوراً مهماً في هذا السياق. وعلى الرغم من أن ماو قد ارتكب أخطاء جسيمة، إلا أنه وحد البلاد، وهو ما لم يفعله أحد من قبل؛ وطرد جميع المعتدين الأجانب؛ وضع حد للاستعمار وما إلى ذلك. كما بدأ نمو اقتصادي متوازن.

بدأت نقطة التحول الحاسمة في التحول الاقتصادي في الصين  والتي أصبحت الآن محور اهتمام الجميع - لأنه من المستحيل إنكارها - في عام 1978، عندما اقترح دنغ شياو بينغ الإصلاحات الاقتصادية. في عام 1978، كان اقتصاد الصين يشكل 1/20 من اقتصاد الولايات المتحدة أي بنسبة 5٪ مقارنة بالإقتصاد الأمريكي. وعاش ثمانون في المائة من سكان الصين في المناطق الريفية في فقر مدقع. وبعد ذلك يمكن وصف ما حد ، دون مبالغة ، بأنه معجزة. فعلى مدى السنوات الـ 35 التالية، نمت الصين بمعدل 10٪. ونتيجة لذلك، تم انتشال 800 مليون شخص من براثن الفقر. ويمثل هذا ثلثي الحد من الفقر في العالم منذ عام 1978. إنه لإنجاز رائع! وبحلول عام 2014، وفقاً لبرنامج المقارنات الدولية للبنك الدولي، تجاوزت الصين الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم من حيث القوة الشرائية للناتج المحلي الإجمالي. بالطبع، وفقاً لحساب الدولار، لم تتفوق الصين بعد على الولايات المتحدة، ولكن أضحى التفوق وشيكاً جداً من الناحية التاريخية في عام 2021 ، حيث يتوقع العديد من الخبراء أن ذلك سيتحقق في عام 2028 أو حتى قبل ذلك.

وأستطيع القول إنني لا أجد أي مرشح آخر يتألق وينافس كالصين. فقد كانت فترة التحول الاقتصادي للصين الأكثر روعة وليس لها أي نظير تاريخي آخر. وبالطبع ستستمر الصين السير في هذا الاتجاه، وإن لم يكن بالسرعة السابقة. يبلغ معدل النمو الاقتصادي السنوي للصين الآن حوالي 6٪ أو أكثر إذا استبعدنا هذا العام (2020) بسبب جائحة كوفيد-19، وهذا ماسأتناوله لاحقاً. هناك تقديرات للمستقبل، على الرغم من عدم قدرة أحد على التنبؤ. علماً أن التقديرات الخاصة بالصين حتى الآن كانت صحيحة بشكل عام. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام  2030، اعتماداً على حساب القوة الشرائية للناتج المحلي الإجمالي لمختلف البلدان ، سيشكل اقتصاد الصين ثلث الاقتصاد العالمي؛ وسيشكل ضعف حجم الاقتصاد الأمريكي وأكبر من الاقتصادين الأمريكيين والأوروبيين مجتمعين. وفي ظل هذا المستقبل، نحتاج إلى معرفة الصين. ربما من الممكن أن نتجاهل الصين ولا نلقي نظرة عليها؛ لكن تطور الصين يدفعنا إلى تركيز انتباهنا صوبها، وأن نفهمها وأن تكون لدينا علاقة جيدة وبناءة معها نتيجة لما أسميه بالقوة القاهرة. فقد دخلت الصين المسرح الدولي على نطاق واسع!

هل نعتقد أن الغرب سيتكيف مع هذه الظروف؟ أعتقد أن العالم النامي سيتكيف بالتأكيد وهو في طور التكيف. ولكن هل يستطيع الغرب التكيف؟ وهل يمكن للغرب أن يتعلم من مكان آخر وأن يكف عن اعتقاده بأنه يملك كل الإجابات والمعايير ؟ هذا سؤال كبير، وأعتقد أن الإجابة عليه غير واضحة. كانت هناك فترة في السنوات الأولى من القرن عندما كان هناك فضول حقيقي حول الصين. كان نمو الصين غير عادي. وأشاد الكثير بقدرتها على الحد من الفقر؛ وكان يعتبر ذلك فرصة. ثم حدث تغير مفاجئ في الحالة المزاجية. فقد ساد اعتقاد بأن الصين تشكل تهديداً في عهد ترامب، وليس فقط في عهده. كما شكلت الصين تهديداً للولايات المتحدة باعتبار الأخيرة القوة الأولى في العالم. لكن دعونا أن نكون واقعيين. لن تكون أمريكا القوة الأولى إلى الأبد، ولن تكون القوة الأولى لفترة طويلة. فما هو العجب في ذلك؟! لقد ظهرت قوى وبلدان عبر التاريخ وما لبثت أن سقطت وتراجعت. وهذا مظهر شائع طوال التاريخ. لقد نهضت الصين نفسها وسقطت خمس مرات. نعم، لن تبقى الولايات المتحدة على هذا النحو إلى الأبد. التاريخ مليء بمثل هذه الظواهر (سقوط الإمبراطورية البريطانية، والإمبراطوريات الأوروبية...... الامبراطورية الروسية ، العثمانية، الفرنسية، البروسية، الإسبانية، البرتغالية، الهولندية ، إلخ) ،إلى جانب  الإمبراطورية الرومانية ، اليونانية ، المغولية ، الأخمينية والساسانية .... في هذه الفترة وفي القرن المقبل، ستحظى الصين بالتأكيد بأهمية كبيرة بالنسبة للعالم، أهمية أكثر من الولايات المتحدة، ولكن أعتقد بطريقة مختلفة، وعلى الأرجح أكثر بكثير مما كانت عليه من قبل. هل يمكننا التكيف مع هذا الواقع؟ لقد شاعت شروط التجميد والسلبية في العلاقات مع الصين بدعوى أن"الصين تشكل تهديداً" ، و"لا يمكن الوثوق بها". إلخ. عندما أستمع إلى هؤلاء الأشخاص، أدرك أنهم لا يعرفون حتى أبسط الأشياء عن الصين. يتحدثون عن ماو، وعن ثورة 1949، ويتحدثون عن الحزب الشيوعي الصيني، ويتردد القول "نحن نعلم أنه كان عضوا في الحرب الباردة والاتحاد السوفيتي" ؛ إلخ. إنهم لا يعرفون شيئاً عن الصين. الحقيقة هي أن النقطة المشتركة بين الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي هي أولى الكلمتين! الآن يمكنني أن أوضح أن لدى هاتين المنظمتين القليل جداً من القواسم المشتركة. الحزب الشيوعي الصيني هو صيني! وبدون معرفة تاريخ الصين، لا يمكنك معرفة هذه الظاهرة. الحزب الشيوعي الصيني هو نتاج تاريخ الصين ومتأصل فيه. وأي تصور للصين لا يمكن أن يبدأ مع إندلاع الحرب الباردة، ولا يمكن أن يبدأ مع ثورة 1949. يجب أن يبدأ هذا التصور بالتعرف على عجينة التاريخ الصيني، والاختلافات في تاريخها وثقافتها، وأهمية الحضارة الصينية. فلا ينبغي أن نتعامل مع الصين عن طريق النمذجة؛ ولا ينبغي أن نصنع قوالب نمطية لها؛ ويجب ألا نتعامل مع الطريقة الغربية المحدودة في التفكير بأن "كل شخص يجب أن يكون مثلنا". لأن هذا ليس صحيحاً ولم يكن كذلك أبداً. لقد كانت فترة تاريخية شغل فيها الغرب مكانة بالغة الأهمية، لكنه لم يكن قبل ذلك، وهو الآن أقل أهمية.

لذلك يجب علينا أن نفتح أعيننا.... علينا أن نصغي للصين. ولا ينبغي أن نتعامل مع النمذجة والقوالب النمطية. ولا ينبغي أن نقدس تفوقنا والوقوف موقف اللامبالاة تجاه التباينات. على العكس من ذلك، يجب أن نتعامل بعقل متفتح، وبأذرع مفتوحة، مع التعرف على ثقافة مهمة مثل ثقافة الصين وحضارتها.

جائحة كوفيد -19

في رأيي، قد يبدو أن ما أقوله في الختام مختلفاً تماماً عما قلته حتى الآن. أريد أن أتحدث عن هذه المسألة لأنها معبرة للغاية من ناحيتين إيجابية وسلبية، وهي جائحة فيروس كوفيد-19. الآن، نحن نعرف أو يتراءى لنا أننا نعرف، لكننا في الحقيقة لا نعرف. فرضيتنا الأولى أن الفيروس ظهر لأول مرة في الصين أو نشأ في الصين. ففي كانون الثاني عام 2020، واجهت الصين صعوبة في التعرف عليه وفهمه. وأضحت الصين هدفاً لسلسلة من عمليات الاتهام والإساءة التي استمرت حتى شباط وآذار من ذلك العام. وحتى الآن، يمكن سماع هذه الإهانات والاتهامات. ووصفت جهود الصين لمواجهة الوباء بأنها "سرية" و "إحصائياتها كاذبة" وما إلى ذلك. عندما أنظر إلى ما حدث هذا العام، أجده محرجاً. فلقد واجهت الصين وحدها فيروساً جديداً وغير معروف تماماً، وكانت تحاول التصدي له، وكان الناس يموتون على نطاق واسع. ولكن يمكن الآن ملاحظة أن محاولة الصين لوقف انتشار الفيروس كانت ناجحة بشكل مدهش. هل تعلم أن أقل من 5،504 أشخاص فقط ماتوا بالفيروس في الصين؟! (آخر الإحصائيات: 102،970 مصاب (7 لكل 100،000)، 8،514 حالة وفاة (33،03 لكل 100،000) وحقن 140 مليون جرعة لقاح). وبشكل أساسي، نجحت الصين في حصر الفيروس في ووهان في مقاطعتي هوبي وسيشوان. ولم ينتشر الفيروس إلى أجزاء أخرى من الصين بشكل جدي. كانت بكين على بعد سبعة أقدام فقط من الموت. كان طول شنغهاي خمسة أو ستة أقدام فقط. بعبارة أخرى، هناك القليل جدًا من الإصابات. ولم يتم الإبلاغ عن أي حالات إصابة بالفيروس في الأشهر الأخيرة. وتعود البلاد إلى الظروف الطبيعية نسبياً. وأخذ الاقتصاد بالنمو مرة أخرى. وستكون الصين الدولة الوحيدة التي تميزت بنموا اقتصادي هذا العام. ووفقًا لتقديرات البنك الدولي تبلغ نسبة النمو 2٪، وسيبلغ النمو بنسبة 7.9٪ في عام 2021. في حين ستواجه الدول الأخرى درجات مختلفة من الانكماش الاقتصادي. قارن الآن هذا مع أية دولة غربية أخرى. يا لها من فوضى فظيعة؟! انظر إلى أمريكا! إن أحدث الإحصائيات: هناك 30،475،874 مريض (9،207 لكل 100،000)، 552،125 حالة وفاة (167 لكل 100،000) و154 مليون جرعة لقاح. انظروا إلى بلدي، إنجلترا! [4،362،355 مريضًا (6،426 لكل 100،000)، 126،862 حالة وفاة (187 لكل 100،000) و35 مليون جرعة لقاح. انظروا إلى أوروبا بدرجات متفاوتة! [46256984 مريضا و986342 حالة وفاة، وكان أداء دول الشمال أفضل. ولم تكن ألمانيا سيئة، لكن لم يكن أية منها جيداً على غرار الصين. وعلى الهامش، نحن لا نتحدث فقط عن الصين، نحن نتحدث عن دول كونفوشيوسية أخرى: مثل اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة، فيتنام ... لقد قاموا بعمل جيد للغاية في مواجهة الوباء. حسناً، يجب أن نتوصل إلى استنتاج أو من الأفضل طرح السؤال: لماذا قامت الصين وتلك الدول، وبعضها ليس شيوعياً، بهذا الأداء الجيد؟ لماذا فعلوا كل هذا العمل الجيد في حين عمل الغرب بهذا السوء؟! هذا سؤال مهم للغاية لأنني أعتقد أنه لن يكون هذا الوباء هو الأخير وسنعاني من الأوبئة في العقود القادمة. وأعتقد أن هناك سببان لذلك:

الأول هو أن الحكومة الصينية بدت فعالة للغاية. لا أقصد أنها تصرفت بفاعلية بالمفهوم الاستبدادي. وهو مصطلح غربي. أنا لا أستخدم المصطلح لأي من هذه البلدان. إن ذلك له علاقة بالجذور الكونفوشيوسية للصين ولهذه البلدان. وهذه الجذور لها معنيان. أولا، حوكمة فعالة للغاية. وإن الحكومة الصينية مؤسسة فعالة للغاية. وهذا التحول الاقتصادي ليس مفاجئاً وبسبب السوق. لا!! كانت الحكومة الصينية في قلب تحول الصين واستراتيجيتها. وهذا يوضح كيفية تعاملها مع الفيروس. اغفروا لي لساني الحاد. أنظر إلى بلدنا، الذي ينزف الدماء بسبب الفيروس. إنه لا يعرف ماذا يفعل. إنه لا يعرف إلى أين هو ذاهب. الصينيون واليابانيون وبقية هذه الدول كانوا على هذا النحو منذ البداية! ولكنهم أعلنوا يجب أن نتخلص من هذا الفيروس من البداية وإلى الأبد! لن نتعايش معه! سوف ندمره! وهذا ما فعلوه. لم تستطع المجتمعات الغربية أن تقرر ماذا تفعل. قرروا التعايش مع الفيروس. ستكون عواقبه الاجتماعية والاقتصادية سيئة للغاية.  

السبب الثاني، الذي لا يقل أهمية عن السبب الأول (كفاءة الحكم)، وهو موقف وسلوك وتفكير شعوب هذه البلدان. في الغرب، نحن فخورون بخطابنا الفردي. في الدول الغربية، بما في ذلك بلدي، هناك مقاومة للوائح مكافحة الوباء. شعارات ترفع مثل "نريد حريتنا ولا نريد أن تكون محدودة و ...". وهذا ليس بأي حال من الأحوال الروتين المعتاد في البلدان الكونيشسيوسية. فالناس يفهمون أهمية المجتمع. انت لست وحدك! إنه ليس "أنا" فقط! تأثير "أنا" عليك مهم! سلوك "أنا" يؤثر عليك! سلوك "أنا" قد يعرض مستقبلك للخطر! انهم على حق! إن فهم هؤلاء الأشخاص حول أهمية المجتمع والتضامن الجماعي ومراعاة القواعد وما إلى ذلك أمر بالغ الأهمية. حالياً، يعيش ابني في سيول. لقد تخرج للتو من جامعة ستانفورد. يقول إن الجميع بلا استثناء يرتدون قناعا خارج المنزل.

أعتقد أنني سأنهي حديثي هكذا. أنت تعلم أن الصين هي أروع بلد. وبدلاً من الشعور بالخوف منه، يجب أن نتعلم منه، ونطرح الأسئلة، ونستمتع به. ليس لأنها دولة مهمة جداً، وهي موجودة وستظل كذلك، ولكن لأنها بلد رائع جداً ولديه تراث ثقافي غني وجذاب، ومن أجل فهم تاريخ البشرية ومستقبل البشرية. شكرا لكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مارتن جاك، خبير في شؤون الصين والشرق الأقصى، كاتب وباحث وأستاذ جامعي وصحفي بارز. ولد عام 1945 في كوفنتري بإنجلترا. وهو حالياً أستاذ زائر في جامعة تسينغهوا في بكين وجامعة فودان في شنغهاي - الصين. وهو أيضاً زميل أول في قسم السياسة والدراسات الدولية بجامعة كامبريدج، وزميل أول في الأبحاث في كلية لندن للاقتصاد وعضو في أكاديمية أتلانتيك في واشنطن العاصمة. عمل مع العديد من الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأقصى في الماضي والحاضر.

غطى أثناء عمله الصحفي مجالاً واسعاً منذ عام 1977، ولديه تعاون دائم ومؤقت مع العشرات من الصحف والمجلات الإنجليزية والأمريكية والأوروبية والآسيوية المرموقة. نشر مئات المقالات والأبحاث كمحرر ونائب محرر وكاتب عمود وكاتب مقالات. من بين أهم وظائفه واستمراريتها: التحرير قي صحيفة The Guardian (1998-2020)، وصحيفة The Observer (1996-1998)، وصحيفة The Independent (1994-1996)، وصحيفة The Times (1990-1992). وصحيفة statesman (1998-2020) والماركسية اليوم (1977-1991).

عرض مقالات: