إن الدعوة المتشنجة من قبل الاتحاد الأوروبي لترويض العمالقة الرقميين، والتي صدرت الأسبوع الماضي من بروكسل تثير الدهشة. لأن الاتحاد الأوروبي لا يحتل الصدارة في سباق الرقمنة الجارية في لعالم. ولأن محاولة السيطرة على التقنيات الرقمية في الاتحاد الأوروبي أمر غير عملي مادياً: فلا تستطيع احتكارات تكنولوجيا المعلومات الخمسة الأمريكية - Google وAmazon وFacebook وApple وMicrosoft) فقط تجاهل قوانين كل دولة على انفراد، التي توفر الأرباح الفائقة، ولكن أيضاً تفرض إرادتها وأوامرها عن طريق إغلاق أو فتح المجال لوصول أي شخص إلى معلوماتهم ومنصاتهم المالية بنقرة من أصابعه ووفقاً لرغباتها. اليوم، إنها تشكل تهديداً لأي مستخدم للشبكة لأن بإمكانها استخدام قوة المساومة التي توفرها التقنيات الرقمية وتأثيرات الشبكة الملازمة لها.

بالطبع، تريد بروكسل المشاركة في إدارة هذه العملية العالمية، التي "خفضت" العام الماضي من أرباح "الخمسة" الأمريكية ذاتها بنحو 1.1 تريليون دولار، ولكن الأخيرة رفعت رساميلها إلى 8 تريليون دولار (أي أكثر من حجم ميزانيتين سنويتين للولايات المتحدة). لكن ... ما هي النتيجة؟

في الولايات المتحدة، تحولت الأسواق الرقمية بالفعل إلى احتكار القلة، ونجحت في القضاء على أية محاولة لمنافستها، على الرغم من سعي المنافسين من المستويين الثاني والثالث إلى مقاومة أسياد التكنولوجيا الرقمية. إن الأسياد أنفسهم، لنأخذ Apple أو Facebook كمثال، تقوم بشراء الشركات الجديدة خلال فترة لا تتعدى ثلاثة أو أربعة أسابيع من تأسيسها بهدف الحفاظ على تفوقها. وهكذا جرى أخيراً شراء شركة المساعد الصوتي Siri، التي تحولت إلى SRI International، وشركة Face ID التي تحولت إلى شركة إسرائيلية ناشئة هي PrimeSense. كما اشترت Apple شركة Beats Electronics لصناعة السماعات مقابل 3.2 مليار دولار، ولشركة البريطانية Shazam مقابل 400 مليون دولار. واشترت Microsoft شركة LinkedIn مقابل 26.2 مليار دولار، واشترت Amazon شركة Whole Foods مقابل 13.7 مليار دولار، واشترت Facebook شركة WhatsApp مقابل 19 مليار دولار. ولم تعد هذه رأسمالية حرة يتنافس عليها المتنافسون، بل شيئا معاكسا لها تماماً. فمن خلال التحكم في البحوث، ووسائل التواصل الاجتماعي، والإعلان، والتجارة الإلكترونية، والبث المباشر، والتأجير، والتسليم، والدفع لقاء توفير الخدمات، تعمل الاحتكارات الأمريكية على ربط المستهلك بها، وهي بذلك على بعد خطوة واحدة من أخذ زمام السلطة السياسية بأيديها.

ويبدو أن الصينيين كانوا أكثر حكمة من الأوروبيين، حيث أبقوا في البداية على التكنولوجيا الرقمية خاصة في التكنولوجيا المالية، تحت سيطرة حكومية مشددة. في العام الماضي، تم استخدام 210 تريليون يوان (32 تريليون دولار) عبر المنصات المالية على الإنترنت. وتم بناء هذه الآلية المالية العملاقة بالكامل وإطلاقها والتحكم فيها من قبل بكين رسمياً. فوفقاً لمعهد جيتستون ومقره نيويورك، فإن "النظام الصيني" أحرز النصر في حرب التكنولوجيا الكبرى في القرن الحادي والعشرين على وجه التحديد، لأن "جهود بكين لإتقان التقنيات الرئيسية كانت ضخمة بقيادة الحكومة الصينية وبتمويل منها" الذي جرى على نطاق واسع، بالرغم من سيطرة IBM  وGoogle  وشركات أخرى. والآن، "لا توجد أية شركة أمريكية لوحدها قادرة على التنافس مع شركة هواوي تكنولوجيز الصينية، التي أعلن الرئيس ترامب في أغسطس 2019 أنها تشكل تهديداً للأمن القومي"، حسب معهد جيستون.

ومع ذلك، فإن أوروبا ليست الصين، فمن المفترض أن "تنظم السوق بنفسها". فقد قدمت كل من مارغريت فيستجر، المفوض الأوروبي للمنافسة وتطوير الاقتصاد الرقمي، وجوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، رؤية جديدة للمفوضية الأوروبية للعقد الرقمي حتى عام 2030. وتؤكد المفوضية الأوروبية دون تواضع زائف على أن "أوروبا هي في طليعة الثورة الرقمية الحالية وهي ملتزمة بشكل عاجل بتمهيد الطريق لحوكمة أكثر ديمقراطية للتكنولوجيا ".

دعونا نتوقف عند النقاط الرئيسية في هذه الوثيقة: مجتمع مفتوح، لكنه مغلق أمام الأنظمة "الشمولية"، وسيادة القانون (بالطبع على الطريقة البروكسلية)، والحريات الأساسية، التي ثبت "تفوقها على الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم التقنيات الرقمية كأداة للمراقبة والقمع "(وكأن أوروبا لا تفعل الشيء نفسه).

تنظر بروكسل إلى العقد المقبل على أنه: تحالف قوي وعلاقة عمل مع البلدان ذات التفكير المماثل؛ اقتصاد رقمي مفتوح تتدفق فيه الاستثمارات بحرية؛ وخلق سوق تنافسي تتمتع فيه الشركات من جميع الأحجام بفرص متساوية للابتكار وتقديم منتجاتها إلى الزبائن.

وتعلن المفوضية الأوروبية: "يجب أن نلتزم بثلاثة مبادئ شاملة": "ساحة لعب متكافئة في السوق الرقمية، وأمن الفضاء الإلكتروني وحرية الإنترنت، بما في ذلك حماية حرية الرأي والتجمع، ومكافحة التمييز والخصوصية."

إن رائحة النفثالين في رسالة بروكسل قوية لدرجة أنها تثير القلق بشأن سلامة عقل المؤلفين الذين لا يفهمون أن واقعاً اقتصادياً مختلفاً قد تبلور بالفعل في أوروبا، مما يدحض مبادئ بروكسل. فلا يمكن أن تجد العبارات غير السوقية مكاناً لها في سوق عالمي مقسم للخدمات الرقمية باستثناء المنظرين في بروكسل. لأن أيا من "الشركات الخمس الأمريكية" أو حتى الشركات الأصغر في القطاع الرقمي للاقتصاد لن تمنح بروكسل شبراً واحداً، ولا منصة واحدة أنشأتها على الإنترنت، ليقودها شخص من بروكسل. لن تستسلم هذه الشركات، لأن مثل هذه المناورة ستكون قاتلة للصناعة بأكملها.

ومع ذلك، فقد اقترب الاتحاد الأوروبي بالفعل من الإدارة الأمريكية، وتقدم باقتراح لإنشاء مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك. ويسعى من ذلك تشكيل تحالف عالمي من أجل "حوكمة فعالة وديمقراطية للتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي". "ويعتزم الاتحاد الأوروبي الخروج بمبادرة لتجميع الموارد والدعم الفني من الشركاء لإنشاء نظام خاص به لإدارة الاقتصاد الرقمي، بما في ذلك مجالات الأمن السيبراني وحماية البيانات"، كما أعلن مبتكرو "الرؤية الجديدة" موقفهم في بروكسل.

ومع ذلك، فقد فات الأوان. إذ لا تريد بروكسل أن تفهم أن شركات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية قد تولت السلطة بالفعل. ولدى الصين فقط فرصة لوقف غزوه هذه الاحتكارات للسياسات الكبرى.

عرض مقالات: