لم تكن زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس للعراق ككل زيارات رؤساء الدول له، فقد كانت خالية من صراع المصالح والبحث عن الصفقات، بسبب طبيعة الزيارة الروحانية وشخص البابا بما يمثله كرأس للكنيسة الكاثوليكية في العالم ولدولة الفاتيكان الصغيرة المركز القيادي الروحي لهذه الكنيسة.
وقد كان معروفاً بأنه جاء حاجاً لبيت ابراهيم، كما أشار، واللقاء بأتباعه من العراقيين ونسج صلات مع أتباع الأديان العراقية الأخرى وليس لإعلان مواقف ووضع حلول أو خوض صراعات مع أحد.
لقد تنعم العراقيون اثناء ايام زيارته الأربعة بالأمان بفضل الإجراءات الأمنية التي رافقتها، وتنفسوا الصعداء، رغم قناعتهم بأنها مؤقتة. فقد أخرست، على الأقل، جعجعة السلاح وصرخات الحرب الميليشياوية وتوقف القتل، حتى مغادرته للبلاد.
ولولا جائحة كورونا لكان الاحتفاء بمقدمه أوسع... فقد عكست مواقع التواصل الاجتماعي ارتياح العراقيين للزيارة وترحيبهم بشخص البابا فرنسيس ومنهجه التجديدي، مما أثار ضغينة دعاة التعصب والانغلاق الذين لم يعجبهم هذا الحال، حال تراجع التمترس الديني والعقائدي وتراجع الحساسيات الطائفية بين العراقيين.
حتى الأحزاب الحاكمة أبدت ترحيبها بزيارته للعراق، على مضض، والتي تناولها من خلال نقده لفسادها واجرامها وتمييزها بين العراقيين وتكريس معاناتهم.
دعوات البابا لنبذ السلاح والركون إلى الحوار والتآخي والتآزر وتقبل الآخر المختلف والتوحد والشروع في عملية بناء البلاد، كلها تتقاطع مع نهج القوى المتحكمة بالسلطة في القهر السياسي والاجتماعي وفرض الرأي الواحد والاحتكام الى القوة، وخلق الأزمات وتعطيل شؤون المواطنين.
هذه القيم والمواقف الخيّرة التي طرحها البابا خلال زيارته التاريخية ليست جديدة على العراقيين فقد رفع لواءها منتفضو تشرين الأبطال وتمسكوا بها، وقدموا من أجل تحقيقها دماءً زكية وأرواحاً غالية امام اصرار همجي مسلح على استمرار نهج هضم الحقوق ومصادرة الحريات واذلال كرامة المواطن.
وكلا الموقفين، موقف البابا وموقف شباب الانتفاضة، تلاقيا مع المواقف الداعمة التي تبنتها مرجعية السيد علي السيستاني في النجف إزاء الانتفاضة، وهدف بناء دولة المواطنة المدنية.
وقد كان للقاء التاريخي بين بابا الفاتيكان فرنسيس الذي يتبعه ملايين البشر في العالم بالمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني الذي يقلده ملايين الشيعة ويحترمه المسلمون الآخرون، مغزىً كبيراً، وخصوصاً أنه عقد ليس على أساس مباديْ الدين البحتة بل على أساس مباديء إنسانية عامة… هذا اللقاء الذي أدمي قلوب المتعصبين، وممثلي احزاب الاسلام السياسي الذين استُبعدوا، بعد أن ظنوها فرصة سانحة للنفاذ، من جديد، إلى حلقة السيد السيستاني المقربة.
كانت لديّ امنية صامتة أن يبادر السيد السيستاني بدعوة البابا لزيارة ضريح الإمام علي بن أبي طالب، وهو على بعد خطوات من بيته، واطلاعه على تراثه وتاريخه ومكانته المعنوية والتاريخية لدى العراقيين وغيرهم من المسلمين في العالم، وهو ما كان قد يشكل فرصة فريدة، على الأقل، اعلامية للتعريف بهذه الشخصية المميزة في اصقاع الارض ومجاهلها بين أتباع الكنيسة الكاثوليكية وكسباً معنوياً كبيراً في تجسيدها العملي لمعاني التسامح السامية.
لكن يبدو أن عوائق نفسية وسياسية لدى المرجعية كما لدى الحكومة، عرقلت ذلك. كما أن حتى البابا ومرافقيه وخصوصاً من المطارنة والقساوسة العراقيين، ربما قد خطر على بالهم ذلك، ولكنهم تجنبوا طلبه لمنع الاحراج للجانبين.
أن جمع البابا بين قيادة دولة الفاتيكان ورئاسة الكنيسة الكاثوليكية في العالم تضفي عليه وزناً معنوياً وسياسياً مضاعفاً في الأوساط الدولية العالمية، رغم أن دولته غير مسلحة ولا تهدد احداً ولا تتمتع بإمكانيات استثمارية يمكن أن نستفيد منها، إلا أن تعميق العلاقات معها يعزز وشائج التعاون مع أوساط ومنظمات شعبية ورسمية متنوعة في العالم قد تقف مع قضايانا العادلة.
لقد أسقطت الزيارة ادعاءات الحكومات المركزية والمحلية المتعاقبة عن قلة الموارد وعدم كفايتها لتقديم الخدمات الأساسية من بنى تحتية، بعد ما أنجزته الكوادر الفنية في بغداد والمحافظات من إصلاحات وترميمات، خلال أيام معدودة، أثارت استغراب المواطنين وإعجابهم بنفس الوقت. كما أن اجراءات توفير حماية الضيف ومرافقيه الأمنية والعسكرية دللت على امكانية الدولة على الإيفاء بواجبها الدستوري بتوفير الأمن لمواطنيها وكبح المظاهر المسلحة في البلاد، لو توفرت الإرادة لديها.
حلّ بابا الفاتيكان فرنسيس، على العراقيين، ضيفاً خفيف الظل عزيزاً، نال احترامهم واعجابهم، لنواياه الإنسانية الطيبة ودعواته الصادقة لخير هذه البلاد وتجنيب شعبها مآسٍ جديدة.
مع عودته الى بلاده سالماً غانماً، عادت عندنا الحياة إلى طبيعتها السابقة بدون سلام وغُنُم، فابتدأت الاغتيالات واختطاف أطفال ناشطي الانتفاضة وفوضى السلاح والتطنيش الحكومي.