عندما نطلق صفة المبكرة على الانتخابات البرلمانية، فهذا يعني انها تسبق موعد اجرائها الدوري بفترة لا تقل عن السنة، لأن مستلزمات التحضير للانتخابات لا تقل عن ستة أشهر في أقل تقدير. فاذا جرت الدعوة لها قبل أقل من سنة فسوف لن يكون لها معنى، ولا تُرجى منها نتائج تختلف عما سبقتها، خصوصا إذا اقترنت بجملة مطالب جماهيرية تسعى لتحقيق التغيير الجذري لميزان القوى. عندما تطالب الجماهير بانتخابات مبكرة فهي تضع موعدا قريبا لا يجري التلاعب به بين مد وجزر، في سلسلة من المماطلات بين تعديل أو تغيير قانون أو إقرار موازنة أو إكمال المحكمة الاتحادية أو اية تحضيرات لوجستية اخرى. انها انتخابات مبكرة وليست رباط مطاط يُمد او يُرخى بقدر ما تريده الأحزاب الحاكمة التي خرجت ضدها الجماهير.

عندما وضع ثوار تشرين شروطهم في سياق الحراك الثوري التي لا يمكن تجاوزها بأية حال من الأحوال، للأسف لم تأت ضمن برنامج سياسي محدد الأهداف، بل جاءت كمطالب جماهيرية آنية أخذت صيغة المشروطية على القوى الحاكمة، القوى التي تمتلك القرار السياسي وتمتلك في نفس الوقت القدرة على التسويف والتنفيذ بطرق ملتوية، كما أن طريقة طرح المطالب اعطت الانطباع العفوي وغير المتكامل. فعلى سبيل المثال حينما طالبت الجماهير وبتأثير إعلامي موجه أن يجري تغيير قانون الانتخابات إلى قانون الدوائر الصغيرة، فإنها لم تقدم طلبها مقرونا بعدد الدوائر أو طريقة توزيعها أو ضمانات سحب سلاح المليشيات. لقد كان من الأجدر أن تطالب الجماهير بقانون انتخابات برلماني يشمل العراق كدائرة انتخابية واحدة. وفي غياب القيادة وإصرار الثوار على هذا الغياب فقد لعب دوراً سلبياً في طرح المطالب الجماهيرية والعمل على متابعة تنفيذها.

لم يتردد البرلمان العراقي عن استغلال التفكك التنظيمي وغياب القيادة الحقيقية، حينما جاء برئيس وزراء يلبي مطامع تلك الأحزاب، والبقاء على المفوضية المستقلة بنفس تقسيماتها وولاءاتها المحاصصاتية المعروفة، وتحديد موعد الانتخابات بموعد قريب من الموعد الأصلي، وابقاء المعوقات شاخصة لاحتمال دفعها من جديد حتى تصل نهاية الدورة البرلمانية الحالية.

من سمات الانتخابات العراقية بعد احتلال العراق، هو الدور الكبير للقوى الدولية والإقليمية في تزوير نتائجها. وقد انكشف هذا الدور حينما اختلفت اتباع واذناب تلك القوى فيما بينها، ونشروا فضائحهم الواحدة تلو الأخرى. هنا يطرح السؤال المهم، هل هناك مؤشرات على تراجع رغبة وقدرة القوى الدولية والإقليمية بالتدخل والحيلولة دون تزوير الانتخابات البرلمانية القادمة؟

من الواضح جدا أن الصراع الأمريكي الإيراني لا يزال قائما على الأرض العراقية، وأساليب التزوير متاحة، وإستسهال التلاعب بنتائج الانتخابات قائما، بمشاركة جماهيرية فقيرة يغريها أي مكسب مالي بسبب الفقر المدقع وغياب فرص العمل، وتدخل فاضح للمليشيات بالترهيب والترغيب.

من جانب أخر فان العامل الدولي له تأثير من نوع آخر، يتمثل في احجام الاتحاد الأوربي عن التعامل مع البرلمان والحكومة العراقية، باعتبارهما ممثلين فاسدين للشعب العراقي ولا يمكن القبول بهم كنظراء ما داموا قد استولوا على السلطة بالتزوير والتبعية لأمريكا وإيران. 

تقول السيدة عبير السهلاني المستشارة لشؤون السياسة الخارجية في البرلمان الأوربي، عن حزب الوسط السويدي، وهي عراقية الأصل هاجرت إلى السويد مع عائلتها هربا من بطش المقبور صدام حسين، تقول ان الاتحاد الأوربي يرفض التعامل مع الأحزاب العراقية الفاسدة وهو ينتظر أحزابا بديلة تأخذ زمام الأمور لتصل بالعراق إلى مستوى دولة مؤسسات يمكن التعامل معه.

 أما دور الأمم المتحدة وممثليتها في العراق فلم يعد مصدر ثقة واطمئنان، اذا ما ارادت أن تلعب دور المراقب على الانتخابات البرلمانية، كل تقاريرها السابقة لم تشر إلى بطلان الانتخابات البرلمانية السابقة التي انكشفت فضائحها عبر الاعلام والصحافة، بالإضافة إلى دورها الجديد الذي لم ينص عليه العقد الموقع بينها وبين العراق في كونها مساعدا وناصحا لدفع العراق إلى تجاوز مشاكله، فقد اخذت تلعب دور الوسيط بين المليشيات والولايات المتحدة الامريكية لتهدئة التوترات خدمة لطرف ما، وبعدها توجهت صوب ايران للبحث في الشأن العراقي، حتى اخذت دورا جديدا للعامل الخارجي الذي لا يعمل لمصلحة الشعب العراقي انما لصالح اجندات اخرى.

استنادا لكل اساليب التزوير والاداء الحزبي للقوى المهيمنة على السلطة التشريعية والتنفيذية يتضح اليوم في الأوساط العراقية، ومن خلال مجسات غير قليلة، فقدان الثقة في نية الحكومة والبرلمان بإقامة انتخابات برلمانية مبكرة ونزيهة في موعدها الجديد. يضاف لأسباب فقدان الثقة، مشكلة البطاقات البايومترية بين اعتمادها أو العودة إلى البطاقة الانتخابية واسعة التزوير، فلا أحد يعلم عما تخبيه الأحزاب الفاسدة من تدابير للتلاعب بالنتائج عبر البطاقة البايومترية.

تميل القوى المدنية كشخصيات مستقلة او تجمعات سياسية واجتماعية ومهنية (أحزاب ونقابات واتحادات وتنسيقيات وتيارات) إلى المشاركة في الانتخابات كآلية من آليات الديمقراطية في تحقيق التبادل السلمي للسلطة، من هنا جاءت المطالبات الواسعة والمؤثرة لإجبار أحزاب السلطة على القبول بمطلب الانتخابات المبكرة وفق شروطها المعلنة. وحتى تستطيع القوى المدنية من قراءة التوجه الجماهيري العام، واقناع تنظيماتها ومناصريها والجماهير الصامتة بضرورة الانتخابات، صار لا بد لها أن تقوم بفعاليات فردية ومشتركة هدفها تعريف الجميع بأهمية المشاركة في الانتخابات، منها إجراء استطلاعات الرأي للتعرف على رغبة الناس ومدى اندفاعها للمشاركة بالانتخابات والتأكد من مدى قناعتها بنجاعة آلية الانتخابات لتحقيق التغيير. اللجوء إلى اجراء نقاشات مفتوحة تأخذ الرأيين المعارض والمؤيد للمشاركة في الانتخابات. ضرورة الحديث عما فات من أداء للقوى المدنية في تحالفاتها السابقة واجراء تقييم شامل يعرض على الجماهير كنوع من المصارحة بما حصل من إيجابيات وسلبيات.

يقترن ذلك بإقامة فعاليات مشتركة توثق أواصر العلاقة ما بين تلك القوى لتزرع الثقة بالتوجهات المستقبلية. إضافة إلى ذلك يجري الاستماع إلى المعترضين على العملية السياسية وما آلت اليه، وإذا كانت لا تزال تحتفظ بقدرتها على التغيير. كما وتطرح النقاشات حول جملة من القضايا، منها ماهية انتخابات أكتوبر القادمة، وهل هي انتخابات مبكرة ام لا؟ هل ستعمل القوى الفاسدة على تأجيلها ام لا؟ هل سيبقى ضمن هذه الاحتمالات أهمية للمشاركة في الانتخابات ام لا؟ كل هذه الاستفسارات تشير إلى جس النبض فيما لو كان لخطاب القوى المدنية القدرة على تغيير مزاج الناس وإشعارهم بالمنعطفات الحرجة في قيادتها نحو المشاركة او المقاطعة للانتخابات.

من هنا صار مهم جدا أن تُعرِف القوى المدنية الجماهير بنفسها ومن هي الأسماء والعناوين التي ستدخل في تحالف فيما بينها. تتجلى أهمية ذلك بالكشف عن قضيتين: الأولى هل ان هذه القوى المعنية بالتحالف تشكل مصدر ثقة للجماهير وهل ساندت المنتفضين، هل جرى تجربتها في مثل هذه التحالفات سابقاً؟ والثانية هل التحالف المزمع اقامته مع القوى المدنية هو تحالف تكتيكي لخوض الانتخابات القادمة فقط (اي تحالف انتخابي) أم هو تحالف استراتيجي طويل الأمد يجري التحضير له ليظل مؤثرا في المستقبل البعيد، وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بحقيقة مسعى القوى المدنية لقيادة الجماهير نحو التغيير وتفادي اخطاء الماضي القريب.

في تدقيق الشكل التكتيكي فقد جرى اختباره بطريقتين الأولى عندما تحالف عدد من القوى مع التيار الصدري ضمن تحالف سائرون وفق برنامج متفق عليه، والطريقة الثانية ضمن تحالف مدني لعدد من الشخصيات والقوى التي رفضت التحالف مع الصدريين. والنتائج التي تلت هذان التحالفان تشير إلى عدم نجاح اي منهما بتقديم نموذج مدني ديمقراطي متماسك بعيد عن المصالح الشخصية والانانية. وانتهت التجربة باستقالة العضوين البرلمانيين الوحيدين الممثلين للقوى المدنية من البرلمان ليعوض عنهما بعضوين من التيار الصدري، وبذلك فرغ البرلمان من أي تمثيل مدني انتخابي.

اما إذا كانت التحالفات قد اخذت طابعاً استراتيجيا فهذا يعني انها لن تشارك في الانتخابات البرلمانية المبكرة (هذا إذا كانت لا تزال تحمل صفة مبكرة). ومن المفروض أن تسعى إلى تقليل نسبة المشاركة لسحب الصفة الشرعية عن (الفائزين)، وتهيئة الجماهير لإعادة الكرة بتظاهرات تمتد من الجنوب إلى إقليم كردستان، خاصة وأسباب الانتفاضة لا تزال قائمة.

من القضايا المهمة التي يجب التوقف عندها فيما لو لجأت القوى المدنية إلى الأسلوب التكتيكي في المشاركة بالانتخابات، أن تجيب على سؤالين:

 الأول ماذا لو تمخضت الانتخابات عن فوز نفس القوى الحاكمة، وهذا لن يتم إلا بتزوير الانتخابات، ما يعني ان المشاركة قد منحت هذه القوى الفائزة الثقة والشرعية، حينها كيف يمكن إقناع الجماهير الغاضبة، أن القوى المدنية ليست جزءًا من اللعبة السياسية التي استمرت منذ العام 2003 حتى اليوم، خاصة والنتائج تتشابه في كل الانتخابات؟

السؤال الثاني ماذا لو استطاعت القوى المدنية، إيصال عدد محدود من ممثلين إلى البرلمان؟ ما هو حجم التأثير الذي سيمارسه هؤلاء بعد تلك التجارب التي مرت على البرلمانات السابقة، وما هي الضمانات بعدم لجوء بعض هؤلاء إلى التحالف مع الفاسدين بحجة عدم القدرة على التأثير في مسار العملية السياسية؟ إن هذا الافتراض لم يتبلور من فراغ، بل انه انعكاس لوقائع جرت من خلال تجارب الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين، مرورا بتحالفات المعارضة في إقليم كردستان العراق وبعدها التحالف في القائمة العراقية وصولا إلى تحالف سائرون. لقد كانت المبررات دائما أن المدنيين يتحالفون على برنامج وفي كل مرة يخل الطرف الاخر بالبرنامج المتفق عليه، فمن الضامن بعدم تكرار ذلك، وإلى متى سيبقى هذا المبرر صامدا في اقناع الجماهير؟

لتجاوز كل هذه الإشكاليات وحتى لا يكون خطاب القوى المدنية مثبطا وباعثا للاسترخاء فيما يتعلق بعقم المشاركة في الانتخابات، يمكن ان يكون الخطاب مختلفا هذه المرة. إذ يمكن الإعلان بكل وضوح عن اتخاذ قرار المقاطعة إذا لم تتوفر الشروط التي وضعتها انتفاضة تشرين لإجراء الانتخابات المبكرة. وفي نفس الوقت يجري دعوة الناخبين لتحديث بياناتهم والاحتفاظ بالبطاقة البايومترية، ضمانا لقضيتين: المشاركة إذا ما تحققت الشروط، وحرمان المزورين من إمكانية اللجوء إلى البطاقة الانتخابية القديمة بسبب ضعف الاقبال على تحديث البيانات الشخصية، يضاف لها تحديد موعد نهائي لتحقيق شروط المنتفضين للاعتراف بالانتخابات المبكرة، هذا سيحرج الفاسدين ويحفز المنتفضين ان يكونوا على أهبة الاستعداد في نفس الوقت.

هذه الأفكار ليست ملزمة لأحد بقدر ما هي دعوة للقوى المدنية للتفكير وإعادة الحسابات، فيما لو ارادت ان تقود الانتفاضة، هل تريد القوى المدنية ان تكون الممثل الحقيقي للشعب العراقي بغية نقله إلى واقع اخر طالما حلمت به؟ هل تسعى القوى المدنية لتأهيل الكفاءات العراقية لكي تمسك الاقتصاد العراقي وتوفر فرص العمل لكل القوى العاملة؟ هل هي جادة في الحفاض على الثروات الطبيعية وتسخيرها لتوفير الحياة الكريمة للمواطنة والمواطن؟؟؟ 

عرض مقالات: