يريد الناس أن يعرفوا إلى أين يتجه الاقتصاد الأمريكي. وهم يسألون هل مازال لدى الولايات المتحدة اقتصاد؟ جوابي هو كلا، ليس لدينا اقتصاد. وسأشرح الأسباب.

لقد أشرت على مدى ربع قرن إلى التأثير المدمر لنقل الاستثمارات والوظائف الأمريكية إلى الصين ونقاط أخرى في العالم. إذ قدم النقل إلى الخارج خدمة لمصالح المديرين التنفيذيين في الشركات وأصحاب الأسهم. وأدى انخفاض تكاليف العمالة إلى زيادة الأرباح، وبالتالي، إلى تقديم المكافآت للمديرين التنفيذيين وحملة الأسهم، مما أدى إلى مكاسب رأسمالية للمساهمين فحسب.

ولكن هذه الفوائد لم تصب إلاّ لصالح فئة صغيرة من السكان. أما بالنسبة للآخرين، فقد فرضت هذه الفوائد المقيدة تكاليف خارجية ضخمة تفوق عدة مرات زيادة الأرباح. وتضررت القوى العاملة في الصناعة الأمريكية، وكذلك القاعدة الضريبية للمدن والولايات والحكومة الفيدرالية. وتقلص عدد الطبقة الوسطى، وانخفض عدد سكان سانت لويس وديترويت وكليفلاند وبيتسبيرج وساوث بيند وغاري إنديانا وفلينت ميتشيغان ومدن أخرى بنسبة تصل إلى 20٪. وتحطمت آمال وتطلعات ملايين الأمريكيين. أصبحت المدن الأمريكية المزدهرة في يوم من الأيام على حافة الانهيار. وانهارت سلاسل التوريد وقيم العقارات (انظر إلى   كتاب” فشل رأسمالية ليزيه فير بقلم پول گريك روبرتس" (Paul Craig Roberts، The Failure of Laissez Faire Capitalism، Clarity Press، 2013).

ومع انخفاض دخول غالبية المواطنين الأمريكان، ارتفعت المداخيل بنسبة واحد بالمائة، وتركزت مكاسب الدخل والثروة في القمة، مما أدى إلى أن تصبح الولايات المتحدة اليوم أحد أكثر البلدان ذات التوزيع غير المتكافئ للدخل والثروة في العالم.

وبالنظر إلى نقل المرافق ذات الإنتاجية العالية إلى الخارج، فقد أدت وظائف التصنيع ذات القيمة المضافة العالية إلى خفض الدخل الأمريكي، وإلى أن يتأثر سلباً إجمالي الطلب المحلي في الولايات المتحدة وإلى انخفاض النمو الاقتصادي. وقام الاحتياطي الفيدرالي بتوسيع الائتمان واستبدال الزيادة في ديون المستهلك بالنمو المفقود في دخل المستهلك. وأدى ذلك إلى تفاقم المديونية، التي أكد الاقتصادي مايكل هدسون بشكل صحيح أنها تستنفد دخل المستهلك لدفع خدمة الديون من الرهون العقارية ومدفوعات السيارات وبطاقات الائتمان وديون قروض الطلاب، مما يترك القليل من الدخل التقديري أو لا يترك أي دخل تقديري لدفع عملية النمو الاقتصادي.

لقد أكد هدسون، الذي عمل على تحليل الاقتصاد المتآكل في أمريكا لفترة طويلة، أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد اقتصاداً منتجاً أو صناعياً، بل هو اقتصاد ممول لا يستخدم فيه الإقراض المصرفي للمصانع والمعدات الجديدة، بل من أجل تمويل عمليات الاستحواذ على الأصول الموجودة سعياً وراء الفوائد والرسوم والمكاسب الرأسمالية، وما يسميه الاقتصاديون الكلاسيكيون الدخل غير المكتسب أو "الإيجار الاقتصادي". وباختصار، يوضح هدسون أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد اقتصاداً منتجاً. إنه محظ اقتصاد يسعى إلى الريع.

ويشير هدسون إلى أنه مع تزايد تمويل الاقتصاد، يتحول النهب إلى خصخصة الأصول العامة. والأمثلة لا حصر لها. ففي المملكة المتحدة، تمت خصخصة مكتب البريد بجزء بسيط من قيمته، إلى جانب الإسكان العام والنقل والهاتف البريطاني، مما أدى إلى مكاسب ضخمة للقطاع الخاص. كما خصخص الفرنسيون الممتلكات العامة. وفي اليونان، تمت خصخصة الموانئ والمرافق البلدية وشركات المياه مع الجزر اليونانية المحمية. وفي الولايات المتحدة، تتم خصخصة قطاعات من القوات المسلحة، إلى جانب السجون. وباعت شيكاغو لمدة 75 عاماً رسوم عداد مواقف السيارات إلى كيان خاص دفعة واحدة. ويتم في كل مكان بيع الأصول العامة، بما في ذلك الخدمات، لصالح القطاع الخاص. ففي فلوريدا، على سبيل المثال، يتم تقديم إصدار بطاقة رخصة السيارة السنوية من قبل القطاع الخاص. عندما لا يتبقى شيء للخصخصة، فمن ستمول البنوك؟

يلاحظ هدسون أن الاقتصاديين الحقيقيين، الكلاسيكيين منهم، ركزوا على فرض الضرائب على الريع الاقتصادي غير المكتسب، وليس على دخل العامل والنشاط الإنتاجي. ولا يستطيع الاقتصاديون الليبراليون الجدد اليوم التفريق بين الريع الاقتصادي والنشاط الإنتاجي. وبالتالي، يفشلون في تحليل الناتج المحلي الإجمالي في الكشف عن تحول الاقتصاد من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي. ويسمي هدسون الاقتصاديين النيوليبراليين بـ"الاقتصاديين غير المرغوب فيهم"، وأنا أتفق معه في ذلك. في الأساس، فهذه الأموال موجهة للقطاع المالي والشركات التي تدفع لهم مقابل الجمع بين العمل والاستثمار في الخارج مع الاستثمار في التجارة الحرة.

أنني على قناعة بأنه إذا تم محو الاقتصاد النيوليبرالي بالكامل فلن يفقد أي شيء قيمته. ويقف الاقتصاديون، ولا سيما الاقتصاديون الأكاديميون، على درب الحقيقة. فالاقتصاديون الليبراليون يعيشون في عالم خيالي ابتكروه بافتراضات ونماذج لا وجود لها على أرض الواقع.

وإنني على معرفة بالجامعات والاقتصاديين الأكاديميين. فقد تخرجت من مؤسسة هندسية وعلمية - Georgia Tech - ثم أصبحت طالب دراسات عليا في الاقتصاد في جامعة فيرجينيا وجامعة كاليفورنيا وبيركلي وجامعة أكسفورد. وكان لدي أربعة بروفسوريين من الحائزين على جائزة نوبل كأساتذة. ولدي شهادة دكتوراه في الاقتصاد. وقدمت مساهمات في المجلات الرئيسية في الاقتصاد ولغيرها من خارج المجال، ولدي 30 مقالة منشورة قبل مغادرتي الأوساط الأكاديمية. وعملت لسنوات كمرجع لمجلة الاقتصاد السياسي مع التمتع بسلطة إقرار نشر البحوث المقدمة.

لدي كتب تمت مراجعتها من قبل الزملاء من مطبعة جامعة هارفارد ومطبعة جامعة أكسفورد. لقد ناقشت الفائزين بجائزة نوبل أمام الجماهير المهنية. وعملت كمحرر في وول ستريت جورنال وكمساعد لوزير الخزانة الأمريكية، وشغلت العديد من المناصب الجامعية. كما يتمتع مايكل هدسون أيضاً بخبرة حقيقية في العالم في المؤسسات المالية الكبرى والمنظمات الدولية والحكومات، بالإضافة إلى العمل كأستاذ في المعاهد الأمريكية والخارجية، والمساهمات في المنشورات الأكاديمية بالعديد من اللغات.

بعبارة أخرى، نحن نعلم ما نتحدث عنه. وليس لدينا مصلحة في خدمة أي طرف سوى الحقيقة. ولا يدفع أحد لنا أجراً مقابل هذه الخدمة. ولكن لدينا صوتان فقط. قبل عقدين من الزمان، عُرض عليّ احتمال حدوث زيادة كبيرة في تضخيم صوتي بشأن الآثار الضارة للنقل إلى الخارج. في كانون الأول عام 2003 تلقيت مكالمة هاتفية من السناتور الأمريكي تشارلز شومر، الديمقراطي عن ولاية نيويورك. كان السناتور شومر يقرأ أعمدتي التي قدمت فيها قضية أنه تحت ستار التجارة الحرة، تم نقل الوظائف والاستثمار إلى الخارج على حساب النجاح الاقتصادي للولايات المتحدة. شارك السناتور شومر قلقي وتساءل عما إذا كان مسؤول وزارة الخزانة في إدارة ريغان سيوافق على المشاركة في تدوين مقال لصحيفة نيويورك تايمز يثير مسألة ما إذا كان نقل الوظائف إلى الخارج في مصلحة أمريكا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الدكتور بول كريگ روبرتس ( Dr. Paul Craig Roberts ) من مواليد 3 أبريل 1939، اقتصادي ومؤلف أمريكي. شغل سابقًا منصبًا وزاريًا فرعيًا في الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة بالإضافة إلى مناصب للتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية. وهو مروج لاقتصاديات جانب العرض ومعارض للسياسة الخارجية الأمريكية الأخيرة. حصل روبرتس على درجة الدكتوراه من جامعة فيرجينيا. درس لاحقًا في جامعة ستانفورد وجامعة نيو مكسيكو قبل أن يذهب للعمل كمحلل ومستشار في كونغرس الولايات المتحدة حيث كان يُنسب إليه باعتباره المؤلف الرئيسي للمسودة الأصلية لقانون ضريبة الانتعاش الاقتصادي لعام 1981. وأصبح مساعد وزير الخزانة الأمريكي للسياسة الاقتصادية في عهد الرئيس رونالد ريغان - وبعد ترك الحكومة - شغل كرسي ويليام إي. سايمون للاقتصاد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لمدة عشر سنوات، وعمل في العديد من مجالس إدارة الشركات. محرر مشارك سابق في صحيفة وول ستريت جورنال، ظهرت مقالاته أيضًا في النيويورك تايمز وهاربر، وهو مؤلف أكثر من عشرة كتب وعدد من الأوراق. في عام 1987، حصل روبرتس على وسام جوقة الشرف برتبة شيفالييه (فارس) من قبل رئيس فرنسا فرانسوا ميتران. وهو حاصل أيضًا على جائزة الاستحقاق من وزارة الخزانة الأمريكية وجائزة الصحافة الدولية للتحليل السياسي من نادي الصحافة المكسيك.

عرض مقالات: