طوال فترة حكمه ظل مؤسس الجمهورية العراقية الزعيم الركن عبدالكريم قاسم يكرر مقولة حفظها منه العراقيون، يقول فيها أنه فوق الميول والإتجاهات. وهو، حقا، لم ينتم الى أي من التيارات السياسية والفكرية التي كانت سائدة في تلك الفترة. فلم يكن قوميا عروبيا، ولا يساريا أو شيوعيا، وهو بالطبع ليس إسلامويا ولا ليبرالي كما هو واضح الإبتعاد عن المعسكر الغربي.

أنصاره يصفوه بانه عراقوي، لكن لم يكن في الحقيقة ثمة تيار أو إتجاه عراقوي لكي يحسب عليه، وعندما حطمت حركته العسكرية في الـ 14 من تموز ـ يوليو دعائم النظام الملكي الموالي للغرب، انطلقت التيارات العراقية التي كانت متوافقة في ما بينها في معارضة الملكية، كل لتحقيق أهدافه، ويمكن القول ان الوطنية العراقية لم تكن قد تشكلت بعد، وربما هي لم تتشكل حتى وقتنا الراهن.

فالوطنية في وسط وجنوب العراق بالأضافة الى مدينة الموصل لم يكن لها تجل منفصل عن العروبة والإسلام، أما بالنسبة لكردستان، فالوطنية هي الإنتماء الى الكرد وحلم الدولة القومية الكردية. ولم يساعد نهج الأعتدال الذي اعتمده الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، ومسحة الليبرالية غير المفهومة من الشرائح المكونة للشعب العراقي، لم يساعدا الحزب في الحصول على قدر مناسب من الشعبية يمكنه من أن يلعب دور المعبر عن الوطنية العراقية، فالشارع المديني كان منقسما بين حزب الأستقلال القومي العروبي ومن أنتقل منه الى حزب البعث حديث التأسيس ولكن كبير الفاعلية، وبين الحزب الشيوعي، أكثر الأحزاب العراقية عراقة، والذي تأسس قبل الإطاحة بالملكية بنحو ربع قرن، والذي برز دوره في النضال ضدها.

أما الريف العراقي فقد كان يسوده ما يمكن أن نطلق عليه بـ ((الوعي الديني)) الذي يترجم حالة الفقر المعرفي أرتباطا بجحم الأمية الذي لم يكن يقل عن 80% من الذكور و99% من الإناث، والمقيد بجبروت الأقطاع الأمي بدوره هو الآخر.

التيار القومي العروبي كان يرى الوطنية في الإلتحام بالعروبة ورمزها آنذاك الزعيم المصري جمال عبد الناصر، أما التيار اليساري ودعامته الأساسية الحزب الشيوعي، فكان يرى الوطنية في تحقيق المهام الأجتماعية، وفي صلبها أعادة توزيع الثروة الاجتماعية لصالح الكادحين، وحقق له ذلك شعبية كبيرة، تجلت في المسيرة العملاقة التي نظمها في الأول من أيار ـ مايو عيد العمال العالمي عام 1959، والتي هتفت فيها الجموع بشعار:

 ((عاش الزعيم عبدالكريم .... الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم))، حتى رجال الشرطة الذين طالما طاردوا الشيوعيين، ذهلوا من نفوذهم فآثروا الهتاف بشعارهم ((وطن حر وشعب سعيد)) مرددين: ((إسأل الشرطة ماذا تريد؟ ... وطن حر وشعب سعيد)). ولم يجد ((الوطنيون الديمقراطيون)) موطئ قدم صلب لهم بين الجماهير المنقسمة بين متطبات العروبة واستحقاقات العدالة الأجتماعية، رغم ضخامة حصتهم في مجلس الوزراء الذي شكله قاسم، والذي ضم الى جانبهم ممثلين عن حزب الأستقلال، وعن البعثيين والحزب الديمقراطي الكردستاني، وخلى من الشيوعيين. كل كان يستعجل تحقيق المكاسب، والتطلع الى الإستئثار بالسلطة، وتحقيق الأهداف. ولم تجد الأهداف الوطنية التي ربما عبر عنها حزب كامل الجادرجي من يعيرها إهتماما.

بالنسبة لقاسم كان الأنجراف في تيار العروبة والوحدة يعني تحوله الى مجرد موظف لدى عبدالناصر يمكن الأستغناء عن خدماته في أي وقت وإيكالها الى نائبه القومي المتحمس عبدالسلام عارف المدعوم بغالبية الضباط المنتظمين في تنظيم ((الضباط الأحرار)) الذي أطاح بالملكية، أو إلى أي من رجالات القوميين والبعثيين. لذلك لم يجد أمامه سوى تبني المطالب الأجتماعية التي نادى بها الشيوعيون وفي مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي. ليستند اليهم والى المستفيدين من القانون في معارضة الدعوات الى الأندماج بالجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم مصر وسوريا بزعامة عبدالناصر. لكنه كان في نفس الوقت يجد نفسه ضعيفا أمام الشيوعيين الذين أجادوا مخاطبة الطبقات التي تهمهم وشكلوا منها منظمات جماهيرية عملاقة: نقابات عمالية، جمعيات فلاحية، أتحادات طلابية ونسوية ومهنية، وقبل هذا وذاك ميليشيا المقاومة الشعبية.

كان على قاسم أن يستعين بالشيوعيين وقاعدتهم الجماهيرية في دعم حكمه، وأن يقلم، في ذات الوقت، أظفارهم. من خلال ضرب تلك التنظيمات، ورشوة جماهير الكادحين، لنقلهم من دائرة نفوذ الشيوعيين الى دائرة دعمه كزعيم أوحد أمين. وكان عليه في ذات الوقت مواصلة إضعاف القوميين والبعثيين ولكن ليس إلى الدرجة التي يكفوا فيها عن أن يكونوا قوة مكافئة للشيوعيين ومهددة لنفوذهم. وتورط قاسم من خلال ذلك في عملية اللعب على التوازنات. وقد لخص الباحث حنا بطاطو في الجزء الثالث من عمله البحثي فائق القيمة والأهمية ((العراق)) بالقول:

 (( لم يكن قاسم يقف فوق صراعات الأطراف، وخصوصا من بينها القوتان الرئيسيتان

القوميون والشيوعيون ـ ولا هو حاول التوسط بينهما، بل على العكس من ذلك فأنه لم يفعل إلا أن يسد، بإبقائهم منقسمين، ويلعب أحدهم ضد الآخر، وإبقائهم على خلافاتهم المتبادلة، وبغض كل طرف للآخر، ولم يكن باستطاعته أن يفعل غير ذلك، فمن ناحية، لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي، نقطة إستناده الطبيعية يملك قاعدة سياسية ـ يقصد جماهيرية ـ كافيه. ومن ناحية أخرى، وهذا هو السبب الحاسم، لم يكن قاسم يسيطر على خلفية صلبة بين ضباط الجيش)).

ويضيف بطاطو:

  ((ومن نقطة الضعف هذه نبعت حاجة قاسم الى المناورة بين القوميين والشيوعيين واضعا أحد الطرفين ضد الآخر، منهكا إياه أو متبنيا له، حسب ما تفرضه الظروف. وكان استمرار وجوده نفسه يعتمد على عدم سماحه لأي من القوتين بأن تصبح شديدة القوة، أو السماح للقوتين بالإتفاق في ما بينهما )).

الإقتباس من الصفحتين 156 ـ 158 من الحزء الثالث من كتاب حنا بطاطو ((العراق)) المعنون الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار.

لم يصرح عبدالكريم قاسم علنا ان الحزبية والعمل الحزبي جريمة أو خيانة، لكنه تعامل معها كجريمة وكخيانة على أرض الواقع، وعمل على ضرب كل حزب أو فصيل سياسي لا يكون تابعا له، فبعد أن أستعان بالشوعيين للتعامل مع مساعي التيار القومي لأنتزاع السلطة منه وضم العراق الى الجمهورية العربية المتحدة، ضرب الشيوعيين، وحارب الحركة الكردية بقيادة مصطفى البارزاني، وشق الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان على رأسه الشخصية الديمقراطية واسعة الإحترام كامل الجادرجي، عبر تحريض نائب رئيس الحزب محمد حديد على الأنشقاق وتشكيل الحزب الديمقراطي التقدمي، واستخدم بعض المنشقين في عملية تحجيم الحزب الشيوعي، وأبرزهم عراك الزكم الذي أوكلت اليه مهمة شق الحركة الفلاحية، والأتحاد العام للجمعيات الفلاحية الذي كان يقوده الكادر الشيوعي كاظم فرهود، وأضطر الحزب الوطني الديمقراطي في نهاية المطاف الى تجميد نشاطه، بعد أن وجد الجادرجي أستحالة مواصلة النشاط السياسي في ظل القمع الذي مارسته سلطة قاسم ضد الجميع، وأنتهى قاسم إلى تلفيق حزب شيوعي وهمي بقيادة داوود الصايغ كبديل طيع يستخدمة لتجريف الحزب الشيوعي الحقيقي، وشنت أجهوته الأمنية حملة قمع واسعة ضد أعضاء الحزب ومنظماته، وغضت تلك الأجهزة الطرف، وربما نسقت أو تواطأت مع العصابات الإجرامية التي نظمت مئات عمليات الأغتيال بحق الشيوعيين.

وبعد شن قاسم لحربه في كردستان، وجه حسين أحمد الرضي ((سلام عادل)) رسالة الى الأحزاب الشيوعية، قال في جانب منها:

(( قبل أن يحتفل العراق بالعيد الأول للثورة، أخذ الوجه اللا ديمقراطي للسلطات الحاكمة في بغداد يزداد بروزا. إذ بدأت توجه ثقل سياستها في الداخل، لأخفات المد الثوري، ولتفتيت القوى الديمقراطية الواحدة بعد الأخرى، وفرض وإدامة حكم عسكري فردي على البلاد.

وعلى الرغم من أن هذه السياسة وجهت سهم رمحها في البدء ضد الحزب الشيوعي، بغية تجميد أو كسب القوى الوطنية الأخرى الى جانبها، إلا أنها سرعان ما كشفت حقيقتها المعادية لكل القوى الديمقراطية، وللحقوق والمطالب الديمقراطية لكل جماهير الشعب)).

وفي خطابه أمام المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، تحدث حسين أحمد الرضي ((سلام عادل)) عن ما كان يتعرض له حزبه ، قائلا:

((أحصي حتى الآن (269) شهيدا من الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين المخلصين. وقد أغتيلو على أيدي العناصر الرجعية والأقطاعية وعصابات الإجرام التي تعمل بمعرفة الحكومة، وبأشراف بعض أجهزتها البوليسية، أو نتيجة إطلاق النار على المظاهرات السلمية من جانب قوات القمع الحكومية. كما أصدرت المجالس العرفية العسكرية أحكاما بالموت على ( 106 ) من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين إبدل قسم منها الى السجن المؤبد، أو السجن عدة سنوات. وقد نفذ حكم الإعدام بأربعة من الجنود الذين ساهموا بقمع مؤامرة الموصل. وطبقا لإحصاء أولي لم يشمل جميع الأحكام، أصدرت المجالس العرفية أحكاما بالسجن تجاوزت ( 4 آلاف سنة ) بينها أحكام بالسجن المؤبد. وبلغ عدد المعتقلين عام 1960 وحده، إستنادا الى مصدر رسمي ( 22 ) الف شخص. وتعرضت المنظمات والنقابات العمالية وجمعيات الفلاحين والمواطنين عموما ألى (7510) حوادث إعتداء، وقد إقترنت هذه الإعتداءات بتوقيف وإبعاد الآلآف من ضحاياها، وباستثناء من قتل نتيجة هذه الإعتداءات أصيب ( 1527 ) شخصا بجراح. وهجرت ( 2424 ) أسرة عائلة من محلات سكناها، وأحرق أو نهب الكثير من دور وأكواخ الفلاحين.

كما جرى ولا زال يجري إنتهاك فظ للحركة الديمقراطية فيعتقل البارزون والقادة النقابيون ورجال حركة السلم والكتاب والصحفيون، وبعض قادة الأحزاب الوطنية، وأصحاب المطابع وتضطهد الحياة الحزبية، وتداس كرامة المواطنين، وتخرق القوانين، ويسود البلاد حكم عسكري فردي منذ 14 تموز 1958 حتى الآن)).

المصدر: سلام عادل .. سيرة مناضل الجزء الثاني تأليف: ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد. إصدار دار المدى. الطبعة الأولى سنة 2001. صفحات 118 ـ 119

كل هذه المعطيات ربما تكشف سر أمتناع قاسم عن الأستجابة لطلب جماهير العراقيين التي تدفقت صبيحة الثامن من شباط هاتفة :(( يا كريم أعطينا سلاح … باسم العامل والفلاح))، فلا شك أنه قدر أنه لو كتب للمقاومة الشعبية النجاح في إحباط إنقلاب شباط 1963، لكانت النهاية ليست فقط من نصيب الإنقلابيين، بل كانت ستكون نهايته أيضا. كان الشعار يفصح بوضوح عن طابع المقاومة والجهة التي تنظمها، وأنها ذات المقاومة التي أحبطت أنقلاب الشواف، والتي كافأها قاسم بزج قادتها في السجون وإعدام بعضهم، وإطلق عصابات الإجرام لتصفية باقي المشاركين في إحباط الإنقلاب.

وبذكائه المعهود لابد أن قاسم قد أدرك أن المقاومين المنتصرين لن يسلموا رقابهم له هذه المرة، كما فعلوا في كل مره، وأنهم سيزيحوه إن لم يحاكموه على إتاحة المجال أمام القوى الفاشية للتغول،مقابل قمع القوى الديمقراطية، وتخريب الحياة السياسية، ومصادرة حرية الصحافة وإغلاق الصحف، وملاحقة التنظيمات الجماهيرية من نقابات عمالية ومهنية وأتحادات فلاحية وطلابية ونسوية وإغلاقها واعتقال قادتها.