لم تكن الساعة قد شارفت السابعة صباحا بعد من يوم الجمعة ٨ شباط الأسود عندما استقليت مع شقيقتي وأطفالها الصغار حافلة مصلحة نقل الركاب من مدينة القاهرة الثانية الواقعة في الضفة الشرقية من قناة الجيش لتأخذنا إلى ساحة الميدان حيث كراج السيارات التي تتزاحم هناك لنقل المسافرين إلى مدن عراقية عدة ومن ضمنها مدينة كركوك، مسقط رأسي ووجهة شقيقتي وأطفالها في ذلك اليوم.. لم يدر بخلدي، وعمري حينذاك سبعة عشر عاما، بأني سأكون شاهدا لأبشع جريمة ارتكبت في تأريخ العراق.. جريمة استشهاد ثورة تموز وقادتها الأبطال، ومعهم عشرات الألاف من حماتها ومؤيديها من شيوعيين وديمقراطيين وقاسميين .. وعند وصول الحافلة منطقة الكسرة، وهي منطقة كانت موبوءة بالقوميين والرجعيين، شاهدنا عددا من الشباب يحملون العصي ويهتفون بشعارات لم نكن نسمعها بوضوح أو نعرف أسبابها بسبب النوافذ المغلقة للحافلة، حيث تحركت باتجاه ساحة الميدان.

وعند وصولنا إلى ساحة الميدان اتجهنا إلى كراج كركوك حيث كان المكان مكتظا بالمسافرين وشاهدت الناس يستمعون إلى المذياع وهو ينشد الأغاني الحماسية ويعلن عن (القضاء) على عبد الكريم قاسم! فلم يكن يستدعي تأخير سير الباصات الذاهبة إلى كركوك وغيرها من المدن، هكذا قال أصحاب الكراجات، إذ لم يأخذ الجميع محمل الجد ما كان يذاع من خلال المذياع بان هناك انقلابا عسكريا قد أطاح بالزعيم عبد الكريم قاسم، أو بأن هؤلاء المتآمرين قادرون على الإطاحة به، ومعه الشعب كله وهم يشاهدون تلك الجموع الغفيرة التي تمر عبر الساحة وتتوجه إلى وزارة الدفاع وهي تهتف بحياة الزعيم وتطالب بالسلاح للدفاع عن الجمهورية ورغم بيان منع التجول الذي أعلنه الانقلابيون!! في ظل هذه البلبلة وتأكيدات السواق بسلامة السفرة، ودعت شقيقتي وأطفالها وانطلقت السيارة باتجاه كركوك حيث وصلوها بسلام ودون عوائق.

وتزامن تدفق الجماهير الغفيرة باتجاه وزارة الدفاع، ومن باب الفضول فقط عزمت المشاركة في هذا الاندفاع نحو المجهول عندما ظهرت طائرة هوكر هنتر في سماء المنطقة وبدأت تقصف وزارة الدفاع حيث كنا نسمع أصوات رشقات من بطاريات مضادات الطائرات باتجاه الطائرة المغيرة. وكان الشارع المؤدي إلى وزارة الدفاع مكتظا بهذه الجماهير. وبحدود الساعة العاشرة صباحا على ما أذكر، شاهدنا سيارة الزعيم عبد الكريم قاسم وسيارات أخرى قادمة صوب الوزارة وهي تحمل كل من الشهداء فاضل عباس المهداوي، وصفي طاهر، طه الشيخ أحمد، كما كان معهم أحمد صالح العبدي وحافظ علوان وقاسم الجنابي وعدد آخر لا أذكر أسماءهم، حيث شقوا طريقهم بصعوبة بالغة وسط الجموع الغفيرة من أنصار الزعيم والشيوعيين وكلها تطالب بالسلاح وتهتف بحياته ( يا كريم انطينة سلاح باسم العامل والفلاح)!! عندها خرج الزعيم إلى الجماهير من وزارة الدفاع محييا إياها ومؤكدا لها بأنه سيقضي على المتآمرين خلال ساعة واحدة!! لكن الجماهير بقيت في مكانها، لم تغادر وزارة الدفاع في الوقت الذي تضاعف فيه قصف الطائرات للوزارة .. بعد حين قدمت بضع دبابات وهي تحمل صور الزعيم على جانبيها ، واستقبلتها الجموع بالهتاف والتصفيق، وحتى حاول عدد من المتحمسين الصعود على ظهرها، حيث انطلت هذه الخدعة على الجماهير المحيطة بالوزارة، وحالما استقرت الدبابات بالقرب منها، بدأت برمي الجماهير بالرصاص الكثيف، فسقط العديد منهم بين شهيد وجريح، واندفع الباقون للاحتماء من الرصاص المنهمر في الأزقة والمحلات والمقاهي القريبة.. لم ادر ما حصل بعد ذلك عند باب الدفاع ، حيث تدافعت وخرجت عند ساحة الميدان ثانية والتي تورمت بهذا العدد الكبير من الجماهير العزلاء التي لم يخفت صوتها منددا بالمتآمرين والهتاف بحياة الزعيم والجمهورية الفتية ..

وقتها انقطعت حركة المرور وحافلات مصلحة نقل الركاب، ولكن ما زالت السيارات العامة والمارة تسير في الشوارع رغم بيان منع التجول الذي أصدره الانقلابيون.. ولما لم تكن وسائط النقل العامة متوفرة لذا اضطررت للذهاب سيرا إلى بيت أقاربي في البتاويين، وإذا كنت محظوظا، أو هكذا فكرت، لربما سأجد إحدى الحافلات التي من الممكن أن تقلني إلى أقرب مسافة من بيتنا، وهكذا تابعت السير جنوبا من شارع الجمهورية نحو الباب الشرقي.. لم أصدق كما لم يصدق الألوف غيري، أن بضعة أنفار يستطيعون قلب النظام والسيطرة على الأوضاع !! وكان الضباط القوميون والبعثيون قد ازداد عددهم، وتبوأوا مناصب عليا بعد عام ١٩٦١ في الوقت الذي أحال الزعيم عبد الكريم قاسم معظم الضباط الشيوعيين والموالين له على التقاعد، ضمن سياسة التوازنات التي كان ينتهجها، وفي النهاية لم يخرج للدفاع عن الجمهورية والزعيم غير الشيوعيين والموالين له.. واللافت للانتباه إنه وطيلة سيري باتجاه البتاويين لم أجد أي أثر لمؤيدي الانقلاب ضمن الجموع التي كانت وطول المسافة من الميدان إلى باب الشرقي تندفع صوب باب المعظم وقسم منها يحمل العصي وأدوات الفلاحة وهتافها يشق السماء بحياة عبد الكريم قاسم والجمهورية! وعند المساء وصلت بيت خالتي في البتاويين ومكثت عندهم يومين بسبب منع التجول وسط مخاوف الأهل على مصيري ومصير شقيقتي وأطفالها. وجاء المساء وهو يحمل ثقل أخبار المآسي التي مرت وشاهدت كغيري من سكنة بغداد المشاهد المؤلمة لإعدام الزعيم ورفاقه الأبرار من على شاشة التلفزيون.

ورغم انحسار المقاومة المسلحة للانقلاب وخاصة في عگد الأكراد والكاظمية والشواكه، وهروب أو اعتقال المشاركين إلا أن معظم جماهير بغداد ظلت مناوئة للنظام القمعي وحاقدة عليه وعلى رموزه خاصة وقد غصت السجون والمعتقلات ودور السينما والنوادي الرياضية بالمعتقلين حيث تم تعذيب وقتل المئات من كوادر الشيوعيين والديمقراطيين من الرجال والنساء على أيدي الحرس القومي وجلاوزة من المجرمين الساديين. لقد كلفت أخطاء عبد الكريم قاسم ومعه القوى السياسية مع الأسف نهاية حقبة من تأريخ العراق المشرقة.. مرحلة الاستقلال السياسي والبناء والتقدم والتطور الحضاري وسن قوانين متعددة لصالح العمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود وقانون لحماية الثروة الوطنية من احتكار الشركات النفطية إلى جانب قوانين تحمي المرأة والطفولة.  

عرض مقالات: