منذ 17 تشرين الثاني 2020 تتوالى التظاهرات الأسبوعية، ويخرج مئات الآلاف إلى الشوارع في فرنسا احتجاجا ضد عنف الشرطة وضد "قانون الأمن الشامل" الجديد الذي اقترحته الحكومة.  وتسمى التظاهرات بـ „مسيرات الحرية":

 في البداية، دعت النقابات والجمعيات الديمقراطية واليسارية إلى التظاهرات، ثم تم تشكيل لجنة تنسيق "أوقفوا قانون الأمن الشامل العالمي".

ويضم التحالف الاستثنائي أكثر من 70 منظمة ونقابة وجمعيات الصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان ومبادرات المواطنين. ومن بين هذه النقابات أكبر نقابة للصحفيين الفرنسيين، النقابة الوطنية للصحفيين والعديد من الجمعيات الصحفية الأخرى، بما في ذلك "الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان"، التي تنشط منذ عام 1898، واتحاد نقابات العمال اليساري القريب من الحزب الشيوعي الفرنسي سي جي تي، واتحاد نقابات „التضامن"، وحركة "السترات الصفر"، ونقابة القضاة والمدعين العامين ونقابة المحامين. وتشارك أيضا جمعية الأفلام الوثائقية، وجمعية صانعي الأفلام، والمنظمة الطلابية الوطنية، والمنظمات الطلابية الأخرى، والحركة المضادة ل لعولمة (اتاك) ومنظمة العفو الدولية فرع فرنسا.

وشارك في التظاهرة الأولى، امام مبنى البرلمان الفرنسي، عشرات الآلاف تزامنا مع القراءة الأولى لمشروع القانون في الجمعية الوطنية. وكانت هناك أيضا تظاهرات في مدن كبرى مثل رين وليون.

 وفي 28 تشرين الثاني بلغت التعبئة ذروتها، ووفق معطيات الجهات المنظمة، شارك أكثر من نصف مليون في التظاهرات، التي عمت أكثر من 100 مدينة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك 200 ألف متظاهر في باريس. وحاولت الشرطة ووزارة الداخلية، كالعادة، تقليص عديد المشاركين المعلن الى اقل من 130 ألف متظاهر فقط. نصف مليون مشارك، كان هذا أقصى ما توقعًه المنظمون. حدث هذا كله في منتصف الموجة الثانية من وباء كورونا، الذي ضرب أيضًا فرنسا بأعداد عالية متصاعدة من الإصابات. وتبعًا لذلك، كانت التغطية الإعلامية وما نتج عنها من اهتمام للرأي العام كبيرين.

في باريس، حاول رئيس شرطتها ديدييه لالمان، المعروف بكونه يمينيا متشددا، وعلى هذا الاساس تم استقدامه من بوردو قبل عام ونصف إلى العاصمة، التي يحكمها تحالف يساري بقيادة الاشتراكية آن هيدالغو، حظر التظاهر في ساحة الجمهورية بقرار تنفيذي، والسماح بالتجمعات فقط. لكن قرارا   أصدرته محكمة باريس الإدارية رفع الحظر. لقد كانت التظاهرة طيلة اليوم سلمية إلى حد كبير، حيث وقعت مساءا بعض الاحتكاكات بين المتظاهرين والقوات الأمنية. وتضررت بعض المحلات العامة. واستخدمت الشرطة خراطيم المياه لإجبار   المتظاهرين على مغادرة موقع التجمع الختامي بسرعة أكبر.

في الخامس من كانون الأول، استمرت "مسيرات الحرية" الى جانبً فعاليات يوم العمل السنوي لاتحاد نقابات سي جي تي وبعض النقابات الأخرى ضد البطالة ومن أجل المزيد من الحقوق للعاطلين عن العمل والعمال من ذوي الأجور المنخفضة غير المستقرة.  ولم تصل تظاهرات هذا اليوم الى مستوى سابقتها في عطلة نهاية الأسبوع، حيث شارك فيها أكثر من 100 ألف في جميع أنحاء فرنسا. وهذه المرة، تم منع تظاهرة باريس من خلال عملية ضخمة للشرطة بعد أول 500 متر. حاولت قوات الطوارئ منع تشكيل المزيد مما يسمى بـ "الكتلة السوداء"، اي المتشددين. وقد تكرر حصار الشرطة عدة مرات خلال التظاهرة، واقترنت في كل مرة بصدامات بين المتظاهرين والشرطة. وبعد عدة ساعات، لم تتمكن تظاهرة باريس من الوصول الى هدفها النهائي.

وجرت محاولة عرقلة تظاهرات 12 كانون الأول، وخاصة في باريس، من قبل عدد كبير من شرطة مكافحة الشغب والدرك الذين "رافقوا" التظاهرة عن كثب. وقاموا باختراق المسيرة عدة مرات، بدعوى منع "أعمال الشغب" المزعومة، التي يمارسها "المشاغبون".  واخترقت الشرطة التظاهرة مستخدمة العصي، وأدوات عنف أخرى، وجرى اعتقال جمع من المتظاهرين، بينهم عدد من الصحفيين، ولكن بالنتيجة وصلت المسيرة هذه المرة الى هدفها المراد.

 جدل مثير يشأن عنف الشرطة

"ان قانون الأمن الشامل" هو في الأساس قانون للشرطة. وبالإشارة إلى "مكافحة الإرهاب"، ومنع وقوع هجمات إرهابية جديدة، والحفاظ على "الأمن والنظام" العام، يهدف الى توسيع صلاحيات الشرطة والدرك بما يتجاوز ما كان مسموحاً به سابقاً. ويتعلق الأمر، من بين أمور أخرى، برفع القيود القانونية على حدود العمليات الكيفية والتعسفية للـ "التحقق من الهوية" في الشوارع على أساس الشك في الملامح ("التحقق من الوجه")، حتى بدون أسباب موجبة. والسماح للشرطة باستخدام المعدات العامة للشرطة مثل "كاميرات المشاة"، وطائرات المراقبة بدون طيار المجهزة بكاميرات الخاصة بالتظاهرات.

 تقول المادة 24 من مشروع القانون: " يعاقب بالسجن لمدة سنة واحدة وغرامة قدرها 45000 يورو كل من نشر صورة أو أي عنصر آخر من عناصر التعرف على منتسب في الشرطة الوطنية أو أحد أفراد الدرك الوطني خلال تنفيذ عملية أمنية، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة بهدف انتهاك سلامة المنتسب الجسدية أو النفسية". باعتبار ان ذلك يمثل عامل ضغط على القوى الأمنية ويضعف قدراتها اثناء تأدية مهامها.

لقد قوبل مشروع القانون، الذي بادر إليه وزير الداخلية اليميني دارمانين، برفض أكبر لأنه تزامن مع عدة عمليات وحشية للشرطة الفرنسية، كانت لا تزال متداولة في وسائل الإعلام وفي أذهان الجمهور.

في 21 تشرين الثاني، قامت دورية شرطة مؤلفة من أربعة رجال يقودهم ضابط بضرب المنتج الموسيقي الأسود ميشيل زيكلر عند مدخل مشغله في الدائرة 17 من باريس بسلسلة من اللكمات والركلات وهو ملقى على الارض لعدة دقائق.

وكان أحد رجال الشرطة قد القى قنبلة غاز مسيل للدموع داخل الاستوديو الذي كان يتواجد فيه تسعة أشخاص آخرين. ويقال إن الشرطة قد اهانت الضحية عدة مرات واصفة إياه بـ "زنجي قذر". وتبرر الشرطة فعلتها بعدم التزام المنتج الموسيقي لفترة وجيزة عند نزوله إلى الشارع بالضوابط المفروضة لمواجهة وباء كورونا، وعدم ارتدائه كمامة. بالإضافة الى رفضه التحقق من هويته الشخصية. وبفضل كاميرات المراقبة فقط تم دحض تبرير رجال الشرطة، بان الضحية قام بمهاجمتهم. ونتيجة لذلك تم إيقاف منتسبي الشرطة المتورطين عن العمل وإخضاعهم لتحقيق انضباطي.

بالتوازي مع هذا الحادث، الذي تداوله الإعلام على نطاق واسع، جاء الإخلاء الوحشي للغاية لمخيم للاجئين في ساحة الجمهورية لقرابة 500 لاجئ في 23 تشرين الثاني، حيث أرادوا الاستقرار هناك بعد أن طردتهم الشرطة قبل أسبوع سابق مكان  إقامة „غير قانوني" أ في مدينة سانت دينيس المجاورة. إن نقل صور عملية الاخلاء على شاشة التلفزيون والتقرير المكثف نسبيًا عنها في وسائل الإعلام جعل موضوع عنف الشرطة مادة لنقاش واسع النطاق في الرأي العام.

 تدخل الرئيس

 يبدو أن وزير الداخلية دارمانين، الذي كان مساعداً مخلصاً للرئيس اليميني المحافظ الاسبق ساركوزي، أراد بواسطة "قانون الأمن الشامل" شن نوع من الهجوم المضاد. وفي ضوء الجدل المتزايد، الذي دار بشأن ممارسات الشرطة الوحشية، يمكن للمرء أن يستخلص من تقارير وسائل الإعلام الفرنسية أن هذا الوزير يتحرك أيديولوجياً "في المنطقة الرمادية بين اليمين والفاشية الجديدة.  وانه أراد من وراء "قانون الأمن" كسب "نقابات الشرطة" اليمينية وغيرها من الجماعات اليمينية المتطرفة من السكان، الذين يشكلون في العادة جزءا من جمهور وناخبي "التجمع القومي" الفاشي بقيادة ماري لوبان.

لم يكن الوزير يتوقع رد الفعل القوي ضد مشروع القانون. وبعد التظاهرات الحاشدة في 28 تشرين الثاني، وبالنظر إلى الاتساع الاستثنائي للحركة الاحتجاجية، شعر الرئيس ماكرون أنه مضطر للتدخل. ويبدو أنه كان يخشى ظهور نسخة جديدة من حركة "السترات الصفر" التي عمت جميع انحاء البلاد في تشرين الثاني 2018. لذلك دعا رئيس الوزراء كاستكس ووزير الداخلية دارمانين، وقادة احزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة، إلى القصر الرئاسي لمناقشة إجراءات لتهدئة الاضطرابات العامة التي كانت تتصاعد.

وفي 30 تشرين الثاني أعلن عن اجراء تعديلات على مسودة "قانون الأمن الشامل"، وخصوصا ن المادة 24 المثيرة للجدل.

وفي 4 كانون الأول أجاب ماكرون على أسئلة الصحفيين المحرجة في مقابلة مطولة على بوابة الإنترنت "بروت"، واسعة الانتشار بين الشباب. واستجاب لضغط الصحفيين، مستخدما مصطلح "عنف الشرطة"، الذي كان في العادة يتجنبه دائمًا، على الرغم من تعبيره عن مشكلة حقيقية. وهذا ما اثار غضب "نقابات الشرطة" اليمينية على الرئيس.

بالإضافة الى ذلك، تم انشاء خط ساخن للشكاوى في حال تعرض المواطنين الى معاملة غير قانونية من قبل الشرطة، وأجهزة الدولة الأخرى. ومن المقرر عقد مؤتمر واسع لوزارة الداخلية في كانون الثاني الجاري، لمناقشة إعادة الهيكلة التي طال انتظارها لجهاز الشرطة وغيرها من قضايا "الأمن الداخلي".  وسيحضر المؤتمر بالإضافة إلى ممثلي الشرطة والشخصيات السياسية المعنية، ممثلي منظمات "المجتمع المدني" المهتمة بالملف.

ومن الضروري الإشارة الى وجود شكوك متزايدة، بشأن"قانون الأمن"، بين نواب التحالف الحاكم، الذين ينحدر الكثير منهم من يمين الحزب الاشتراكي السابق، ارتباطا بصعوبة تمريره بالضد من المزاج المعارض المتصاعد بين السكان. وخلال التصويت على مشروع القانون في الجمعية الوطنية، صوّت 15 من أعضاء المعسكر الحكومي ضده، بينما أعرب 52 آخرون عن امتناعهم عن التصويت (صوت لصالح المشروع 388 نائبا). لكن ماكرون لم يستطع ولم يرغب في تحمل وجود 65 نائبا معترضا في معسكره، وهو امر قابل للتوسع وبسرعة، ارتباطا بالانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ستجري في ربيع عام 2022. يذكر ان ماكرون قد حقق انتصاره الانتخابي الأول والاستثنائي عام 2017، استنادا الى حركة سياسية هجينة، ما زالت تعاني من عدم الاستقرار النسبي، وتقف على حافة أزمة سياسية.

ويرى مراقبون ان ما قام به الرئيس ليس سوى مناورة تكتيكية، ويشيرون الى إمكانية ادخال مضمون المادة 24 من "قانون الأمن" في إطار قوانين أخرى قيد الإعداد مثل قانون "ضد الانفصالية"، الذي منح اسم جديد "قانون تعزيز المبادئ الجمهورية" ، لاحتواء جزء من معارضته المحتملة، والقانون يتعلق بتشديد العلمانية الفرنسية، ويأتي في سياق الصراع مع الإسلامويين، ولكنه يتجاوز ذلك الى التضيق على حرية المعتقدات، ولا يخلو من ملامح عنصرية. اذ يمكن للشرطة توظيف محتوى المادة 25 من "قانون تعزيز المبادئ الجمهورية"، التي لا تختلف عن صيغة المادة 24 الأولى في "قانون الأمن" ن لنفس الأغراض الاستبدادية، ومن هنا يرفض المعارضون التعديلات الشكلية، ويطالبون بإلغاء مشروعي القانونين.

  لومانتيه الشيوعية: الاستبداد يحول دولة القانون الى دولة بوليسية

 صحيفة "لومانيتيه" الشيوعية اكدت في مقالاتها على العلاقة الوثيقة بين مسائل الديمقراطية و "الأمن الداخلي" ومكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان والصراعات الاجتماعية والسياسية الراهنة. وفي مقال لها في 12.12.2018 اشارت الجريدة الى انه بعد ممارسة "الليبرالية المتطرفة" في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وهدم المكتسبات الاجتماعية السابقة، يسحب معسكر ماكرون الآن اهتمام الجمهور الى القضايا الأمنية، مستفيدا من الهدوء المرتبط بحالة الطوارئ الصحية. ان بناء سلطة الدولة الاستبدادية بالضد من حريات المعلومات والتعبير والتظاهر. وان استراتيجية الرئيس، التي تهدف إلى فرض حصر المنافسة بين ماكرون ولوبان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية، بالنسبة له، ولكن قبل كل شيء بالنسبة للديمقراطية: إن السماح لهذا الهجوم على حرياتنا وحقوقنا يعني تثبيت ما يحلم به اليمين الفاشي الجديد: دولة استبدادية تصبح فيها دولة القانون دولة بوليسية يتم فيها تجريم تعبئة المجتمع وبعض مطالب السكان

ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق فقط بالديمقراطية والحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة. إن تطوير وتعزيز سلطة الدولة الاستبدادية سيكون له بالطبع أيضًا عواقب على الصراعات الاجتماعية الحالية والمستقبلية. على سبيل المثال حول "مشاريع الإصلاح" الحكومية التي تم تأجيلها مؤقتًا بسبب وباء كورونا، مثل "إصلاح التأمين ضد البطالة" و "إصلاح المعاشات التقاعدية" ذات الطبيعة الرجعي المقصودة.

وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيستمر الخلاف حول "قانون الأمن الشامل" و "قانون تعزيز المبادئ الجمهورية" وكذلك إصلاحات البطالة والمعاشات التقاعدية بعد أيام العطل في كانون الثاني الحالي وشباط المقبل عندما تطرح مشاريع القوانين في البرلمان لإقرارها، فمن المؤكد ان قوى لجنة التنسيق التي قادت الاحتجاجات الأخيرة، لن تكتفي بموقف المتفرج، بل ستعمل على التعبئة لاحتجاجات جديدة.

 *- نشرت في العدد 138 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: