ترجمة رشيد غويلب

أنطونيو «طوني» نيغري

أنطونيو نيغري، من مواليد 1933، باحث ماركسي واستاذ علوم سياسية إيطالي، وشخصية سياسية. اتهم بأنه العقل المفكر لمنظمة “الألوية الحمراء” اليسارية المتطرفة. له العديد من الكتب والبحوث.

مايكل هاردت

مايكل هاردت، ناقد أدبي وصحفي وبروفيسور وفيلسوف وكاتب أمريكي، ولد في 1960 في بيثيسدا في الولايات المتحدة الأمريكية.

الحركات الاجتماعية ليست تقدمية تلقائيا. لقد كانت الحركات السياسية اليمينية، من النازيين إلى المتعصبين الدينيين، وراء العديد من التطورات السياسية الاكثر تدميراً وفظاعة في القرن العشرين. وكذلك في الوقت الراهن، فقد بدأت حركات اليمين السياسي في الصعود مرة أخرى، بالتنسيق مع الحكومات اليمينية.

إن تفكير وعمل الحركات السياسية اليمينية في العادة ليس محافظًا، بل رجعي: فهم لا يسعون إلى الحفاظ على ما هو قائم فعلا أو حمايته، بل يريدون استعادة نظام سابق، او سلطة قديمة. ان أولئك الذين فقدوا النفوذ المجتمعي والهيبة في الماضي القريب - مثل البيض في الولايات المتحدة، والمنتمين من البيض للطبقة العاملة في أوروبا أو الأوليغارشية في أمريكا اللاتينية، هم الذين يشكلون نواة التعبئة الجماهيرية اليمينية. وغالبا ما يصبح “العرق” أو الدين أو الهوية القومية عناصر مهمة خالقة للوحدة. ومع ذلك، وفي كثير من الأحيان، يكون ما يجب استعادته ليس حتى نظاما قديما قد اختفى، بل اختراع لماض وهمي خيالي. (قارن الطبيعة الرجعية للتفكير اليميني Robin ،2011) - أستاذ علوم سياسية وصحفي امريكي ـ المترجم.

والحركات اليمينية رجعية من ناحية أخرى أيضا، من خلال تفاعلها مع السياسة اليسارية. والرجعي بهذا المعنى لا يهدف فقط إلى إحباط مناهج التحرر المجتمعي، بل يبدو أيضا في محاولات تبني أشكال الاحتجاج والخطاب وحتى أهداف معينة، مهما كانت انتقائية ومشوهة. وتحوي الحركات السياسية اليمينية لحظات من أسلوب القيادة، والهياكل التنظيمية، وكذلك الذخيرة الاحتجاجية للحركات التقدمية في العقود الماضية. ويشير المثال إلى فرضيتنا العامة بأن المقاومة تسبق السلطة دائما. فالحركات الثورية والنضالات التحريرية هي مصدر الابتكار السياسي، وبالمقابل فإن الحركات السياسية اليمينية قادرة على محاكاة بعض هذه الابتكارات فقط، وغالبا ما يكون ذلك كافياً ومصحوبا بعواقب وخيمة.

استعادة “وحدة الشعب”

على مدار القرن العشرين، ميّزت الحركات السياسية اليمينية سمتان رئيسيتان هما: السلطة والهوية، من ناحية المبالغة المفرطة في القيادة ومن ناحية أخرى فكرة الاضطرار إلى الدفاع عن “وحدة الشعب” أو استعادتها. وفي حين أن الحماس لمبدأ السلطة قد تضاءل قليلاً أو تغير في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فإن الشعور بأن “الشعب” مهدد من جميع الجوانب ويجب الدفاع عنه لا يزال يشكل النواة الساخنة للحركات اليمينية. فقراءة كارل شميت (رجل قانون وفكر الماني متعدد الاهتمامات، ناصر النازية، وعرف بعدائه للحياة البرلمانية - المترجم) لدستور الحركة الاشتراكية القومية (النازية) هي بلا شك حالة متطرفة، لكن عرضه الواضح يوفر، في الوقت نفسه، معيارا لمراقبة الحركات اليمينية الحالية(1). في كتابه “الدولة والحركة والشعب”، يحتفل شميت “بالدستور المؤقت [...] للدولة الاشتراكية القومية” الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1933، والذي أعطى فيه، وبشكل غير مفاجئ، أولوية قصوى لمبدأ القيادة (2) (Schmitt, 1933:5). “ان قوة دولة الاشتراكية القومية تكمن في هيمنة وضغط فكرة القيادة عليها من الأعلى الى الأسفل، وفي كل ذرة من وجودها” (Schmitt, op, cit, p.33).

إن القيادة في الحركات السياسية اليمينية اليوم، تحمل القليل من التشابه مع تلك التي يفترضها شميت. حتى القادة المعروفين لأحزاب اليمين المتطرف الذين يخوضون الانتخابات في أوروبا، سواء مارين لوبان من الجبهة القومية في فرنسا، أو نايغل فاراج من حزب استقلال المملكة المتحدة (الآن زعيم حزب بريكست – المترجم)، أو جيمي اوكسون زعيم حزب (ديمقراطيو السويد)، أو نيكولاوس ميكالولياكوس زعيم حزب (الفجر الذهبي اليوناني)، هم في وظيفتهم، أقرب إلى المبادئ الديمقراطية الليبرالية التي يمقتها شميت، منهم إلى سلطة غير مقيدة. وحتى دونالد ترامب، وبغض النظر عن مزاجه وميوله الاستبدادية، لديه القليل من نمط القيادة التي أعجب بها شميت. وفي حزب “حفل الشاي”، يتجلى الافتقار إلى القادة الكاريزما بشكل أكثر وضوحا. يُعتبر بعض المرشحين لدور قيادي في “حفل الشاي” مثل سارة بالين، ومشاهير الإعلام مثل غلين بيك أو الممولين المعروفين مثل الأخوين تشارلز وديفيد كوخ، لكن هؤلاء الأشخاص ليسوا مهمين كسلطة مقارنة بسلطة الحركة ذاتها. وفي الميليشيات مثل “داعش” أو القاعدة في العراق، تكون السلطات - مثل أبو بكر البغدادي، الذي يصف نفسه بالخليفة - أكثر بروزا. وتؤكد الجماعات الاستبدادية ذات الكاريزمية الدينية وجودها في العديد من الحركات اليمينية السياسية والدينية. ان هياكل القيادة التي تعتمد على المساجد والمعابد والكنائس كأماكن يمكن من خلالها إيصال رسالتهم السياسية. لكن في الواقع، مثل هؤلاء القادة هم أيضا ذوو أهمية ثانوية ويمكن استبدالهم في النهاية.

وعلى عكس القيادة، تستمر الهوية في لعب دور مركزي. وهي السمة الأكثر ديمومة للحركات السياسية اليمينية، وهو ما يعبّر عنه كارل شميت بواجب حفظ أو استعادة هوية الشعب، وهي هوية مهددة باستمرار من قبل قوى خارجية(3). يكمن منطق الحركات اليمينية في صراع الثقافات؛ حيث يعرّفون الثقافة أولا على اساس الدين أو “العرق” (أو كليهما). وبناءً عليه، فإن أرقى مهمة سياسية هي الدفاع عن النوع ضد “الغرباء”. يعطي شميت سمات يهودية نمطية “غريبة”، لكنها لا تتطلب قدرا كبيرا من الخيال لنقل الصورة البغيضة، فهم النيجيريون في جنوب إفريقيا، والمسلمون في أوروبا أو الهند، وفي الولايات المتحدة الأمريكية الملونون، والبوليفيون في الأرجنتين. وفي السعودية الشيعة، أو عدم الاعتراف في أي مكان آخر في العالم بـ”غير المواطنين”. النقطة الحاسمة هنا هي أن “وحدة الشعب’’ تُعتبر دائما سمة ماضي (حقيقي أو متصور، أحيانًا مفهوما بدائيا) ونظامه الاجتماعي، الذي تشعر الحركات السياسية اليمينة بانها مدعوة للدفاع عنه، او الحفاظ عليه، او إنقاذه من “الغرباء ‘’. لذلك فإن هذه الحركات شعبوية بالمعنى الضيق، لأن سياساتها تركز على هوية الشعب وإقصاء الآخرين.

لقد صنفنا “حفلة الشاي” على أنها حركة تميل إلى أن تكون “بدون قيادة”. ولكن بناءً على رد فعلهم تجاه الرئيس باراك أوباما، ظهر جانب استثنائي آخر من حجة شميت: القادة الشرعيون هم فقط أولئك الذين ينتمون إلى “الشعب”، وبالتالي يمكنهم الدفاع عن هويتهم وسيادتهم. وفقا لكريستوفر باركر ومات باريتو (Parker, Christopher/Barreto, Matt, 2013:6) (أساتذة علوم سياسية في الجامعات الأمريكية - المترجم)، يجب أن يُنظر إلى مؤيدي حفل الشاي على أنهم “تقليديون” أكثر من اعتبارهم “محافظين رجعيين” لأنهم يسعون إلى تجاوز الليبرتارية الاقتصادية و”إعادة عقارب الساعة إلى الوراء” لاستعادة الهوية الوطنية الخيالية - البيضاء والبروتستانتية والعلاقات الجنسية التقليدية. وبناءً على ذلك، يشيطن أتباع “حفل الشاي” كل من يمثل في نظرهم تهديدا لـ “وحدة الشعب” - ويشمل ذلك الفقراء والمهاجرين ومتلقي الرعاية الاجتماعية والمسلمين. ولقد رأوا في الرئيس الأمريكي أوباما ممثلهم (وحتى تجسيدا لهم). وحتى لو لم تقدم الحركات السياسية اليمينية اليوم عنصريها بشكل علني، يكفي رفع الغطاء قليلاً ليظهر شاغلها الأساسي: الدفاع عن شعب وهمي وهويته العرقية أو القومية أو الدينية ضد “الغرباء”.

الشعبوية والملكية العنصرية

غالبا تجعل الحركات الشعبوية اليمينية، خاصة الموجودة منها في البلدان المهيمنة في شمال العالم التحليل في وضع محيّر، لأنها تعمل بشكل متناقض. في الصراع السياسي، تتبنى خطابا مضادا للنخب، بينما تتمسك في الوقت نفسه بالهرمية المجتمعية. ويكمن طريق حل هذا الالتباس في تتبع فكرة الملكية لأنها أساسية بالنسبة لليمين الشعبوي. وهي فكرة تتخللها تماما أفكار “الهوية العرقية”. وفي الواقع، لا تقوم الشعبوية على حب الهوية فقط (وهو شكل رهيب ومدمر من الحب السياسي، كما نعتقد)، ولكن وراء الهوية تتربص الملكية. والسيادة والملكية العرقية، علامتان فارقتان موجودتان في جسد الشعبوية اليمينية.

وكما ذكرنا سابقا، تعتبر الحركات السياسية اليمينية رجعية بمعنى مزدوج، من حيث سعيها لاستعادة النظام الاجتماعي الذي ينتمي إلى الماضي. وأنها (في الغالب بشكل مشوه) تعود الى خزين الاحتجاج، والمفردات، وأحيانا الأهداف الواضحة، لحركات المقاومة اليسارية وحركات التحرير. يصف كوري روبن في كتابه “اليمين الشعبوي” (Robin, 2011:55) الاستراتيجية: “يجعل مهمته مناشدة الجماهير دون التشكيك فعليا في سلطة النخب، يوظف طاقة الجماهير لتعزيز او لاستعادة سلطة النخب”. وبالمناسبة هذا ليس اختراعا جديدا لليمين الأصولي المسيحي أو حركة حزب الشاي، بل أكثر من هذا، ومنذ البداية الشعبوية الرجعية هي الخيط المشترك من خلال الخطابات المحافظة منذ البداية، تمر الشعبوية كخيط مشترك خلال الخطابات المحافظة.

من ناحية ان الإهمال والاختزال المزعوم من قبل النخب البرجوازية، هو دافع للحركات اليمينية الشعبوية. وفي الواقع من السهل العثور على ادلة لتجاهل وتوظيف النخب لمصالح الفقراء والطبقات العاملة. لا نريد أن ننكر جدية وبصيرة العديد من الاحتجاجات اليمينية ضد النخب في القطاع المالي، ضد المؤسسات العالمية والحكومات القومية. (في الواقع، يجب أن تستعيد الحركات اليسارية الذكية بعض العناصر الشعبوية). غالبا ما يعبر الانعطاف الشعبوي ضد النخب عن غضب ضد سلطة الملكية، والتي تعرف على انها ملكية متنقلة وبلا هوية ولا جسد. النقد الشعبوي موجه ضد سلطة النقود، والسوق العالمية والبنوك المركزية الوطنية، التي تتهم بالفشل في دور “المراقبة النقدية”. ومن ناحية أخرى، تؤكد الحركات الشعبوية في كل الأحوال، مساعيها لتأمين ملكية الشعب، التي عادة ما تكون عرقية أو دينية أو ثقافية، وبالتحديد كعقارات وممتلكات مادية أخرى، وفي نهاية المطاف بجميع أشكالها المرتبطة بالهوية. وبناءً على ذلك، فإن الأرض هي موضوع متكرر، وكذلك الاستقرار النقدي (يقاس، مثلا بسعر الذهب).

يتم ربط الهوية والملكية ببعضهما البعض، بشكل أساسي بطريقتين:

أولاً: ينبغي أن تمنح الهوية حقًا متميزًا في الملكية والوصول إليها. أحد الادعاءات الأساسية للحركات الشعبوية هو استعادة السلطة المزعومة والمفقودة (مهما كانت صغيرة)، والهيبة الاجتماعية الضائعة. يستند هذا الادعاء إلى الإشارة الصريحة أو الضمنية إلى الهوية العرقية، سواء في الحركات الفاشية العلنية مثل “الفجر الذهبي” في اليونان أو “كاسا باوند” في إيطاليا، والتي تهاجم المهاجرين بشكل مباشر ووحشي، وكذلك عند نظرائهم الأكثر “احتراما” مثل “الجبهة القومية” في فرنسا أو “ديمقراطيو السويد”، الخطاب العنصري المناهض للمهاجرين، مصحوبا بالوعد باستعادة الوضع الاجتماعي المفترض المفقود لأتباعهم، ولا سيما أولوية الطبقة العاملة البيضاء المستندة على “العرق”، و”أجور البيض”، استعارةً لصياغات وليام إدوارد بورغاردت دو بويز(Du Bois, W. E. B., 1953)، (عالم اجتماع وناشط سياسي أميركي من أصول افريقية – المترجم)، وديفيد روديغر(1991 Roediger,)، (أستاذ معروف للدراسات الأمريكية والتاريخ بجامعة كانساس - المترجم).

ثانيا: الهوية نفسها هي شكل من أشكال الملكية، حيث يرتبط الاقتصاد والثقافة و”العرق” ارتباطًا يستحيل فكه. وباستخدام لغة نظرية الملكية، الهوية تعني حيازة ما هو حصري للفرد. ولا ينبغي أن ننزعج من حقيقة أن الهوية هي في الجوهر غير مادية، خاصة وأن الملكية موجودة في الشكل المادي وغير المادي. يضمن النظام القانوني “لأصحاب البشرة البيضاء”، كما تؤكد شيريل هاريس (Harris، Cheryl 1993، 1758) (شيريل آي هاريس هي ناقدة لنظرية العرق وأستاذة الحقوق والحريات المدنية بجامعة كاليفورنيا – المترجم)، الامتيازات والمزايا مثل مالكي الأنواع الأخرى. “كان استبعاد المرؤوسين” الآخرين “ولا يزال جانبًا أساسيًا من شرعنة (إضفاء الطابع القانوني) بياض البشرة كملكية وهي في الواقع جزء من الحماية التي تمنحها المحكمة [العليا] للبيض وتوقعهم المبرر بمعاملة تفضيلية مستمرة”. البياض ملكية تسمح باستبعاد الآخرين وتعد بسيادتك. والواقع أن الملكية والسيادة متشابكتان بشكل وثيق، لا سيما في وظيفة الحيازة والإقصاء. يوفر هذا المفهوم للملكية العرقية إطارا مفيدا لفهم ما يدفع قطاعات من الفقراء البيض والطبقة العاملة البيضاء لدعم المجموعات السياسية اليمينية المتطرفة حتى عندما تتعارض مع مصالحهم الاقتصادية. إن الحاجة المتصورة للدفاع عن الهوية والامتيازات - واستعادة الملكية العنصرية المفترضة المفقودة - تدفع أحيانًا جميع الأهداف الأخرى إلى الخلف. وهكذا ترتبط الهوية والملكية في الشعبوية اليمينية بطريقتين: الدفاع عن الهوية والامتيازات - والهوية العنصرية المفترضة بمثابة امتياز ووسيلة للوصول إلى الملكية، وفي الوقت نفسه، فإن الهوية نفسها هي شكل من أشكال الملكية التي تعد بالحفاظ على أو استعادة التسلسلات الهرمية للنظام الاجتماعي(4).

عنف الهويات الدينية 

نقطة بداية لفهم العديد من الحركات الدينية الحالية، تتمثل في طرح سؤال حول كيفية ارتباط الدفاع عن الهوية الدينية بالاستياء من القوى الأجنبية. من الضروري من ناحية فهم الأسباب الحقيقية للغضب بالإضافة إلى التهيئة الرجعية في تعبئة مثل هذه الحركات، ومن ناحية أخرى التفكير بعيدا، عن ذلك، في الطابع المدمر للهويات الدينية.

بالطبع، ليست كل الحركات الدينية رجعية، وتاريخياً هناك مجموعة واسعة من التوجهات السياسية المختلفة. في حقبة الحملات الصليبية للكنيسة الرومانية ضد الإسلام، لم يقتصر الأمر على عسكرة المعتقد، بل تطورت أيضًا ممارسة سلمية وخيرية مهمة. للجماعات، مثل الرهبنة الفرنسيسكانية. يمكن رؤية شيء مشابه في تاريخ الإسلام. وفي اليهودية أيضا، ظهرت ممارسات نبوية ومسيحية (نسبة الى سلوك عيسى المسيح - المترجم)، وثورية جنبا إلى جنب مع حركات سياسية سلفية، لإعادة بناء معبد الشعب المختار. ويمكن العثور أيضا على كل هذا في أوقات لاحقة، على سبيل المثال في مرحلة التراكم الأولي لرأس المال، عندما أصبحت الحركات الدينية عاملاً مهما في تطور الرأسمالية، بينما كانت هناك في نفس الوقت قوى أساسية للمقاومة ضد رأس المال. إن السمتين الرئيسيتين للحركات الدينية اليمينية اليوم، هما محاولة بناء هوية، والدفاع عن نقائها، فضلاً عن المرارة من انتشار الظلم الذي تلقى مسؤوليته سياسيا على قوى خارج المجتمع المعين. التوجه نحو هوية نقية وثابتة هو السبب في أن الحركات الدينية تميل غالبا إلى عمليات إغلاق العقيدة، لتعبر عن نفسها بواسطتها لاهوتياً وسياسياً، ولماذا تكون هذه الحركات في الوقت نفسه منفتحة ومتوافقة مع الحركات اليمينية الأخرى التي تؤسس الهوية ثقافيا أو عرقيا.

تقدم التطورات العسكرية في سوريا والعراق في عامي 2014 و2015، والتي كانت فصائل داعش والقاعدة مسؤولة عنها، تقدم مثالا متطرفا على مزيج متفجر من المقاومة والهيمنة باسم الدين. تتداخل الطائفية الدينية هنا مع الاستياء الشعبي من الحقائق، بما في ذلك التقسيم الإقليمي للشرق الأوسط في القرن العشرين، كما حددته القوى الاستعمارية من جانب واحد (وبتأثيرات طويلة المدى)، فضلاً عن التدخلات الأجنبية في بداية القرن الحادي والعشرين، وخاصة الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب، بما في ذلك غزو واحتلال أفغانستان والعراق. هذا المزيج من التطرف الديني والمشاعر المناهضة للاستعمار، يجعل التصنيف السياسي لهذه القوى على مقياس اليسار واليمين بلا معنى - ومع ذلك هم أنفسهم يعارضون بقوة التيارات الاشتراكية أو العلمانية المؤثرة، مثل الناصرية، التي تشكلت في المنطقة في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين.

من اللحظات المذهلة للعديد من الحركات الدينية الرجعية اليوم، وخاصة الاسلاموية، المبالغة في الاستشهاد باعتباره الشكل المتطرف الذي تجتمع فيه المرارة والهوية والتعصب. وتجدر الإشارة إلى وجود نموذجين لتقاليد استشهادية مختلفة في الأصل، وكلاهما موجود في جميع الأديان الرئيسية. في إحداها، يصمم الشهداء على الدفاع عن إيمانهم والدفاع عن العدالة، حتى الموت. رئيس الأساقفة أوسكار روميرو، على سبيل المثال، الذي قُتل على يد فرق الموت اليمينية خلال قداس في سان سلفادور، تلقى تهديدات بالقتل وعرف أن دفاعه السياسي العام للفقراء يعرض حياته للخطر. وفي التقليد الثاني للاستشهاد السائد اليوم، يهاجم “الشهداء” أعداءهم ويدمرونهم وأنفسهم. وفي مثل هذا الشكل المتطرف من الإرهاب، لم يعد الاستشهاد شهادة إيمان، بل طريقة دينية للتعبير عن الهوية السياسية. وهكذا ترتبط الحركات الدينية ومشاريع سياسية قاتلة: المقدسون يصبحون أولئك الذين يكرهون ويدمرون.

وأخيرا: إذا كانت الحركات اليمينية غالبًا ما تستند إلى حركات التحرر في هياكلها وأنماط عملها، فيمكن تعلم الدروس منها. وارتباطا بالصورة في هذه المرآة السوداء، يجب على حركات التحرر أن تفهم، أولاً، أنها يجب أن تنتهج سياسة مضادة ومناقضة. ويجب ألا تقع الحركات التحررية بأي حال من الأحوال في دور دعم القوى الحاكمة أو الهرمية الاجتماعية التقليدية. ومهمتها هي أن تكون فاعلاً مستقلاً يعرقل النظام السائد، ويسعى لخوض الصراعات. ثانيًا، يجب أن تكون الحركات ديمقراطية، وأن تحافظ على موقف نقدي تجاه هياكل الحكم المركزية دون مقاومة الحاجة إلى منظمات ومؤسسات. ثالثًا، يجب أن تكون حركات وليس هوية. الهويات القائمة على “العرق” أو القومية أو الدين أو الجنس أو أي جانب آخر من جوانب المجتمع تنهي تعددية الحركات. وأكثر من هذا، يجب أن تكون هذه الحركات متنوعة أيضًا قدر الإمكان في تركيبها الداخلي، أي تعددية. ان حركات التحرير التي تغمض العين عن هذه الدروس تخاطر (عاجلاً أم آجلاً) بالانحراف إلى اليمين (5).

*********

الهوامش:

(1) استنادًا إلى عمل شميت، يصوغ غورغيو أغامبين (Agamben, 2005) نقدًا لمفهوم الحركة في السياسة، لكن في رأينا يتجاهل الخصائص الأساسية التي تميز الحركات التقدمية والنضالات من أجل التحرر من الحركات اليمينية.

(2) في العرض الذي قدمه شميت، تأخذ “فكرة القائد” الفاشي سمات مختلفة للقيادة، يمكن العثور عليها أيضا في الحركات الثورية أو التحرر، ولكنها تقضي على التوتر المتأصل المذكور مؤخرًا بين التسلسل الهرمي والديمقراطية. لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئا أن شميت كان معجبا بالقيادة السياسية للينين والبلاشفة بقدر إعجاب ماو تسي تونغ لاحقًا (راجع: . Schmitt 1963, 58 ff

(3) بالنسبة الى شميت، الحركة السياسية هي العنصر الحاسم في أي مشروع سياسي لخلق وحدة الدولة (تُفهم على أنها سياسية، لكنها في نفس الوقت ساكنة، بقدر ما، لا يمكن أن تشمل الناس وتؤشر احتياجاتهم) والشعب (يُفهم على أنه ديناميكي، لكنه غير سياسي في الأساس، بقدر ما، هي غير قادرة على التعبير عن احتياجاته، ولا على تطوير نظام اجتماعي يفضي إليها، ولا اتخاذ قرارات على الإطلاق، تخترق “الحركة الدولة والشعب على حد سواء، وتخلق روابط وصلات بينهما”. كتب Schmitt  (1933، 12) أن “الحركة” هي دولة وشعب في الوقت نفسه، وليست الدولة الحالية (بمعنى الوحدة السياسية) ولا الشعب الألماني الحالي (كموضوع الوحدة السياسية “الرايخ الألماني”)، ولا يمكن حتى تخيلهما بدون الحركة. وعليه فالحركات اليمينية لا تستطيع ان تكون في وضع يؤهلها للقيام بدور الوسيط، الا إذا تحققت وحدة الشعب على أساس الهوية القومية أو الدينية أو العرقية. وبالتالي يجب أن يكون الشعب موضوعا وهدفا للحركات اليمينية.

(4) علاوة على ذلك، فإن الملكية ليست عنصرية فقط، بل هي جنسانية أيضا، كما أظهرت الدراسات النسوية منذ فترة طويلة. تتداخل أيديولوجيات العائلة مع الخطاب اليميني الديني؛ بشأن الحق في الانجاب والاجهاض، وحقوق المثليين والمتحولين، على سبيل المثال لا الحصر، في النظام القانوني المعقد للدفاع عن الملكية والميراث أو مطالبات الهوية العامة.

(5) في مسارات الشعبوية التقدمية من اليسار إلى اليمين، انظر زئيف ستيرنهيل  Sternhell, 2010, 2012.

المصادر:

  • Agamben, Giorgio, 2005: Movement, unveröffentlichter Vortrag (übers. von Arianna Bove), www.generation-online.org/p/fpagamben3.htm
  • Du Bois, W. E. B., 1935: Black Reconstruction in America 1860–1880, Oxford u.a.
  • Harris, Cheryl, 1993: Whiteness as Property, in: Harvard Law Review, 106.8 (Juni 1993), 1707–1791
  • Parker, Christopher/Barreto, Matt, 2013: Change They Can’t Believe In. The Tea Party and Reactionary Politics in America, Princeton, NJ
  • Robin, Corey, 2011: The Reactionary Mind. Conservatism from Edmund Burke to Sarah Palin, Oxford u. a.
  • Roediger, David, 1991: The Wages of Whiteness. Race and the Making of the American Working Class, London
  • Schmitt, Carl, 1933: Staat, Bewegung, Volk, Hamburg
  • Ders., 1963: Theorie des Partisanen. Zwischenbemerkung zum Begriff des Politischen, Berlin
  • Sternhell, Zeev, 2010: Les anti-Lumières. Une tradition du XVIIIe siècle à la guerre froide, Paris
  • Ders., 2012: Ni droite ni gauche. L’idéologie fasciste en France, Paris

 النص المترجم هو مقتطفات من الفصل الرابع من الكتاب المشترك للكاتبين أنطونيو نيغري ومايكل هاردت الصادر في 12 نيسان 2018 عن دار نشر كامبس في مدينة فراكفورت/ ماين المانيا ونيويورك الأمريكية. والمنشور في عدد كانون الثاني 2018 من مجلة روزا لوكسمبورغ الشهرية الصادرة عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية.

 *- نشرت المادة لأول مرة في مجلة الثقافة الجديدة العدد 418 كانون الثاني 2012

 

عرض مقالات: