لا شك ان تدهور النظام التعليمي بالعراق راجع أساسا الى واقع التسلط والتحكم وغياب المنهجية والحريات الاكاديمية في إدارة الشأن التعليمي، إذ يكون من الاجحاف تجاهل واقع الاستبداد والتسلط الذي مورس خلال عقود من الزمان على جل التدريسيين في التعليم العالي، ومنذ بداية هيمنة الدولة على التعليم العالي بنشوء وزارة التعليم العالي، حيث أدت هذه الممارسات الى عدد من القرارات والتعيينات العشوائية والتي شكلت احد مظاهر الانحراف الكبير عن المبادئ التربوية المعاصرة المتبناة من قبل الجامعات العالمية. لقد تم ترجمة النزعة الاستعلائية والفوقية عبر قوانين صارمة وتدابير زجرية مست كل من في الجامعات وبضمنهم رؤساء الجامعات الذين تم تعينهم من قبل السلطات العليا.
وهنا لابد من التأكيد أيضا:
1- ان هذه الممارسات لا تشكل طبيعة للمجتمع الاكاديمي العراقي بل هي ممارسات خلقها في البداية فكر الحزب الواحد الاستبدادي وبعد 2003 ممارسات الدولة المحاصصاتية.
2- تعارض هذه النزعة التسلطية مع طبيعة العصر في تحقيق مبادئ الحرية الاكاديمية واستقلالية الجامعة من خلال معايير الحوكمة وإشراك فئات المجتمع الاكاديمي باتخاذ القرارات. وظهرت هذه النزعة واضحة في غياب قواعد الحوار والتشاور وفي اصدار مجموعة من القرارات التعسفية كقرار الغاء تكليف رؤساء الجامعات ومساعدي رؤساء الجامعات والعمداء بمجموعهم وفي فترة لم تزد عن أسابيع معدودة، وإلغاء العمل ببرامج التعاون العلمي مع الجامعات الغربية، وفرض تحقيق نسب نجاح عالية على التدريسيين، اذ كانت رغبة الوزارة هو فرض الوصاية عليهم وتطويعهم واذلالهم.
3- ولربما سيتهمني البعض بالمبالغة اذا ما قلت بأن انعدام الثقة بين التدريسيين والإداريين في الجامعات العراقية وبين الوزارة هي اعلى ما تكون عليه في كل وزارات ودوائر الدولة وفي كل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وبأن مثل هذه المشكلة التي تعيق تطوير الاداء وتحسين الجودة لا يوجد مثيلها في اي جامعة غربية ولا تماثلها بأي درجة من الخطورة اي دولة في العالم.
وفي محاولة لفهم الظروف الاكراهية والضغوط البيئية الجامعية والأكاديمية التي تقلق التدريسي وتزعجه توجهت الى مجموعة من التدريسيين عبر وسائل الاتصال الاجتماعي متسائلا عن اهم تلك الظروف والعوامل التي تقلقهم وتجهدهم نفسيا والتي يواجهونها في حياتهم الجامعية. أكد عديد من التدريسيين في مجمل اجاباتهم على عدد من العوامل والأسباب منها:
1- غياب القيادة الاكاديمية وحضور القيادة المستبدة.
2- عدم توفر مقومات البحث العلمي من مصادر وبرمجيات ومختبرات ودعم معنوي ومادي.
3- انعدام المهنية والأمان الوظيفي.
4- نفوذ المستثمرين في الجامعات الاهلية والتي هدفها الربح أولاً وأخيراً.
5- ضغوط القيادات الإدارية والاستثمارية لرفع معدلات نجاح الطلبة.
6- ضعف التمويل والدعم بما يتعلق بتطوير المناهج ووضع المشاريع الرائدة وبتنفيذها.
7- قرارات الوزارة الموجهة أساسا بالضد من التدريسي، وهي قرارات تعتبر مجحفة بحقه لأنها لا تحترمه ولا تمنحه المكانة اللائقة.
8- غياب التخطيط السليم والتخطيط الاستراتيجي.
9- عدم القدرة على اجراء بحث علمي حقيقي مما يضطر الى الاقتباس واختلاق النتائج.
10- استفحال تجارة النشر الرخيصة.
11- اهمال الأفكار الإبداعية وتلك التي لا تتناغم مع عقلية المسؤول او تختلف معه.
12- عدم اهتمام المؤسسة التعليمية بالتدريسي بما يمنحه الإحساس بأهمية دوره وبما يعزز من روح الانتماء للمؤسسة.
13- استفحال البيروقراطية والروتين الذي يقتل الابداع.
14- الافتقار الى المصداقية والشفافية.
15- تغليب الاعمال الروتينية على الاعمال التي تتطلب التفكير الحر والتجديد والابداع.
16- تدهور البيئة التحتية الضرورية للتدريس والبحث العلمي.
17- شيوع ثقافة التملق والمداهنة والكذب في البيئة الجامعية.
18- الشعور بالغبن المادي والمعنوي والقلق بسبب تخلف وقصر نظر المنظومتين التشريعية والتنفيذية وتجاهلهما للدور الريادي للجامعة في تحقيق نهضة الشعب.
19- التكليفات الإدارية الحالية أصبحت تمثل كاهلا كبيرا على التدريسي وهي لا تصب في العملية التعليمية ولا ترقى بواقع الجامعة.
ويمكن تلخيص القضايا التي تحتل الواجهة اليوم بخصوص نظام التعليم العالي في العراق بالاتي:
1- تهافت كل من يحصل على الشهادة الاعدادية نحو الحصول على الشهادات الجامعية وخصوصا الشهادات العليا من دون الاخذ بنظر الاعتبار أهميتها في سوق العمل.
2- بروز اشكال جديدة لمقاومة الطلاب تجاه أساليب التعليم والامتحانات.
3- تراجع العلاقات المهنية والتضامن في مجال التعليم.
4- تنامي الظواهر البيروقراطية.
5- تدني أساليب انتقاء المسؤولين الإداريين ورؤساء الجامعات وإخضاعها للمحاصصة.
5- غلبة المقاربات الشعبوية والانتخابية والسلطوية في صياغة وتطبيق السياسات التعليمية.
6- مستوى مركزية نظام التعليم كموضوع تجاذب بين الحاجة الوطنية ورغبة السلطة.
7- تنامي معاداة نظريات التعلم والطرائق البيداغوجية وتعزيز هيمنة المواد التعليمية المستوردة.
8- تدني اخلاق المهنة.
9- بروز ثقافة تقييم عنيفة واختزالية وتبسيطية.
10- انعدام التدابير لإخضاع الجامعة لحاجيات الاقتصاد وسوق العمل.
11- مكانة التعليم الأهلي المتدنية وعلاقته بالتعليم الحكومي.
12- انتقاء وتدريب ومراقبة وتقييم التدريسيين وترقياتهم المهنية.
رغم كثرة الظروف الاكراهية والضغوط البيئية الجامعية والأكاديمية، يمكن للعراق من تأمين ظروف للحد من التدهور في التعليم ولضمان وجود التدريسي كفاعل أساسي في عملية التطوير الذاتي والمؤسساتي ومن خلال الاستفادة من دروس ازمة كورونا من اجل تفعيل المحاولات السابقة لإصلاح التعليم العالي. وفي الوقت نفسه، يمكن النظر الى الاستراتيجيات التالية:
1- التطوير المهني والاكاديمي للتدريسيين: الارتقاء بقدرات التدريسي هو عنصر أساسي لا يقل أهمية عن النأي بعيدا عن أسلوب التلقين، إذ إن الطلبة في حاجة حاليا إلى تنمية مهارات عديدة منها مهارة التعامل مع التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في مختلف المجالات ومهارات التواصل والعمل ضمن فريق وإتقان أكثر من لغة من بينها اللغة الإنكليزية والتعلم الذاتي والبحث العلمي.
2- بناء الشراكات مع القطاعين العام والخاص لتحسين فرص حصول الجميع على التعليم الجيد: رغم محدودية استخدام الشراكة مع القطاعين العام والخاص في العراق، إلا إن جائحة الكورونا أسرعت من وتيرة اللجوء إلى هذا النوع من الشراكة ومنها الشراكة لتعزيز البنية التحتية الرقمية مع تحديث منصات التدريس والتوصيل عبر الإنترنت. ومن شأن ذلك أن يخط مسارا لمستقبل التعليم في العراق، وأن يشكل عامل تغيير على درب تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
3- تبني أساليب جديدة للبدء بالإصلاح الشامل ولتسريع وتيرة الإصلاحات: في الوقت الذي تؤثر فيه الأزمة على تعليم الملايين من الطلبة، فإنها تتيح أيضا فرصة للتعليم العالي لكي يصلح نفسه. من خلال التدخلات الموجهة بشكل جيد.
4- إيجاد مجالات توظيف جديدة والاستجابة لمتطلبات سوق العمل: بتركيز شديد، يحتاج التعليم العالي في العراق الى استراتيجية تعتمد على تلبية حاجة السوق بالرغم من ضعفه، وليس لمجرد تلبية الرغبات الاجتماعية والسياسية. وتعتبر هذه المواءمة مع سوق العمل من اهم العوامل لمجابهة البطالة وتحقيق اهداف الجامعة.
5- جعل التعليم المهني والتقني أولوية على التعليم الاكاديمي: التعليم التقني والمهني يجب ان يأخذ الصدارة في الاهتمام بأنواع التعليم وأولوية على التعليم الأكاديمي العلمي والأدبي، وهذا يتطلب تغيير تقاليد التعليم العالي وهذا يعني احداث تغير جذري في نظرتنا الى اهميته وجدواه والى اعادة صياغة أولوياته. ويتوجب على التعليم العالي تلبية احتياجات هذا النوع من التعليم وتوفير الفرص التدريبية لسد الفجوة الناشئة عن تراكم عجز الايدي العاملة لتلبية الطلب من قبل مختلف النشاطات الاقتصادية الوطنية.
6- التأكيد على تدريب المهارات: تعد المهارات من العوامل الرئيسية لتحديد درجة مشاركة القوى العاملة وإنتاجية العمل. يحتاج طلبتنا الى اكتساب مهارات جديدة من خلال المقررات نفسها وليس من خارجها، أي الى المهارات التي يبحث عنها المسؤول الإداري، او مدير المستشفى، او مدير المشروع، او صاحب العمل من تفكير نقدي وبرمجة حاسوب، وحل المشكلات، وقيادة وتنظيم ومرونة وتوثيق وتواصل واخلاق مهنية.
7- تطوير النظام البيروقراطي الروتيني في إدارة الجامعات: ادخال نظام أكثر مرونة هدفه تشجيع المبادرات، ومشاريع تطوير طرق التعليم والتعلم ودراسات تحسين الجودة ويخلص الوسط الجامعي من الروتين القاتل، والتواقيع الجاهزة، والكتب الادارية والتسلسل الوظيفي الهرمي الذي يعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة. ويتم ذلك عن طريق منح الجامعات سلطات إدارية واكاديمية أوسع تمهيدا لمنح الاستقلالية والتي تعتبر والحرية الأكاديمية من الأساسات الهامة للغاية لبناء الجامعة في العصر الحديث وبدونها ستبقى الجامعات العراقية فروعا لجامعة واحدة تديرها إدارة اسمها وزارة التعليم العالي.
*عالم عراقي مغترب بروفسور في جامعة دبلن