نقطة البدء لتناول هذه الجدلية موضوعيا هو فك الالتباس المفاهيمي بين الثورة والانتفاضة والاحتجاجات التي تستخدم في الاعلام وأحيانا في مقالات سياسية بشكل غامض وغير متجانس بما يفقدها أسسها الفكرية ويشوش على جذورها الاجتماعية ومخارجها. الاّ ان ما يجمعها هو انها تشكل جزءاً من الآليات الاجتماعية للارتقاء بالمجتمع عندما يكون على حافة تغييرات نوعية في علاقات الانتاج وبنيتها الفوقية من سياسة وثقافة ومنظومات قانونية لحل أزمة بنيوية عاصفة.

ففي الثورة تشكل قضية السلطة أساسها ومحوريتها وتُعرف بكونها فن وعلم صعب ومعقد. فعبرها تتمكن  القوى التي تتصدرها من استلام السلطة السياسية وتنفيذ برامجها الضرورية لنقل المجتمع الى مرحلة جديدة نوعيا، بما يضمن تحطيم القديم من أساسه والبدء بعملية تحول التغيرات الكمية في المجتمع الى تغيرات نوعية، و ترتفع به الى مستوى أعلى وتخلق إمكانات جديدة لتطور لاحق مستقبلي. والثورة تختلف عن الانقلابات العسكرية او المدنية التي تقوم بها  جماعات مسلحة، والتي إن نجحت تؤدي الى تعميق أزمة النظام البنيوية وقيام انظمة دكتاتورية او شمولية ذات سمات فاشية، لأنها غير قادرة على تحقيق الثورة الاجتماعية. وهو جوهر الاختلاف بين الانقلابات الفوقية التي لا تمس سيطرة الطبقات المهيمنة بل هي مجرد استبدال جماعات بأخرى.

وما يميز الثورة أيضا هو وجود قوى محركة لها تمثل مصالح طبقات وفئات و شرائح اجتماعية خاضعة للاستغلال، وايضا توفر مستوى معين من الوعي ودرجة نضج التنظيم. وتعكس الظروف التاريخية التي يعيشها المجتمع أنماطاً مختلفة من الثورات تنسجم مع طبيعة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. فهناك مثلاً ثورات تقودها البرجوازية التي دشنت مرحلة الانتقال من الاقطاع الى الرأسمالية.

على خلاف ذلك، هناك ما يمكن ان تؤدي اليه الاحتجاجات الشعبية في افضل الأحوال، وهو إصلاحات فوقية مهمة ولكن لا تستهدف إسقاط السلطة السياسية بل حلاً جزئياً لبعض التناقضات الاجتماعية يؤدي الى تحسين ظروف حياة الفئات الكادحة والمهمشة، ولكن تبقى السلطة بيد الطبقة المهيمنة. ومن المهم الاشارة الى ان الأساس الاقتصادي للثورة والانتفاضة والاحتجاجات هو واحد، الاّ ان  الاختلاف يكمن  في درجة نضج العوامل الذاتية والموضوعية وتوفر القيادة التنظيمية لها. علماً بأن الانتفاضة شكل متطور من الاحتجاجات وتتبع آليات أرقى كالاعتصامات.

ومن هنا فان الاحتجاجات الشعبية والانتفاضات هي اشكال من النضال السياسي الذي يكمّل ويتناغم مع أشكال النضال الاخرى، هدفها الاصلاح  السياسي والاجتماعي، ونجاحها مرتبط بدرجة نضوج الظروف الموضوعية والذاتية ومستوى الوعي الجماهيري الثوري الذي يغتني بحركة الجماهير العفوية.

تاريخياً، ما ميز الاحتجاجات الشعبية كأسلوب نضالي في العراق هو المزج بين المطالب السياسية والاقتصادية وبقيادة المنظمات المهنية والنقابية تحت شعارات من اجل إصلاحات اجتماعية واقتصادية  وبمضمون سياسي وطني عام. بينما تناضل الاحزاب السياسية من اجل تغيير الواقع السياسي مع التأكيد على الترابط الجدلي بينهما. ولكن ما ميّز احتجاجات تشرين ٢٠١٩  هو تصدر التجمعات الشبابية والنسائية والطلابية، وبدعم من منظمات المجتمع المدني والنقابات، تحت شعارات مطلبية وسياسية في خضم الواقع المتأزم للنخب السياسية واشتداد الأزمة الاقتصادية وهشاشة الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية وتأثيرات جائحة كوفيد - ١٩. الأمر الذي تطلب من قوى اليسار العراقي والتيار المدني الوطني بمختلف ألوانه ان يعزز قواه وتماسكه ودعمه للاحتجاجات وان يعيد قراءة السياقات ومنها  سياسة التحالفات بما يضمن مواصلة ودفع العملية الثورية الجارية وايصالها الى مخارجها المطلوبة شعبياً وتاريخياً، عبر استنهاض الفئات والاوساط الشعبية والمهمشة والكادحة للمشاركة في دعم الاحتجاجات وايجاد آليات متطورة لتحريكها باعتبارها الشكل الجنيني للثورة القادمة.

وتمثل العفوية في احتجاجات تشرين مؤشراً لوعي طبقي في حالة من التبلور والنمو يتطلب الدعم والرعاية والتطوير عبر اشكال جديدة و متنوعة اصيلة تنبثق من ذات الاحتجاجات كانعكاس لمستوى وعيها، وصولاً الى حركة احتجاجية ناضجة وقادرة على التصدي لتحديات المرحلة الانتقالية وقيادات مميزة وليس بشكل زائف كالتي تحاول فرضها عناصر الأحزاب المندسة وخيم أعداء الاحتجاجات لإنهاكها من داخلها عبر افتعال الصراعات أو فرض شعارات متطرفة او استهداف مقرات ومؤسسات عامة. فقد  أكدت التجربة التاريخية لنضالات الشعوب ان الحركات الجماهيرية لا تأتى نتيجة قرارات يتم التوصل اليها في غرف مغلقة وفرض توقيتات محددة وزعامات شكلية، كما كان الأمر لدى ما تم تسميتهم بـ”اليساريين الحتميين” في انتفاضات 1919 في أوروبا الذين كانوا يرون أن على  كل العمليات الجماهيرية أن تجري في زمن ووقت محدد (كاوتسكي وباور) وليس انها نتاج عملية تطورية للوعي والمزاج الثوري الذي ينفجر في لحظة تاريخية معينة مناسبة لأن الجماهير توصلت الى الاستنتاج بعدم امكانية الاستمرار بالعيش في نفس الظروف، وتتجلى على شكل احتجاجات عفوية او عمل ثوري ناضج بقيادة قوى سياسية تطمح الى تغيير مجمل السلطة السياسية.

والمقصود بـ “عفوية الجماهير” الوعي الذي ينمو تحت تأثير  اجتماعي ضاغط  وتراكم تاريخي من المعارضة المطلبية يصل فيها النضج الى تبني شعارات وطنية ومطلبية جامعة بسبب التناقضات الاجتماعية - الاقتصادية التي وصلت الى  حد الأزمة ولكن من دون ظروف ناضجة للثورة وعدم وجود تنظيم منبثق منها قادر على تعبئة القوى في اللحظة الحاسمة للانقضاض على أضعف حلقاتها. وهي لا يمكن تحديد لحظة انفجارها بدقة لأن الحوادث والصراعات الجزئية والصدف تلعب دوراً مهماً في إشعالها.

وهكذا بدأت تظاهرات “الربيع العربي” وفي لبنان بعفوية، وكذلك في العراق في ٢٠١١، وتطورت الى الحد التي قمعت بالعنف المفرط.  والأمر كذلك في الاحتجاجات التشرينية، الاّ ان ما يختلف هو اشكال وضراوة  قمعها و احتوائها ومحاولات اجهاضها واستخدام الجيوش الالكترونية للتضليل والتشويه والتشهير والاندساس في داخلها واستخدام القتل والطعن والاختطاف.

وقد كانت جدلية العفوية والتنظيم حاضرة في الكلاسيكيات الماركسية. فقد أشّر ماركس وانجلز عفوية البروليتاريا والفئات الوسطى في ثورات 1848، التي بدأت في فرنسا وامتدت إلى بلدان أوروبية أخرى. كما وحلل ماركس هزيمتها في كتابين، “صراع الطبقات في فرنسا” و “الثامن عشر من برومير بونابرت”. وكان ماركس ضد انطلاق كومونة باريس العمالية خشية المجزرة، لكنه انخرط فيها حال انفجارها وانطلق من أن البروليتاريا يتطور وعيها وتكتسب الخبرة من الممارسة عبر الانخراط في الثورة.

ودعم لينين ثورة 1905 العفوية في روسيا. كما أوضح في العديد من المقالات والكتب موقفه من الاحتجاجات الشعبية ورحب بالحركات العفوية كونها تعكس روح الإبداع والمبادرة التي تتطور من خلال العمل الجماهيري. اما اختلافه مع روزا لكسمبورغ  فهو في تدقيق حدود الدور العفوي للجماهير والعلاقة بينها والنشاط الطليعي للتنظيم الحزبي وقصورها في تحقيق الاهداف النهائية.

كل هذه المواقف تنطلق من فكرة ماركس التي كانت تحكم منظوره للصراع الطبقي، وهي “أن الظروف المادية اللازمة لتحرر البروليتاريا هي عفوية تولّدها سيرورة الاستغلال الرأسمالي” (رسالة ماركس إلى كارلو كافيرو). وتولّد ميل البروليتاريا للتمرد ضد استغلالها من خلال الاحتجاج. 

ومن اشكال التشويش الفكري التي تواجهها الاحتجاجات في العراق هي الدعوة لفرض قيادة فوقية ودفع بعض النشطاء للانخراط كمرشحين في الانتخابات المبكرة، والتي تعكس حالة من نفاذ الصبر والتشكيك بقدرة الطريق السلمي لتحقيق الإصلاح. ومن المؤكد ان بعضها مخلص نتيجة الاحباط وانعكاس للقمع الممنهج ضدها، فيما يريد البعض الآخر ان تُدفع باتجاه ارتكاب اعمال عنف وتخريب ضد الممتلكات العامة والخاصة لتبرير استهدافها من قبل الاجهزة الرسمية والمليشيات المنفلتة  وعصابات الجريمة المنظمة والارهاب الداعشي.

 لكن لهذه الدعوات جانب آخر وهو المطلوب، عبر تطوير عمل تنسيقيات الحركة الاحتجاجية بما يضمن تبادل الخبر والتجارب وايجاد اشكال قانونية لتصعيد المشاركة الجماهيرية وبالاستفادة من التجارب التاريخية والعالمية.

عرض مقالات: