أهلُنا الأولون قالوا قولهم الشهير " الدهرُ إذا طال دَمَّر" المعنى إذا تعرَّضَ اي إنسان أو مجتمع الى ظلم وسَحِق لفترات غير قصيرة فأنه يفقد آدميته كإنسان وتتساوى لديه الحياة مع الموت لا يملك اي طموح، وهذا يؤثِّر على علاقاته مع اسرته مع محيطه ومجتمعه. ونتيجة عدم وصول الكِتاب والمحاضرات التثقيفية يُصاب المجتمع بالخواء الفكري والجمود، ويُمارس الحاكم أعماله ويواصل سيطرته وطغيانه، وهو يحقق استقراراً في المجتمع قائماً على الظلم، لكن الذي يُعرِّي ظُلمه ما يتعرَّض له الشعب من الإبادة لأنه يكشف حقيقة الظالم أمام الناس. أي أن تعريف الحاكم المستبد للفتنة يتعلق بتعريته وتعرية ممارساته الظالمة أمام الناس، ونجد من يصفق لهذا الحاكم من المستفيدين من ظلمه. والفاسد الذي يكشف الفساد ويثير وعي الناس حول هذا الفساد الذي يتغذى على مصالحهم، أما الحاكم الفاسد فهو المُعَلم الأول والقائد والرمز والبطل. والذي يثير الفتنة والإذلال هو الذي يتجاوز القوانين ولا يطبقها، وفي الممارسة العملية المجرم هو من يطالب بتطبيق القانون، وهو الذي يُطالب بإقامة العدالة الاجتماعية والذي يرفض التعامل مع العدو وتقديم الخدمات له! ووراء مظاهر الحرية والليبرالية لا زالت آلية الضبط والقمع البوليسية السياسية بفاعليتها. تعمل بصمت وتَكتُّم فاعل مع القلة القليلة التي تُشكِّل عقبة أمام سطوة الاستبداد ... علوم الأمن والمخابرات وتجهيزاتها هي الأكثر تقدما في عالم القهر...أما علم الغيب، ونقصد به استغلال الدين وسيطرة رجاله على التحكم بالغيب، تفسيراً وتأويلاً واحتكارهم لهذه السلطة المعرفية من اجل ترويض الناس من خلال كل آليات التحريم والتحليل المعروفة. ولقد بلغ الأمر بهم إلى تكفير كل فكر.
أننا أمام حالة تدمير فكري فِعْلي هو وَحدَهُ الذي يعطي السلطة لرجال الدين، وهم بذلك أكثر حلفاء الاستبداد السياسي، حتى وهم يدخلون في صراع معه، ذلك أنهم ينتجون نماذج من البشر مسلوبة المرجعية الذاتية وبالتالي جاهزة للانقياد للاستبداد السياسي والديني معا. التحريم والتجريم لا يبقيان للفكر من معرفة ممكنة إلًا عِلم تدبير الحال، إما بالتحايل والإخفاء والتمويه والمداهنة للسلطات تجنباً لغضبها ونقمتها، او بالتوقف والتودد والمزايدة طلباً لرضاها. وهناك تحالفاً رهيباً ما بين الاستبداد والقمع الاجتماعي وبين الكبت النفسي، فالاثنان وجهان يتبادلان التعزيز لعملية الهدر ولهذا فإن عملية التحرير من براثن الاستبداد لا تكفي وحدها للخلاص، بل لا بد من عملية تحرر ذاتي تواكبها؛ وإلاّ فإن ما يحدث سيكون عبارة عن استبدال استبداد بآخر، وقمع بآخر.
القضية في الحقيقة ليست ثنائية الدولة والمجتمع ولكننـا ننـاقش قـضية المدنية والتمدين، وقضية ألاّ تتغول الدولة حتى لا تنفي المجتمـع فقـط ولكـن ألاّ تدمره تدميراً منظماً فلا يبقى هناك نسيج يربط المجتمع بعضه ببعض، حتـى إذا توقفت الدولة يمكن للمجتمع أن يعوضها، لأن المواطن لا يعيش فقـط فـي ظـل علاقات قانونية تسلطية، ولكنه يعيش أيضا كفاعل اجتمـاعي لـه فـضاء حقيقـي يتفاوض مع الدولة حول تقسيم الفضاءات، وبدون ذلك تصبح الدولة مطلقة ثم تنفي نفسها فتصبح فرداً فقط. فالدولة عندما تنفي المجتمع أو مدنية المجتمع وتنفي القانون يـصبح القانون هو المشكلة حيث لا يستطيع أن يستقيل، ولا يستطيع أن يقول إنني الآن أرغب في مغادرة الدولة، وحتى هذا الشخص لا يستطيع أن يفعل ذلك، وهذه إشكالية حقيقيـة أخرى. علينا أن نعترف أن القضية أحيانا في هذا الجانب الوظيفي في بلاد ليـست فيها دولة أصلا.. فقضية الصومال المدنية مثلا غيرها في مصر، ولكن قـضية مـصر تماثل إلى حد كبير قضية كل من العراق وسوريا والجزائر في جوانب جوهريـة فعندما تغولت الدولة خارج إطارها الاتفاقى وصادرت كل فضاء العمل الاجتمـاعي نفت نفسها ودمرت المجتمع فلم يعد هناك مجتمع، وعندما سقط صدام حسين نهـب المجتمع نفسه بنفسه لأنه لم يكن مجتمعاً ولم يكن موجوداً في حالة مدنية.
إن هذه الإشكالية النظرية في الواقع إشكالية عملية للغاية، فنحن مـثلاً قـد انقسمنا حول الموقف من نظام صدام حسين لهذا السبب تحديداً، ووفقاً لـبعض آراء المثقفين العرب كانت القضية هي مقاومة الهجمة الإمبريالية، مع الـسكوت الكامـل عن واقع نظام صدام حسين. بينما كان الآخرون يعتقدون أننا يجب أن نتحدث فقـط عن نظام صدام حسين وندمره بغض النظر عن أي شيء آخر، ولكن كـان هنـاك موقف يقبل تجاوز الجدل حول الحالتين معاً، وهو إننا نرفض نظام صـدام حـسين ونرفض الإمبريالية معاً. هذه المواقف ليست جميعها مواقف عملية، ولكن لابد أن تكون لهـا بنيـة منطقية أو عقلية، ويجب علينا أن نعترف بالتنوع، ولدينا إشكاليات مختلفة، ولكننـا نستطيع أن نتحد معاً. ومع ذلك فهناك اتفاق جوهري على أن القـضية الجوهريـة هي قضية دولة القانون ودولة المؤسسات ودولـة الديمقراطيـة ذات محتويـات تاريخية مختلفة تبعاً لكل حالة على حدة.
وإذا كنا نريد حصر المسألة في التطور الديمقراطي فيجب إذن أن نتحدث عن الأحزاب السياسية وجمعيات حقوق الإنسان، ويمكن أن نُدخل في ذلـك أحياناً بعض المراكز الفكرية، أو أندية القضاة. فمن يتحدث عن الديمقراطية فـي الوطن العربي هو الأحزاب السياسية وامتداداتها داخل النقابات وتنظيمات المجتمـع المدني الأخرى، ثم جمعيات حقوق الإنسان.. فإذا كان ذلك هو المقصود فبإمكاننـا أن نتحدث عنه، فلا يمكـن أن نتحـدث عن دور المجتمع المدني إذا كان هذا المجتمع المدني غير متكامل، وقـد اعتـرف الجميع أن المجتمع المدني ليس موجوداً في أي دولة من الدول العربية، فكيف أقول إن المجتمع المدني غير موجود ثم أنسب إليه أدواراً، وأتوقع منه أن يمـارس هـذه الأدوار بقدر أكبر من الفعالية؟ إذن فلا بديل عن مفهوم آخر واسع نُدخِل فيه الأحزاب السياسية وغيرهـا. فالإنسان العربي كابد ما هو أشد وطأة من القهر، فالمقهور يحتفظ بمداركه، يعي قهره، حرمانا من ممارسة بعض الحقوق؛ اما المهدور فلا يعي مأساته ويستنزف طاقاته الحيوية في مداراتها دون التخلص منها. مجال علم النفس الاجتماعي يدخل في النضال التحرري وتحكم الإنسان بمصيره، وفي قضايا التنمية الاجتماعية؛ إذ لا تنمية اجتماعية إلا بمقدار ما تتسع خيارات الإنسان في امتلاك زمام مصيره تسييرا او توجيها او صناعة مصيره، من خلال بناء قدراته الذاتية وتمكينه الكياني، بحيث يرتقي الى نوعية تحقق كامل إنسانيته، أو يمارس ديمقراطية حقة. عطَّلت مرحلة الاستعمار الاستيطاني عملية القطع مع نظم العصر الوسيط وعلاقاتها الاجتماعية ونماذج اقتصادها وقيمها وثقافتها، وقدمت الدعم غير المحدود لأنظمة التخلف، الأنظمة الأبوية. علاوة على جرائم الإبادة وقمع الإرادات الوطنية خلقت السيطرة الكولنيالية الظروف لتواصل ثقافة الاستبداد للعصور الوسطى بمكوناتها الكاملة، في الحياة الاجتماعية المعاصرة ومكنتها من الهيمنة على الثقافة القومية المعاصرة.
النظام المستبد يحتكر لنفسه الثروة الوطنية وإدارة الحكم وينفرد بتقرير مصير المجتمع وتعليمه وإعلامه، ويستأثر لنفسه بحق تقرير حيوات أفراده. وحيث يحرم الإنسان من حقوقه الإنسانية فإنه يجرد من استقلاليته ومن الإدراك والوعي وتتشوه أذواقه وعواطفه. في ظل النظام المستبد نكون "بصدد هدر إنسانية الإنسان متعددة الأبعاد والمستويات والألوان بِدءاً بهدر الدم وادعاء الحق في التصرف بالكيان، وانتهاء بهدر الوعي والحجر على العقول، ومرورا بهدر الطاقات الحية من خلال الحرب عليها والتفنن بأساليب كَتمَها. يهدر العقل ذاته باعتبار أن الوعي هو المدخل إلى التفكير والعطاء الفكري. كما قد يصيب الهدر العام المواطنة والانتماء، "وكلها تولد مآزق وجودية كبرى للأفراد والمجتمع بشكل عام. يتلازم مع امتهان الإنسان هدر الموارد والثروات، وفي عالمنا العربي لا يكاد هدر الثروات يثير فضيحة، بينما الهدر في البلدان المتقدمة يحيل ممارسات الفساد المالي إلى فضائح تطيح بالرؤوس. ويُكمل السلسلة هدر المؤسسات التي تُجيَّر لخدمة مكاسب ونفوذ السلطات والعصبيات (أو بالأحرى السلطات العصبية) على اختلافها... وتكون النتيجة إحكام الحصار على الإنسان وامتهان الكرامة. ذلك أنه حين يتم هدر المؤسسات والثروات يتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق... ولا مكان عند هذا الحد للتنمية والإنماء.
وفي بلاد الهدر يختزل الكيان الوطني في هَم الحفاظ على المتسلطين. ينتشر الفساد ويتدهور الأداء والنهب وتعطَّل مشاريع التنمية. يتحول لاهتمام سلطات الحكم الى إلهاء الشباب العاطل بثقافة التسلية، تُعطل طاقات الشباب المتفجرة المتوثِّبِة وترديها في خيبات أمل واستسلام، او في ردود أفعال متطرفة من خلال إعلام مخدر.