تعتبر حرية التعبير الوسيلة الأولى التي يجب أن يملكها كل فرد من أجل أن يتمكن من الكشف عن خصوصية تفكيره بدايةً و كيانه أخيراً من خلال الإتصال الإجتماعي. ومن أجل تحقيق هذه الغايات حملت حرية التعبير فيما بعد بصفتها ظاهرة اجتماعية أهمية سياسية خاصة تلك التي تبرر المطالبة بها كحرية ، حيث تزايدت المطالبة الإجتماعية بحرية التعبير في أوروبا في الوقت الذي انفصل فيه الواقع السياسي عن الظاهرة الدينية ، فاكتست هذه الحرية مدلولاً سياسيا يمكن بواسطتها لكل فرد أن يبني رأيه الخاص به و يتخذ اختياراً واضحاً وهادفاً للمجتمع ، و يُعتبر المعتقد أُلأول لهذه الخصوصيات التي يثبت بها وصف الإنسان.                    

   اتَّضحت الصدارة التي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لثقافة احترام كرامة وضمير كل إنسان على وجه الكرة الأرضية. ونحن نعتقد أن حماية الحق في حرية الضمير والديانة أو العقيدة ليست مجرد ممارسة قانونية أو ضرورة واقعية، بل هي جزء أكبر بكثير وتعُهِّد روحي جوهري يشكل المواقف والممارسات التي تسمح للإمكانيات البشرية أن تتجلى وأن يزدهر نتاج العقل الإنساني الذي وهب السبب والضمير للبحث عن الحقيقة بحرّية تامة ودون قيود.و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 قد أخضع حرّية التعبير عن الرأي لضوابط واضحة ومعقولة وكذلك فعلت التشريعات الوطنية في مُجمل الدول، وأطلقت حرّية الرأي والتعبير لتصبح أداة في يدّ صاحبها يجب عليه حُسن استعمالها حتى لا يقع تحت طائلة محاسبة قانون الدولة، أو طائلة غضب وثائرة المتضريرين وما قد ينتج عنه، إذ إن إشكالية صاحب الرأي لن تكون مع القانون في ظل وجود تشريعات مُنَظِّمة وفي ظل ضمانات المحاكمة العادلة وحق الإنسان في قرينة البراءة وسبُل التظلم الفعّالة وجميع المبادئ القانونية الجنائية التي تصبّ في صالح المتهم، بل ستكون مع الآخر، لذلك  فأن التمتع بهذه الحرّية تكون (لا ضرر ولا ضرار)وهذا المبدأ إسلامي.                      

إن  ظهور مفهوم حرية الرأي فترة القرون الوسطى في المملكة المتحدة بعد الثورة التي أنهت عهد حكم الملك جيمس الثاني، وبعد ذلك بحوالي عام أصدر البرلمان البريطاني قانوناً يسمح بحرية الكلام داخل البرلمان، ثم قامت الثورة الفرنسية، والتي أُعلن بعدها عن حقوق الإنسان والمواطن داخل فرنسا، ثم ظهرت بعض المحاولات في الولايات المتحدة ألأميركية التي تنادي بحرية الرأي والتعبير كحقوق أساسية للإنسان، ولكنّ هذه المحاولات جميعها فشلت، ومن أشهر الفلاسفة الذين كانوا ينادون بحرية التعبير: جون ستيوارت ميل الفيلسوف الذي عاش في الفترة (1806-1873)  من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض حيث قال "إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفاً فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة" وكان الحد الوحيد الذي وضعه ميل لحدود حرية التعبير عبارة عن ما أطلق عليه "إلحاق الضرر" بشخص آخر( أي نفس مبدأ "لا ضرر ولا ضرار" ) ولا يزال هناك لحد هذا اليوم جدل عن ماهية الضرر فقد يختلف ما يعتبره الإنسان ضررا أُلحِقَ به من مجتمع إلى آخر. وكان ظهور المجتمعات الغربية الديمقراطية بالتوازي مع حريتي التعبير و المعتقد, إذ يتطلب المجتمع الحديث الديمقراطي تشكيل "رأي عام " و الذي يستلزم بدوره الإعتراف بالدور المركزي للمعلومة بصفتها إحدى قِيمِه الأساسية. و يتطلب ذلك أن تصل المعلومة إلى المواطن من أجل أن يتمكن من الإختيار و المشاركة في النقاش العمومي . و لا يمكن تحقيق ذلك إلاّ من خلال عملية الإتصال و التواصل مع الغير. و أدت الأهمية الممنوحة إلى فكرة التواصل وإلى نقل المعلومة في المجتمع إلى ظهور حرية التعبير كقيمة أساسية. و لكن كان للأنظمة الشمولية أثر سلبي على هذه العملية ، و تأكَّد دور هذه الأنظمة من خلال سلطة الكنيسة . لذا كانت بداية التغيير بالقضاء على سلطة الكنيسة من خلال فرض حرية المعتقد بمختلف صورها حتى الإلحادية منها. لذا ارتبط ظهور حرية التعبير في الدول الأوروبية مع تكريس الحرية الدينية و منها حرية المعتقد ، التي أعطاها الغرب مدلولاً مغايراً للفكر الكنسي التسلطي . فنشأت حريتا التعبير و المعتقد كحريتين سياميتين ؛ يرتبط فيهما الحق بالتواصل بالحق في التعبير باعتباره تصور أداتي للحقيقة ؛ و تُشكل حريتا التعبير و المعتقد معاً معادلة العملية التواصلية، يمثل المعتقد مضمونها و التعبير مظهرها .                   

كفالة حرية المعتقد كما يترأى لضمير الفرد ، أمر جوهري في مسألة التطور الإنساني.  فهو بمثابة الطريق في رحلة الإنسان للبحث عن المعنى.  فالرغبةِ في المعرفة والتعرف على ذواتنا كبشر هو بالتحديد ما يُميّزُ الضميرَ الإنسانيَ. وتقريرِ الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة ٢٠٠٤ الذي حمل عنوانًا ذا أهمية بالغة ألا وهو: "الحريَّة الثقافية في عالمِ اليومِ المتنوّعِ" والذي يعترف للمرّة الأولى في تاريخ تقارير برنامج التنمية البشرية (التي بدأ إصدارها منذ عقدين تقريباً) بالحريَّة الثقافية بوصفها "جزءاً حيوياً في عملية التنمية البشرية" وأَكّدَ التقرير على "عمق الأهمية التي يمثلها الدينِ لهويات الشعوب.ومن مصلحة الأنظمة الوطنية احترام الخصوصيات الثقافية و الدينية الموجودة داخل الدولة،لأن ذلك يُعد عاملاً مساعداً يؤدي إلى تقوية وحدتها و سيادتها. يعني ترقية المجتمع المدني و مؤسساته و أدوات عمله و السماح له بالمشاركة السياسية الفعّالة .لأنه قد يؤدي إهمال هذه الخصوصيات إلى اتساع الهوة بين الدو ل و شعوبها في العالم النامي ، مما يؤدي إلى زيادة أعباء السيطرة السياسية المفروضة التي يجب أن تفرضها على شعوبها ، و يتطلب هذا الأمر الزيادة في الدعم الخارجي لهذه الدول حتى تحافظ على بقائها. فإذا فقدت هذه الدول السيطرة على شعوبها ستفقد القدرة على الحفاظ على مصالح الدول الكبرى ، مما ينذر بالعصيان المدني و الثورة الشعبية ، و لا يخدم هذا مصالح الدول الكبرى ، خصوصا و أن الدول الكبرى لا تكترث بوضعية حقوق الإنسان في أي مكان في العالم إلاّ إذا كان ذلك من شأنه توسيع مصالحها.                                                          

 المجتمعات العربية على العموم  يمكن تصنيفها أنها مجتمعات محافظة. أي أنها مجتمعات تعمل على الحفاظ على المؤسسات التقليدية في المجتمع، تدعم الاستقرار، وتدافع عن التسلسل الهرمي وليس المساواة، تنظر بعين الريبة للابتكار. وتمنح أولوية لمفهوم النظام، تساند التوزيع القائم للثروة والمكانة الاجتماعية. هذه المجتمعات تدعم أيضا تدخل أفرادها في شؤون الآخرين، والحكم الأخلاقي على تصرفاتهم. وفي معظم الأحيان يقوم الأقل تعليماً والأكثر رجعية بالتدخل السافر في حياة من حوله. وهنالك معايير دولية لأي قانون لحرية التعبير تتمثل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المصادق عليها من قبل العراق مثلاً، كما أن القانون يستند إلى المادة (38) من الدستور العراقي التي أعطت الحق في حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. يمتد التزام الدولة بضمان احترام حرية التعبير، و حرية تداول المعلومات إلى العلاقات الخاصة فيما بين الأشخاص العاديين أنفسهم . فلا تُرَتِب حرية التعبير آثارها فحسب في العلاقات العامة فيما بين الأشخاص العاديين و السلطات العامة (العلاقة عمودية) ؛ إنما لها أثر أفقي يتعلق بالعلاقات الخاصة ما بين أشخاص القانون الخاص . إذ تحمي حرية التعبير على سبيل المثال العامل من شروط العمل التعسفية ، وتحمي المدرس في مواجهة السلطات الدينية التي تدير مدرسة معينة مثلاً.                                    

 وقد نصَّت المادة الأولى من الإتفاقية الدولية لإستخدام البث لصنع السلام عام 1936 على منع و تحريم أنواع معينة من البث من خلال التزام الدول الأطراف في الإتفاقية بوقف ما قد يصدر من أقاليمهم يتضمن برامج قد تكون ضارة بالتفاهم الدولي، أو تشكِّل تحريضاً لشعب دولة أو إقليم تابع لدولة أخرى متعاقدة على القيام بأعمال تخالف النظام أو الأمن الداخلي لإحدى الدول الأطراف، و حرَّمت الإتفاقية أي تحريض عن طريق البث على الحرب الأهلية أو العصيان المسلح أو غيرها من الدعاية الهدامة. إضافة إلى معاهدات عديدة أخرى ثنائية أو متعددة الأطراف. فعلى كل دولة تحاول إرساء نظام ديمقراطي أن تُضَمِّن دساترها نصوصاً تحمي حريتي التعبير و المعتقد, وأن تُضمن القوانين الداخلية مختلف عناصر حرية التعبير, أن تحدد القوانين المتعلقة بالمنازعات إجراءات إثبات المعلومات و الأفكار تبعا لإختلاف طبيعة كل واحدة منهما ، بما لا يشكل مساساً بحرية التعبير , وأن تأخذ  الحكومات و المشرَّع إلى البعد الجديد للمواطنة " المواطنة العالمية " ، الذي أنتجه التطور التكنولوجي والعولمة مع بروز مفهوم الإعتماد المتبادل كأحد المفاهيم الحاكمة للعلاقات الدولية في ظل ثورة المعلومات والإتصال والإعالم وحرية التجارة العالمية ؛ خصوصاً مع انتقال حريتي التعبير و المعتقد إلى المستوى الدولي و التي أقرّتها المواثيق والاتفاقيات الدولية .