سكب الكثير من الشمبانيا، وضجت جميع المدن الامريكية بالاحتفالات والأهازيج والرقص فرحاً بخسارة ترامب، بينما عبّر حشد لا يقل عدداً عن غضب هادر، وذرف الكثير من الدموع لنهاية رئاسته. (قال لي جاري وهو أمريكي ذو ميول يسارية: لقد تم صرف ما يزيد على 8 مليار دولار على هذه الانتخابات، وهذا المبلغ يكفي على أقل تقدير لإعادة إعمار مدينة دمرتها جيوش الغرب لتوسيع أسواقها في البلدان النامية).
المتابع للانتخابات الامريكية لا يفوته أن الانقسام الحاد قد تمحور في رفض أو قبول شخصية ترامب، وسياساته المعادية للملونين والمهاجرين، و انحيازه المتطرف للعرق الأبيض، و دعمه للدولة البوليسية على حساب القانون أحيانا ورغم الضجيج الاعلامي الذي أسهم أصلاً في ترسيخ حالة الانقسام، فأن النخبة الرأسمالية ترحب بانشطار المجتمع الى فريقين متصارعين، طالما أن الصراع لا ينطوي على الشك في مدى كفاءة النظام الاقتصادي، و عدم استجابته لطموحات الأغلبية وانعدام العدالة في توزيع الثروة، فالصراعات العرقية أو الاختلاف في الصفات الشخصية للقائد من شأنها أن تحرف أنظار الجماهير عن ادراك البعد الطبقي لمعاناتها، و جرهم الى صراعات - مهما كانت أهميتها - فأنها تبتعد عن جذور الاشكالات البنيوية في طبيعة النظام.
لم تكن شخصنة الاعتلالات البنيوية وتغذية الصراعات الجانبية جديدة على النظام الرأسمالي، بل هي أساليب ناجحة للتضليل على مدى التأريخ. وقد كشف الكاتب كريس هيجز في كتابه Fascists American أن شركات كبرى تدفع بسخاء لمنظمات مكافحة العنصرية، وتدعم في نفس الوقت منظمات ومؤسسات فكرية واعلامية يمينية عنصرية متطرفة، مما يسهم في ديمومة وتأجيج العنصرية المتجذرة أصلا في النسيج المجتمعي للبلدان الاوربية. أما فيما يتعلق بالشخصنة فقد نجح النظام الرأسمالي في تبرئة نفسه من جرائم الحروب و تجويع الشعوب عبر شيطنة اشخاص أو قادة، و تحميلهم مسؤولية أحداث تأريخية كبرى، والتأريخ يكشف لنا الكثير في هذا المضمار، لنأخذ مثلاً جرائم الجيش البلجيكي و الشركات الرأسمالية في الكونغو بين 1908 حتى 1960، لقد تمت إبادة 10ملايين من السكان الأصليين، و تم اقتراف جرائم قطع الرؤوس والأرجل والاغتصاب بما يظهر جرائم داعش أعمال هواة مبتدئين، ومع ذلك يتم التركيز في الكتب والمقالات لا على مسؤولية النظام الرأسمالي والنفاق في ادعاءاته بنصرة حقوق الأنسان واحترام القيم الإنسانية، بل تعزى الجرائم الى قسوة ووحشية الملك ليوبولد وجيشه، و يحلو للبعض تلميع صورة الاستعمار بالقول ( رغم ما حصل فقد تم تحديث البلاد)، ولنأخذ مثالاً أوضح فيما يكتب عن الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين وسويت قرى بسكانها بالأرض من قبل الحلفاء والمحور لتقاسم الدول النامية وثرواتها، ومع ذلك يتم التركيز بقصدية أو بغيرها على شخصية هتلر المجنون و المهووس والمصاب بداء العظمة و عقدته النفسية كفنان فاشل، وذلك لحرف الانظار عن مسؤولية النظام الرأسمالي، بينما ينسب القمع الستاليني ليس لشخص ستالين فقط وانما للنهج الاشتراكي أو النزعة ( اللا ديمقراطية ) المزعومة للفكر الماركسي. واليوم ينسب الى شخص ترامب المتعالي العنصري كل الاعتلالات التي يعاني منها النظام الرأسمالي ومخرجات النهج اللبرالي الجديد من انقسام طبقي حاد، تم توظيفه بنجاح من قبل ترامب لتأجيج نقمة المهمشين من قبل النظام وتوجيهها ضد المهاجرين والملونين وتحميلهم مسؤولية معاناة الفقراء، وذلك لإفراغ الصراع من بعده الطبقي. الحزب الديمقراطي والخطاب اللبرالي يصرّ على أن المشكلة تكمن فقط في شخصية ترامب الحقودة النرجسية المتهورة وكأن الفردوس سيعود بنهاية عهده، بل ان قادة الحزب الديمقراطي بدأوا يرددون بثقة: سنعود الى ما قبل الكابوس الترامبي، أي لا حاجة الى اي تغييرات جذرية من شأنها إصلاح النهج الاقتصادي لتحسين الوضع المعيشي والصحي للملايين وحمايتهم من السقوط ثانية كضحايا للخطاب الشعبوي المخادع من قبل ترامب أو شبيه له في الانتخابات القادمة (ربما أحد أفراد عائلته). القادة الديمقراطيون لم يدركوا بعد ان ظاهرة ترامب لم تهبط من السماء، بل هي نتاج عجز النهج النيولبرالي في تلبية طموحات الأغلبية وانحيازها للطبقة الاوليغاركية، والقادة الديمقراطيون بهذا مثلهم بتعبير ماركس (مثل الاطباء في القرون الوسطى يعتقدون ان الحمى هي مرض وليس عرضاً لمرض عليهم معالجته). المفارقة الحزينة ان قادة الحزب الديمقراطي يتنصلون من مفردات برنامج الكتلة اليسارية في الحزب كمن يدفع عنه تهمة خطيرة، بينما تعلن فوكس نيوز (وهي مؤسسة اعلامية يمينية شديدة العداء لليسار) بأن برنامج اليسار يكتسب شعبية واسعة استناداً الى عدة استفتاءات، علماً ان مرشحي اليسار فازوا جميعاً عدا مرشح واحد.
برنامج اليسار ضمانة لأضعاف حركة اليمين الشعبوية، بما يتضمنه من برنامج تأمين صحي للجميع، زيادة في الأجور، توفير فرص التعليم والدراسات الجامعية للفقراء، توفير وظائف عمل عبر تجديد البنى التحتية و الشروع في برنامج الطاقة النظيفة والتخلص تدريجيا من الطاقة الملوثة للطبيعة، اطلاق برنامج لمعالجة الادمان على المخدرات و اصلاح قانون الجريمة وإنهاء خصخصة السجون وما يتخللها من فساد مالي، اصلاح النظام الضريبي لمكافحة تهرب الشركات الكبرى من دفع الضرائب، زيادة الضرائب على أصحاب المليارات وغير ذلك من البرامج التي تهدف الى اعادة توزيع الثروة بشكل عادل نسبياً.
عودة الوضع كما كان عليه مثلما يريد الحزب الديمقراطي، ستعيد ترامب أو شبيهاً له، مالم يتم الضغط من قبل جماهير ومنظمات الكتلة اليسارية على السلطة التنفيذية والتشريعية لتحقيق بعض أو جميع مفردات برنامج الانقاذ اليساري.