أصدر القضاء مؤخرا حكما غيابيا بالسجن سبع سنوات لمدير المصرف الزراعي السابق لقيامه بتبديد 600 مليار دينار من أموال المصرف المذكور، وقد جاء القرار عملا بالمادة 340 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، ولغرض إشعار القارئ بمدى استهانة القضاء بالمال العام نقول ان نص هذه المادة يشير الى الحكم بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة أحدث عمدا ضررا بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل بها أو يتصل بها بحكم وظيفته أو بأموال الأشخاص المعهود بها إليه.
والملاحظ أن كل الاحكام وفق هذه المادة يؤخذ بها دون غيرها من مواد القانون المذكور رغم خطورة الفعل أو الجرم المرتكب بحق الهيئة الاجتماعية وأموالها، ورغم كثرة هذه الافعال ورغم سلب أكثر من 500 مليار دولار من أموال الدولة في وضح النهار دون خوف أو وجل. والسؤال على سبيل المثال، لماذا يؤخذ لصالح الغير بحكم المادة 316، ومفادها يعاقب بالسجن كل موظف او مكلف بخدمة عامة استغل وظيفته فاستولى بغير حق على مال أو متاع او ورقة مثبة لحق أو غير ذلك مملوك للدولة أو لإحدى المؤسسات أو الهيئات التي تسهم الدولة في مالها بنصيب ما أو سهل ذلك لغيره وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على عشر سنين إذا كان المال أو المتاع أو الورقة أو غيره مملوكة لغير من ذكر في الفقرة المتقدمة. ويكون الحكم بالسجن عشر سنوات لصالح الغير في حين تكون عقوبة السجن وفق المادة 340 سبعة أعوام على مختلسي اموال الدولة. والسؤال الملح هنا أليس المملوك للغير يهمه هو وخاص به، والمملوك للدولة يهم الجميع. والسؤال الأهم لماذا تم استبعاد قراري مجلس قيادة الثورة المنحل المرقمين، 18 و120 المؤرخين في 10/2/1993 و 27/8/1994 وتم تشديد العقوبة المنصوص عليها في المادتين 315، و316 من قانون العقوبات إلى السجن المؤبد ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة إذا أدت الى تخريب اقتصادي، هل إفقار العراق وسرقة أمواله لا يعدان تخريبا اقتصاديا.؟
لقد تأكد للجميع أن الكثير ممن تولى الوظيفة العامة استمر في سرقة المال العام حتى في فترة الحرب مع داعش، أليست هذه خيانة عظمى للوطن حين تسرق أمواله التي يمكن بها تأمين مستلزمات الدفاع عنه، واليوم وبسبب الاختلاس المتراكم والمتواتر أصبحت الدولة عاجزة عن تسديد رواتب موظفيها أو حتى تلبية متطلبات مواجهة الجائحة، وأخيرا أعلنت وزارة التخطيط ان نسبة الفقر في العراق بلغت 31,7 في المائة، والحقيقة ان نسبة الفقر في المثنى تفوق ال 50في المائة وكذا الحال في ميسان او ذي قار، وغيرها من محافظات الوسط والجنوب. ألا يجد القضاء نفسه محرجا في أحكامه هذه التي لم تعد تتناسب وحجم الخطر الذي يواجهه العراق، ألا يجد القضاء نفسه مدانا امام نسبة البطالة المرتفعة والتي ناهزت ال 40في المائة نتيجة الاختلاس.
ان ما تقدمنا به مرده إلى عدم خشية المختلس من العقوبة لضآلتها، فبرغم ان المختلس سرق 600 مليار دينار على سبيل المثال، أي ما يعادل 500 مليون دولار وهي كافية لبناء 300 مدرسة حديثة بكامل حدائقها ومختبراتها، أو إقامة مزارع منتجة لآلاف الأطنان من المواد الغذائية، هذا المختلس يحكم غيابيا بسبعة أعوام، يا لرخص المال العام ويا لرخص الأحكام.
ان المنطق يقضي الأخذ بأشد العقوبات بعد ان أصبح الفساد يفوق حد الظاهرة وأن الأخذ بعقوبة السجن المؤبد أو حتى الإعدام يعد بمثابة الكابح المادي للجريمة والأخذ بمبدأ التشهير يعد بمثابة الكابح المعنوي.
نحن اليوم بحاجة الى تشريع مواد جديدة تضاف إلى قانون العقوبات النافذ او تعديل مواده بما يتناسب وأحجام وأشكال الضرر الواقع على الدولة واموالها، وأن مجلس النواب ووزارة العدل مطالب كل منهما الأخذ بما هو أشد من العقوبات الرادعة والعمل منذ التحقيقات الأولية بالتشهير بالمختلس وفضح جريمته، لأن مثل أولئك الأفراد باتوا أعداء المجتمع وأنهم يعدون مرتكبي جرائم لا تخل فقط بالشرف الشخصي وإنما هي جرائم تخل بالأمن الوطني، وهي أفعال بحاجة الى الاجتثاث من الجذور، كما وأن المجلس مطالب بعدم شمول مختلسي المال العام بأحكام قوانين العفو العام، وتضمين التعديلات على قانون العقوبات مواد تحرم انحراف القضاء باتجاه مطالب السياسيين والمسؤولين الحكوميين بتخفيف الأحكام او رد الدعاوي او أية أفعال ينتج عنها التشجيع على اختلاس المال العام.