سنتناول في سلسلة من المقالات بدءاً من هذا المقال التحديات التي تواجه بناء الدولة في العراق بعد تحولها من النظام الاستبدادي الى نظام جديد يفترض أنه قائم على مبادئ ديمقراطية وأحكامها، فأولى المقالات ستكون عن التحديات السياسية. تتمثل التحديات السياسية بعدد من الوقائع التي هي عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تبدو مترابطة وأخرجت بشكل سيئ لتكون بجملتها مشاكل متعددة لتتحول فيما بعد الى أزمة، والأزمة إذا لم تفكك ستتفاقم من دون شك، فقديما وصف ابن خلدون (1332 - 1406م) مؤسس الاجتماع العربي، الدولة بأنها الامتداد المكاني والزماني، لحكم عصبية ما. ويرى ابن خلدون أن الدولة لا توجد دون حكم سياسي، ولا يوجد حكم سياسي دون دولة، وبالتالي يرى أن الدولة والسياسة هم وجهان لعملة واحدة، وأن منشأ الدولة هو المجتمع، ووفقا لهذا يحدد ابن خلدون الدولة بعدد من المحددات، وقبل ان نبين أوجه التحديات السياسية التي تواجه الدولة، سوف نشير الى المحددات الخلدونية، وتتمثل بالآتي:

1. تنازع العصبيات او الهويات

في المنظور العربي ان الدولة تنشا عبر تنازع عدد من العصبيات، والمراد بالعصبية هنا النعرات،وتقوم “العصبية” على عدد من العناصر وهي: الدين أو الولاء، او القومية، أو الفكر المشترك أو ما إلى ذلك من مشتركات، تصلح انطلاقا لبناء الدول واستمراره، وبالعصبية القوية، يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها، ويكون قيامها وسقوطها أيضا. وبالتأكيد عندما حدد ابن خلدون العصبية بهذه العناصر كانت تركيبة وطبيعة وعدد السكان منسجمة ونشأة الدولة العربية والإسلامية في المراحل الأولى من ظهور الإسلام، اما في دولة اليوم فإن هذه العناصر لم تعد كافية لتضبط إداء وظيفتها بحكم التنوع والتعدد والحالة العصرانية التي يعيشها العالم من التكنولوجيا وما شابه من التداخلات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة اليوم في العالم العربي والإسلامي الذي لا يزال يعيش البدائية، ويعتمد على العصبيات الاثنية الدينية والعرقية فيحتاج الى ضبط هذه العصبيات.

2. السلطة

تشكل السلطة، إدارة نظام الحكم والقوة الماسكة بزمام السلطة التنفيذية الموكلة لها قيادة الدولة من خلال أدواتها الرسمية من جيش وشرطة، ومؤسسات أخرى تخص الجوانب الاقتصادية والمالية، وهذا المحدد اذا لم يكن مقيدا بالقوانين، ومراقبا من خلال سلطة تشريعية تعبر رغبات الشعب، وتمارس عملها بمهنية وطنية، فسيؤدي ذلك الى تداعيات تضر بالدولة والمجتمع، وقد تكون هناك مؤسسات رقابية لكنها شكلية، فهنا تكون السلطة إما دكتاتورية او سلطة لا تمتثل الى السلطات الرقابية، هذا من حيث السلطة التنفيذية، وقد تكون المشكلة في السلطات الأخرى كالسلطة التشريعية نفسها اذا ما أصيبت بعضال المحاصصة والفساد وازدواجية السلطة والمعارضةمما يجعلها عاجزة عن أداء عملها الرقابي لاسيما في الدول التي يغيب عنها القانون وتكثر فيها الولاءات وبالتالي تتحول المؤسسة التشريعية إلى عبئ على الدولة والمجتمع.

3. المجتمع

يقصد بالمجتمع هنا الوحدات الأفقية والعمودية السكانية بدءًا من الأسرة ومن ثم القبائل والقوميات والأعراق والملل التي تنصهر في هوية مشتركة تتمثل في هوية الدولة، وهذه الهويات المتنوعة المكونة للمجتمع تشكل جانبا طبيعيا في الدولة إذا كانت منصهرة تحت الهوية الوطنية الشاملة للهويات الأخرى، اذ تكون الهويات الفرعية هنا ثقافة وسلوكا خاصتين بالجماعة في إطار كينونتها الخاصة وخاضعة بالكامل الى ثقافة ومحددات الهوية الوطنية السياسية والقانونية والثقافية، وهنا تماثلات المجتمع في اغلب الدولة العربية والإسلامية التي لا تزال تعيش في اطار تقديم الهويات الخاصة على الهوية الوطنية العامة الشاملة. ومن تداعيات ذلك على المجال السياسي حيثتوظف وجودها من أجل المغانم السياسية، وقد يصل بها الحال الى حد الاحتراب بين الهويات الفرعية ذاتها، وهذا ما حصل في العراق في السنوات الأولى من سقوط النظام البعثي السابق، ولا يزال يعيش البلد هذا الهاجس بين الحين والأخر وفي بعض المناسبات كالمناسبات السياسية في أوقات الانتخابات أو في المناسبات الدينية.
ومما تقدم فإن للمحددات السياسية المتمثلة بالعصبيات او الهويات والسلطة والمجتمع دوراً كبيراً في بناء الدولة بعلاقة عكسية اذ ما اتسمت هذه المحددات بخاصية الاستقرار والتقيد بالقوانين وبفلسفة هوياتية جامعة، وبعقد اجتماعي وطني شامل وعصراني كلما كانت الدولة مستقرة، والعكس صحيح، من هنا فإن تصارع الهويات والعصبيات حسب جغرافية وزمانية ومناسبة تجمع الهويات البشرية تمثل عنصرا رئيسا يواجه بناء الدولة. ولا نبالغ إذا قلنا منذ تأسيس الدولة العراقية في بدايات العقد العشرين والى اليوم، كانت السلطة شمولية استبدادية وتحولها المفاجئ نحو الديمقراطية ذات الخصائص التعددية الفوضوية وبروز الهويات السياسية الطائفية في وجوه مجتمعية حزبية وقبليةتحديا سياسيا رئيسا أيضا، وبالتالي التحدي السياسي يكمله الجانب الاجتماعي ـــ السياسي، اذ ان السلطة في حالة التبعثر المجتمعي هي انعكاس للحالة المجتمعية في الظروف السياسية التي مر بها البلد.

عرض مقالات: