الحرية السياسية والديمقراطية قضيتان في غاية الأهمية ومصيرية بالنسبة للأمة الإيرانية، وإذا ما أخطأت أمتنا في فهمها وتحليلها، فإنها ستعاني الكثير من الضياع والآلام. في العام الماضي، عندما جرت مناقشات جادة حول هاتين الفئتين، برزت أخطاء كبيرة في فهمهما. أولئك الذين ينكرون الحرية السياسية ومعناها الحقيقي، الحرية الفكرية والطوعية والعملية للإنسان ومشاركته في تحديد مصيره الاجتماعي، ومسؤوليته عن قوانين الأخلاق، يعتقدون أن الديمقراطية هي عصيان على المبادئ الأخلاقية وتدنيس القيم الروحية ويطالبون بمقاضاة أنصارها، ويوجهون هجومهم صوب الديمقراطية. في المرحلة الحالية من التحول الثقافي، تمر أمتنا بمرحلة مصيرية، ولذا لا يمكننا ولا ينبغي لنا ببساطة تجاهل هذه الأخطاء والهجمات. إن الواجب الديني والوطني للكتّاب يقتضي منهم المشاركة في هذه النقاشات الجادة التي هزت أركان بلادنا، والشروع بنقد هذه الموضوعات وبحثها.

الادعاء الرئيسي لمعارضة المتدينين للديمقراطية هو أن الديمقراطية تعني الديمقراطية، والديمقراطية وحكم الشعب تعني إعطاء الأصالة لإرادة الإنسان مقابل إرادة الله ووضع القانون الإنساني في مواجهة قانون الله. وإن الديمقراطية تعير الاعتبار للإنسان وهذا لا ينسجم مع دعوة الإسلام الموجهة صوب الله. إن الديمقراطية تضع الإنسان في مقابل الله في الحالات التي يضع فيها الله قوانين محددة على الأقل. [1] هذا الادعاء مبني على مفاهيم خاطئة عن الديمقراطية:

1-السؤال الأساسي هو هل يجب على الإنسان أن يتبع القيم والقوانين الإلهية عند التشريع أم لا؟ إن ذلك مرتبط بفلسفة القانون وفلسفة الأخلاق، وليس بشكل وطريقة الحكم، أي بالديمقراطية كمثل على ذلك. الديموقراطية ليست فلسفة حقوق ولا فلسفة أخلاق، وبالتالي ليس لها صلاحية الإجابة على هذا السؤال، ولا يمكن لها أن تتعارض مع مبدأ أسبقية إرادة الله على إرادة الإنسان.

الديمقراطية في عالم اليوم هي شكل من أشكال الحكم في مقابل شكل الحكومات الديكتاتورية. هذا الشكل من الحكم يتضمن أنه في مجتمعات اليوم، حيث يعيش العديد من المجتمعات والمجموعات بمعتقدات وعلاقات ومصالح سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة، يشارك الجميع في انتخاب الحكام ويشرفون على مختلف وظائف الحكومة. وبهذه المشاركة المستمرة، يحتفظون دائماً بفرصة التمكن من الانتقال السلمي للسلطة السياسية من طرف إلى آخر. الديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم يحكم فيه الناس أنفسهم بقدر الإمكان، ويقررون مصير الحياة الاجتماعية. ما يميز الحكومة الديمقراطية عن أشكال الحكم الأخرى هو أن الحكومة الديمقراطية لا تستطيع سلب السلطة من مجتمع يتكون من مجموعات سكانية مختلفة، وإن الضامن الرئيسي لهذا الوضع هو التمسك الحكومة بقوانين تحفظ حرية المكونات في التعبير عن معتقداتها والآراء المتباينة في المجتمع.

 في الحكومات الديمقراطية، تكون جميع وسائل الدعاية والإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة ودور سينما ومسارح وما إلى ذلك تحت تصرف جميع المكونات والأحزاب، سواء المعارضة منها أو المؤيدة. حكومة ديمقراطية وليست حكومة أغلبية ولا حكومة أقلية، بل حكومة وظيفتها ضمان مصالح ورفاهية جميع المجموعات.

تتكيف الديمقراطية في مختلف البلدان، طبقاً للعادات والمعتقدات والفلسفات المحددة لكل قوم ولكل أمة، ولا تسعى إلى تغييرها ولا تريد فرض معتقدات أو عادات خاصة على المحكومين، وفي هذا الصدد فالديمقراطية هي النقيض التام للحكومات الديكتاتورية.

في المجتمعات التي تحكمها حكومة ديمقراطية، يتم ضمان وحدة المجتمع من خلال مبدأ الاحترام المتبادل لحملة المعتقدات والأفكار والآراء والمنابع المختلفة، وليس بوحدتهم في عقيدة ومصلحة معينة. في مجتمعات اليوم، حيث أصبح عدد الجماعات والسكان أمراً لا مفر منه من حيث المعتقدات والأفكار والمنابع. إن مبدأ الاحترام المتبادل هو المبدأ الوحيد الذي بإمكانه أن يبني وحدة اجتماعية سالمة، في حين أن الإصرار على هيمنة معتقد معين لا يؤدي إلاّ إلى دوامة القمع والتحول إلى حكومة ديكتاتورية. في المجتمعات الراهنة، في ظل الديمقراطية فقط يمكن رعاية جميع مواهب أفراد المجتمع من خلال إشراكهم في بناء حياتهم الاجتماعية. وعلى هذا الطريق فقط، يمكن تطوير العقل الجماعي الإبداعي ومواجهة مشاكل الحياة المعقدة اليوم والعمل بنجاح.

  1. في أية حكومة ديمقراطية، يتم القبول فقط بمبدأ الحرية والمساواة لجميع البشر دون استثناء وعلى أساس أنهم بشر. ولا تفضل الحكومة الديمقراطية، كحكومة، أي تفسير للعالم أو الإنسان أو المعتقد أو الدين على الآخر، ولا تعطي الأولوية لأي فلسفة على أخرى، لكن هذا ليس لأن الحكام والمحكومين يؤمنون بالنسبية المطلقة للمعرفة أو من أتباع المدرسة اللاأدرية، ولكن من وجهة نظرهم ليس من واجب الحكومة التدخل في هذه الأمور وأن مهمة هذه الأمور يحددها الفلاسفة وليس الحكام.، وإن الخوض في هذه الأمور لا يؤدي إلاّ إلى إثارة النزاع والخصام ونتيجة ذلك الديكتاتورية. في ظل حكومة ديمقراطية، يتم استخدام هذين المبدأين المشار إليهما أعلاه لتحديد كيفية ارتباط البشر بعضهم ببعض في الحياة الدنيوية وشكل الحكومة، وليس تحديد المساواة بين البشر فيما يتعلق بالسعادة الأخروية وإعلان الانتهاك غير الفعال لإرادة الله وفي خلاصه النهائي وإنكار الله وإنسانية الإنسان. ويرتبط مبدأ المساواة والحرية في الأنظمة الديمقراطية اليوم بالحكمة العملية ويتحددان فقط عبر العلاقات الاجتماعية للبشر بعضهم مع البعض. هذه ليست حكمة نظرية، ولن تحل محل الأنثروبولوجيا الدينية أو الفلسفية، ولن تحدد مكانة الإنسان في نظام الوجود.

لذلك، في النظام الديمقراطي، فلجميع أصحاب المعتقدات والفلسفات وأتباع جميع الأديان الحق في الحياة والنمو والتطور والتمسك بمعتقداتهم وقيمهم وقوانينهم. وفي ظل العديد من الديمقراطيات، يعيش اليوم ملايين الناس، من الذين يؤمنون بالشرعية الفريدة لدينهم مع أتباع الديانات الأخرى، دون أن تمنعهم معتقداتهم الدينية من التعايش السلمي مع أتباع الديانات الأخرى الذين لا يعتبرونهم مؤهلين للخلاص في الدنيا الآخرة. الديمقراطية أسلوب حياة في هذا العالم وليست معياراً للحكم على البشر في الدنيا الآخرة. صحيح أن تشريعات مثل هذه الحكومة تتبع آراء ومعتقدات الشعب، ولكن المشرعين لا يعتقدون بأن "إرادة الشعب في التشريع لها الأسبقية على إرادة الله".

إن مثل هذه القضية هي في الواقع مجرد قضية فلسفية، ولا يمكن اعتبارها من قبل المشرعين في هذه الحكومة كمصدر تشريع. إن مشكلتهم الوحيدة هي أن لا يسن القانون ضد إرادة الشعب، وإذا كانت إرادة الشعب هي طاعة القوانين الإلهية، فإن المشرعين في حكومة ديمقراطية يراعون مزاج الشعب. وبالطبع، إن تشريعات النظام الديمقراطي تراعي مبدأين، المبدأ الأول هو أن القوانين لا تخلق أو تحافظ على هيمنة فئة ومجموعة وطبقة على فئة ومجموعة وطبقة أخرى، وجنس على جنس آخر وعرق على عرق آخر وما إلى ذلك. المبدأ الثاني هو أن قوانين الخير والمنفعة والرفاه الروحي والمادي لصالح الجميع وليست لمصلحة الأغلبية أو مصلحة طبقة وجماعة معينة. ومن هذا المنظور، تعني الديمقراطية شكلا من أشكال الحكم وميار للحياة العامة الدنيوية (بغض النظر عن الوضع الدنيوي للناس)، بمعنى أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق ولا يوجد مواطن رقم واحد أو رقم اثنين. وفي الحكومة الديمقراطية، تتم العملية التشريعية في ضوء الالتزام بالمبادئ المذكورة أعلاه، ومن ثم تحدد مهمة كل قانون بأصوات غالبية المشرعين الذين يمثلون غالبية الشعب.

وهنا، يطرح السؤال الجاد وهو، إذا كان مواطنو المجتمع المسلم يعيرون أهمية لقوانين الله، فكيف سيتم التعامل مع إرادة الناس ومطلبهم في مسألة التشريع؟ وهل هناك من طريق أمام المشرعين غير أن هؤلاء الناس سيطلبون من الحكام الالتزام بقوانينهم؟ وهل سيكون أمام المشرعين المنتخبين من طريق سوى الاستجابة لإرادة الناخبين الذين انتخبوهم؟ وعندها، والنتيجة العملية، سوف لا يكون هناك أي طريق سوى التشبث بقوانين الله؟ هؤلاء الناس في نظام ديمقراطي أي خيار لهم سوى اتباع إرادة الشعب؟ هل ستكون النتيجة العملية غير إطاعة قوانين الله؟ ويجب أن نضيف أنه في حكومة إسلامية ديمقراطية، فإن المشرعين الذين ينتخبهم الشعب يؤمنون عادة بقوانين الله، ولهذا السبب، فإن ضمان طاعة الشرائع الإلهية سيزداد.

في الحقيقة أنه إذا أصبح للمسلمين حكومة ديمقراطية، ويتم التخلي عن شريعة الله وسيكون تقديم إرادة الإنسان على إرادة الله أمراً غير مقبول لأي سبب وبأي حساب. عندها ما ذا سيكون مصير الديمقراطية؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ولد المفكّر محمّد مجتهد شبستري سنة 1936 في شبستر بإيران. درس الفقه والتصوف والفلسفة في مدينة قمّ، وكان يجد في نفسه عزوفًا عن العلوم التشريعيّة مقابل الرغبة في الانصراف إلى رحاب الفلسفة والتصوف وكانت البداية تحت تأثير أستاذين مهمّين في تكوين شبستري العلمي وهما الطباطبائي الفيلسوف، والإمام الخميني قائد الثورة الإيرانيّة مؤسّس الجمهوريّة الإسلاميّة بإيران، وظلّ في الحوزة العلميّة لمدّة سبعة عشر عاما وهو متحصّل على درجة الدكتوراه في الفلسفة. وكان فكره أكثر ارتباطا بجلال آل أحمد وعلي شريعتي ومرتضى مطهري. قضى فترة بألمانيا انطلاقا من سنة 1970 شغل فيها خطّة مدير للمركز الإسلامي الشيعي بمسجد الإمام علي بهامبورغ، وتمكّن في هذه الفترة من الاطلاع على كتابات عديد اللاهوتيين المسيحيّين أمثال بول تليش وكارل بارث وكارل رانر فضلا عن فلسفة إيمانوال كانط ودلتاي وغادامير. وبعودته إلى إيران سنة 1979 اختير ليشغل منصب عضو في أوّل برلمان إيراني (مجلس الشورى الإيراني) ولكنّ بعد الثورة عزفت نفسه عن النشاط السياسي، فنأى عنه لينخرط في سلك التدريس أستاذًا للفلسفة الإسلاميّة بجامعة طهران من سنة 1985 حتّى سنة 2006، حيث درّس علم اللاهوت والأديان المقارنة وكان له إسهام في عقد الكثير من المؤتمرات والندوات العلميّة الدوليّة في موضوع الحوار المسيحي-الإسلامي. إضافة إلى كونه واحدا من المشاركين في تحرير الموسوعة الكبرى للإسلام التي نشرت أجزاء منها في طهران وقد أشرف فيها على قسم أصول الدين.

وتأتي شهرة شبستري من حرصه على توظيف التأويليّة أو الهرمينوطيقا في تناول مواضيع كلامية وفقهية، بالإضافة إلى أفكاره ومواقفه تجاه الفرديّة وحقوق الإنسان والديمقراطيّة التي مازالت تجد صداها وأثرها في أوساط كثير من المفكرين المسلمين الذين يبحثون عن صيغ تشريعيّة إسلاميّة تتلاءم وروح العصر. وهو يرى أنّ الدين علاقة بين الإنسان وربّه ولا يمكن أن يكون برنامجا سياسيّاً. ويبدو أنّ مجمل أفكاره الإصلاحيّة كانت سببا في منعه من مزاولة نشاطه العلمي بجامعة طهران وكثرة الضغوط الممارسة عليه إبّان وصول محمود أحمدي نجاد إلى السلطة.

عرض مقالات: