قلبت انتفاضة تشرين الطاولات على رؤوس سلاطين الفساد، المسترخين تحت مظلات المحاصصة الطائفية منذ سقوط الدكتاتورية، وأوقعت الجميع في مأزق مواجهة الشعب المنتفض على واقعه المأساوي المرير، بعد فقدان الثقة بأهلية أحزاب السلطة لقيادته نحو الافضل.
أن مطالب المنتفضين واضحة منذ اليوم الأول للانتفاضة، وهي بجوهرها (كشف حساب) لأداء المسؤولين، بفتح ملفات الفساد الكبرى، التي دفع الشعب ضرائبها أنهاراً من الدماء، وخسر بسببها ثرواته وآماله بالحياة الكريمة التي يستحقها.
حين أدركت القوى الفاعلة في السلطة مبكراً، خطورة النتائج التي تترتب عليها تلبية المطالب، استنفرت امكاناتها الذاتية بالتنسيق مع السلطة، لتكون المواجهة بأسلوبين، الأول سياسي رسمي (ناعم) عبر وسائل الاعلام، والثاني خشن (وحشي) في الشارع، لتحقيق هدف احتواء الانتفاضة، فكان القنص والاختطاف والقتل المباشر، مثلث عار (وانتحار) للحكومة السابقة سياسياً وأخلاقياً أمام الشعب، وأمام العالم بأسره، أسقطها ووضعها في قفص الاتهام، وفق كل القوانين والدساتير.
لقد منحت الانتفاضة الحكومة البديلة فرصة ذهبية لتأكيد الثقة، من دون نتائج ملموسة الى الآن، بسبب تركيز أطراف السلطة على ملف الانتخابات، الذي يتلاعب به البرلمان وفق سيناريو مرسوم بالاتفاق، لتحديد تواريخ الجلسات والتحكم بالنصاب، وكأن الانتخابات هي المطلب الاساس والوحيد للانتفاضة، باختصار مفضوح لا يمكن أن يحقق للسلطة ما تريده في اعادة الاوضاع الى نصابها.
الفصول المتتالية من جرائم القتل الوحشي ضد المتظاهرين، الموثقة بالصوت والصورة، وبالتفاصيل والتواريخ والمواقع، المثبتة بالثواني والدقائق والساعات، ترتب على الحكومة استحقاق أساس يتقدم على الانتخابات، وعلى كل المطالب الاخرى، هو الانجاز السريع لملف (قتلة المتظاهرين)، وتقديم المسؤولين عن جرائم الدم الى قضاء عادل ومسؤول، وفق سياقات معلنه في التحقيق والمتابعة والتنفيذ، وحسب الأصول القانونية والدستورية، قبل اجراء الانتخابات.
ان سيناريو اجراء الانتخابات قبل الاعلان عن نتائج التحقيق في ملف (قتلة) المتظاهرين، هو قفز خطير فوق مطالب المنتفضين وعوائل الشهداء والمخطوفين، تتحمل مسؤوليته ونتائجه الكارثية السلطات الثلاث، وقادة الخطاب المعادي لانتفاضة تشرين الوطنية، وهو تسويف وتعطيل لا يتوافق مع الخطاب الاعلامي والسياسي للحكومة الحالية، وقد يتسبب في مقاطعة واسعة للانتخابات تفقدها الشرعية، وتفتح أبواب الجحيم على الجميع.
الفاسدون وأسيادهم وذيولهم يعرفون تماماً كرم العراقيين وطيبتهم وصبرهم، مثلما يعرفون تقديس العراقيين لدماء شهدائهم، والمعرفة تلزم اصحابها بالحذر من نتائج طيشهم...!.