في العقود الأخيرة، من تأريخ العراق السياسي والثقافي، ظلت وللأسف أعداد من المثقفين العراقيين، وتحت مبررات عديدة، تدور مواقفها في المنطقة الرمادية، منطقة اللاموقف. ففي زمن العسف البعثي العفلقي، وحروبه الكارثية الداخلية والخارجية، ارتضت جمهرة من المثقفين، بدور المتفرج بدون موقف واضح مما يجري من جرائم بحق الشعب والوطن، وبعد سقوط النظام على يد قوى الاحتلال الأمريكي، راح بعضهم، وبدلا من الاعتذار من الشعب والتكفير عن دور المتفرج، يجترون تبريرات كونهم (مجرد موظفين في الدولة)، وتبعا لهذا بدا لنا حتى الديكتاتور المجرم صدام حسين مجرد موظف في القصر الجمهوري!!
وتكرر السيناريو المؤسف مع اندلاع انتفاضة تشرين2019، ففي الوقت الذي واجه شباب الانتفاضة، رصاص (الطرف الثالث) بصدورهم العارية، ثائرين من اجل التغيير والخروج من دوامة فساد أحزاب الإسلام السياسي، التي نصبها الاحتلال الأمريكي وريثة للخراب الذي خلفه نظام صدام حسين لتزيده خرابا، راحت جمهرة من المثقفين تكرر وقوفها في المنطقة الرمادية، متناسين ان الحياد في المنعطفات التاريخية يعتبر صنفا من الخيانة، فالواجب التاريخي يفرض ان يكون المثقف الحقيقي صوتا متقدما لأبناء شعبه، يصطف الى جانب الثوار في سعيهم للتغير لأجل عراق مدني ديمقراطي .ففي ظل ما عاناه شعبنا، من قهر واذلال، في سنوات النظام الديكتاتوري البعثي، وسنوات الاحتلال الامريكي، وثم حكومات المحاصصة الطائفية والاثنية، تناسى هذا الصنف من المثقفين، القانع بعضهم بفتات الأنظمة الحاكمة، أن على المثقف الحقيقي ان يحدد خياره بوضوح، فإما الاصطفاف مع الشعب ومطالبه المشروعة بحياة حرة كريمة، وإما الاصطفاف مع الحاكم الظالم المتستر بعباءة الفكر القومي الشوفيني البعثية، او عباءة الدين الطائفي وميلشياته.
وامام كل ما تقدم، والواقع المؤسف والمعاش، إذ نجد اعدادا ليست قليلة من المثقفين، لا تزال بدون موقف واضح، فمن الصعب الحديث عن تيار ثقافة وطنية مقاوم مواز لوقائع الانتفاضة، وتبقى نشاطات بعض المثقفين ممن اصطفوا الى جانب الانتفاضة والمؤمنين بها والمطالبين بالتغيير، من خلال كتابة نصوص، او إصدار كتب، واعمال فنية من رسم أو موسيقى، ما هي إلا مجرد جهود فردية، تظل بعيدة عن التأثير الجماهيري المطلوب والكافي لخلق وعي متقدم لنشر ثقافة المواطنة والانتماء الى الوطن بعيدا عن الانتماءات الفرعية، الحزبية والعشائرية والطائفية والاثنية. فلا يزال الكثير من المثقفين للأسف لم يحسموا موقفهم، بالاصطفاف الى جانب أبناء شعبهم، وتكريس ابداعهم في الكتابة والرسم والموسيقى لأجل تغيير المزاج الشعبي العام، وإذكاء الروح الثورية لدى أبناء الشعب وديمومتها بشكل حضاري، للمساهمة في الانتفاضة السلمية ودعمها لأجل التغيير وبناء عراق جديد. وأعتقد لم يفت الأوان بعد أمام الكثيرين منهم ليراجعوا مواقفهم، فانتفاضة الشعب من أجل التغيير مستمرة، فأسباب اندلاعها لا تزال موجودة، ونقمة الشباب مستمرة، تحتاج لمن يسندها ويدعمها ويشذبها بعيدا عن العدمية التي تخلط الأخضر باليابس، لتفرز الانتفاضة قياداتها الكفؤة وللمساهمة في تحديد وتجذير المطالب المشروعة لأجل التغيير المنشود. وتبرز الآن، ومن بعد مرور عام على اندلاع انتفاضة تشرين، التي خمد لهيبها قليلا لأسباب متعددة، منها جائحة الكورونا، أهمية ان يكون المثقف العراقي، وفيا لتأريخ مفعم بالمواقف الثورية والوطنية لأجيال المثقفين من رواد الثقافة العراقية وصانعي مجدها، الذين اصطفوا الى جانب الشعب في منعطفات مهمة، في وثبة كانون 1948، وثبة تشرين 1956 وثورة تموز 1958 والمثقفين الرافضين لسياسة نظام البعث الصدامي ممن ارتضوا حياة المنفى أو التحقوا بصفوف المقاومة المسلحة في جبال كردستان.
ان الفرصة متاحة أمام الكثير من المثقفين لينهوا ترددهم والخروج من المنطقة الرمادية وإعلان موقفهم الصحيح والواضح، فخير الأمور بخواتيمها.
15.10.2020 هلسنكي
* ضمن ملف خاص لموقع (كتابات) ردا على سؤال محررة القسم الثقافي السيدة سماح عادل: هل يوجد تيار ثقافة وطنية مقاوم مواز لوقائع الانتفاضة؟