إرهاب الغرب يشهر به اثنان من أبرز المثقفين العالميين في كتاب .. مؤلفاه نعوم تشومسكي، المعروف كمثقف مناضل ضد الامبريالية والصهيونية، وأندريه فولتشيك المناضل الأممي، الذي جال في معظم أقطار المعمورة يصور ويتقصى الحقيقة عما حدث ويحدث في زوايا مجهولة، وهو فيلسوف ومخرج سينمائي وصحفي.  يكتب مقدمة الكتاب البروفيسور ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي بجامعة برينستون، ومفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الفلسطيني سابقا. وجاء في المقدمة: في الآونة الأخيرة طالعت كتاب “إرهاب الغرب: من هيروشيما الى حروب الطائرات المسيرة”، الصادر عام 2013 عن دار نشر بلوتو في لندن. الكتاب عبارة عن سلسلة حوارات جرت بين تشومسكيوفولتشيك المولود في تشيكيا، واكتسب المواطنة الأميركية. يصف فولتشيك  صداقته الطويلة والوثيقة بتشومسكي، ويشرح ان هذه الحوارات الممتعة جرت خلال يومين وتم تصويرها سينمائيا بهدف تقديم وثيقة.

حساسية أخلاقية

ولّد الكتاب لدي الإحساس كم من أحداث ضخمة جرت في مجالات خلف حدود وعينا أُغفلت ولم نشعر بها حتى نحن الذين نحاول أن نكون تقدميين ومطلعين. يشير الكتاب الى اننا جميعا تقريبا نجهل مظالم كبيرة وقعت لأنها تلقى اهتماما باهتا من الميديا الرئيسة، ولان قدرتنا محدودة للغاية على الوصول الى مصادر بديلة، وربما ايضا محدودية قدرة معظمنا على مقاربة المظالم الفادحة. وعلى كل، يتمثل شطر مما هو مثير في هذا العرض لمسلسل الاهتمامات التي تشد تشومسكيوفولتشيك في مستوى رفيع للشمولية التي تبدو عليها الحساسية الأخلاقية دون ان تبدو شيئا مفتعلا. كيف يجدان الوقت والمثابرة والطاقة؟ بالطبع يساعد هذا في الإشادة بالذكاء الوقاد وطهارة الروح وموهبة التذكر المذهلة، وما يبدو رفض النوم واخذ الراحة أو الاسترخاء (وهذه من جملة السجايا التي وجدتها منذ زمن بعيد في كتابات تشومسكي عن فيتنام، ولدى بدايات اطلاعي على فكره السياسي، والفضل في ذلك لمقاربته اللغوية الثورية).

وإذا بدا فولتشيك على قدم المساواة خلال حواراته مع تشومسكي في النص، فإنه اقر بإعجابه وتقديره لهذا المثقف الأميركي الأيقوني غير العادي الذي استمر في الخطوط الأمامية للنقاش النقدي العالمي خلال نصف القرن الماضي. وبكلمات فالتشيك:” كنا نكافح لأجل نفس القضية، من أجل حق تقرير المصير والحرية الحقيقية لجميع شعوب الكرة الأرضية. وكنا نكافح ضد الكولونيالية والفاشية، على أي مظهر تجلت... بالنسبة لتشومسكي مكافحة الظلم تبدو أمرا طبيعيا مثل التنفس. وبالنسبة لي غدا العمل معه شرفا عظيما ومغامرة عظيمة في آن”.

يؤمن فولتشيك ان خطوط الإلهام تحت صورة العالم الإنجليزي العظيم الناشط ، برتراند راسل، المعلقة على جدار مكتب تشومسكي بالجامعة، تصف أيضا حوافز تشومسكيللسمو:”حياتي محكومة بثلاث عواطف، بسيطة لكنها قوية مسيطرة:التوق للمحبة، البحث عن المعرفة، وشفقة لا تُحتمل على معاناة البشرية”.

يشارك فولتشيكتشومسكي رؤية تفسر العالم على قاعدة عميقة من الإدانات الأخلاقية والسياسية العميقة موجهة لامبريالية الغرب. بوضوح يعبر فولتشيك عن هذا الإدراك المشترك:”بعد الاطلاع على صراعات شرسة عديدة وتحليلها، صرت على قناعة أنها جميعا جرت بتوجيه وإشراف المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لدول الغرب أو بتدخلها المباشر”. عبّر فولتشيك عن أبعاد الاتهامات وخطورتها:”إضافة لحوالي 55 مليون إنسان قتلوا كنتيجة مباشرة للحروب التي بادر بها الغرب، والانقلابات وغيرها من النزاعات الموعز بها من الغرب، مات مئات الملايين بصورة غير مباشرة في إملاق مطلق، وانتهوا بصمت”. يوافقهتشومسكي متسائلا ما هي الجريمة الأسوأ التي تعزى للغرب، موردا كأحد البدائل 80-100 مليون إنسان من الشعوب الأصلية التي سكنت نصف الكرة الغربي قبل أن يصلها المستوطنون الأوروبيون. ولدى التأمل يحول الاتجاه حالا بإيراد الملاحظة: “نحن نتحرك باتجاه ما قد يكون في الحقيقة جريمة الإبادة النهائية- تدمير البيئة”...

مجرمون خلف أقنعة واقية

تشومسكي يعود مرارا وبإقناع لأولئك الضحايا باعتبارهم “ليسوا بشرا”، أولئك القاطنون في مناطق غير غربية، والذين يندر تسجيل هلاكهم ومعاناتهم في الضمير الغربي، ما لم تتوفر أسباب جيوسياسية في سياق خاص يتناول بجدية معاناة الشعوب غير الغربية. الكاتبان ينظران لتلك المآسي التراجيدية على انها حصيلة جشع الشركات الكبرى المعولمة، والنضال من أجل إحكام السيطرة على المصادر الطبيعية الهائلة في إفريقيا يقود الهيئات التنفيذية لتلك الشركات الخاصة لتمويل العصابات والميليشيات كي تشعل الحروب وتشرع بالقتل. يختبئ المجرمون الحقيقيون خلف أقنعة واقية كي يبقوا بمنأى عن الجمهور. وتتواطأ الميديا من خلال الاقتصار على إيراد ما يبرز للعيان، متجنبة صحافة التقصي النقدية.

يساعدنا تشومسكيوفولتشيك على التحقق من أن منظومة من القوى العاتية تسخر ثرواتها ونفوذها لمنعنا من أن نرى الوقائع. يُسمح لنا فقط بنظرة بقدر ما يود حراس العقل الجماعي إشهاره. ومع هذا محظور علينا استخدام مهاراتنا للاطلاع. إن قراءة كتابات تشومسكيوفولتشيك تزيل عن عيوننا العصائب، مؤقتا على الأقل، وذلك بنجاحهما في مراوغة الحراس، لكن بمجازفة خطرة وإظهار شجاعة أخلاقية ومسؤولية مدنية وطاقة ذهنية استثنائية...

بدون الخوض في عالم “الاستشراق” حملت الحوارات حساسية تجاه ما دعاه تشومسكي “الكولونيالية الفكرية والأخلاقية”، تلك التي تعزز أنماط “الكولونيالية السياسية والاقتصادية”. في هذا المجال يمضي حتى ملاحظة ان “الإنجاز الرئيس للطغيان حمل من اعتُبروا ‘ليسوا بشرا’ على الموافقة أن ذلك امر طبيعي”. يعني إشاعة إغراء السلبية والاستقالة في أوساط ضحايا الاضطهاد. يتعمدون تحييد الوعي الأخلاقي لمن ينفذون الجرائم . وعندما يتساءل تشومسكي هل لدى الأوروبيين “أدنى وعي بتاريخ الكولونيالية” يرد فولتشيك: “كلا، الوعي ضئيل بما يثير الغثيان”، ويضيف ان هذا الجهل “مخجل وفاضح”: “الأوروبيون يؤكدون انهم يظلون على جهلهم بجرائمهم المريعة، وبجرائم إبادة الجنس التي اقترفوها وما زالوا متورطين فيها. فماذا يعرفون عما كانت تفعله حكوماتهم وشركاتهم وما زالت تفعله في الكونغو الديمقراطية؟”...

اتفق المتحاوران على أن أكثر التحركات السياسية المشجعة في العالم جرت في أميركا اللاتينية. جرت تجارب سياسية، كما في بوليفيا وفنزويلا، عبرت عن طاقات الشعبية الاشتراكية في إطار السمات الإقليمية والوطنية الأصلية، وهناك منظومة مشجعة من التحركات لتسفيه المعالم الرئيسة للاعتماد على الولايات المتحدة، حيث سبب الكساح لتلك البلدان. تشومسكيوفولتشيك ، كلاهما يشيران الى أن الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية وآسيا دعمت قوى سياسية استبدادية متوحشة لكي تحافظ على المصالح الجشعة للشركات الأميركية الكبرى المتمثلة في ما أطلق عليه حسب التعبير الأكثر شعبية إدامة ‘جمهوريات الموز’. والفكرة السائدة في الكتاب أن الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، التي ساعدت الولايات المتحدة في فرضها والحفاظ عليها خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، أشد قسوة بكثير، من حيث اضطهاد الجمهور ونهب الموارد، من الحكومات الستالينية التي سيطرت على أوروبا الشرقية خلال عقود الحرب الباردة...

ولا يكف تشومسكيوفولتشيك عن إيلاء أهمية عظيمة لمجزرة اندونيسيا المنسية عام 1965، حيث أبيد أكثر من مليون إنسان في حمام دم جماعي صمم لتمهيد الطريق لاستيلاء الليبرالية الجديدة على ثروات البلاد، مصدر قدراتها. حكومتا الولايات المتحدة واستراليا لطختا أيديهما من خلال التشجيع على الأعمال الشرسة، وما تلاها من أحداث إبادة جنس في تيمور الشرقية.

الاحتفاظ بالأمل

هذا العرض يكشف عن تلك الحوارات المتبصرة. ومن التضليل الافتراض أن هذين الشارحين التقدميين للعالم بأجمعه متفقان تماما. تشومسكي يبدو الى حد ما أكثر ترددا من فولتشيك إزاء التطورات في تركيا أو في كتابة نعي الربيع العربي؛ فولتشيك أقل دقة حيال تباين الظلال في بعض تعليقاته. تشومسكي يرحب بالإصلاحات والاتجاهات الإيجابية؛ اما فولتشيك فيؤمن بأن إحداث تبدلات كافية لأن تجلب الأمل للشعوب المضطهدة لا يتحقق الا بتغيرات بنيوية. وبنفس المزاج يبدو تشومسكي أكثر اقتناعا مما كان عليه في الماضي بأن الاحتفاظ بالأمل واجب يعبر عن التضامن مع المقهورين. وتشومسكي اكثر وضوحا من اي وقت مضى في الاعتقاد انه بدون الإيمان بإمكانية التغير الإيجابي لن يتعاظم التحدي للأمر الواقع الذي لا يحتمل...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع حزب الشعب الفلسطيني – 8 تشرين الأول 2020 (مقتطفات)

عرض مقالات: