انتفاضة الشعب العراقي التي انبثقت في الأول من تشرين أول 2019 ليشتد أوارها في 25 منه، جاءت تتويجاً لإرهاصات الأحرار منذ 2011 لينضج عنفوانها في أكتوبر الخالد، وأعطت دروساً عن ملاحم البطولة والفداء والثبات على المواقف والإصرار على إنتزاع الحقوق من مخالب اللصوص والفاسدين والمتآمرين.
لقد أضفت انتفاضة تشرين الخالدة طابعاً مميزاً على الحراك الجماهيري الشعبي بمستوى تأريخ كل شعوب العالم وحتى على مديات حاضرها. وستذكر الأجيال المتعاقبة مأثرة الشعب العراقي وهو يخوض النضال في سبيل أهدافه بالتغيير والإصلاح سلمياً، لكن الثمن كان ويبقى باهضاً جداً وهو دماء شهدائه الأحرار، كما ان النار الحارقة لم تصل الى الطبقة الحاكمة الخبيثة بعد.
صور فداء فريدة
لقد عكس العراقيون المنتفضون بمختلف شرائحهم وألوانهم صوراً حيّرت عقول المتابعين والمحللين السياسيين والاجتماعيين في جوانب التحدي والإصرار واسترخاص الأرواح والأجساد، بالرغم من الأساليب اللاأخلاقية واللاإنسانية التي واجهتهم بها الطغمة الحاكمة الفاسدة. وقد خرج العراقيون الى شوارع وأزقة وساحات الصمود والتحرير على وفق إجماع وطني يدل على المعاناة من الجور والظلم الجماعي، الذي طال كل أطياف الشعب على أيدي طلاب المناصب والجاه والنفوذ والمال. ولم تبق شريحة أو فئة أو طبقة من طبقات المجتمع العراقي، ألاّ ونالها الجور والتهميش والإقصاء والتغييب والتخريب بسبب السياسة المحاصصاتية الآثمة.
وسيّرت الجموع مسيراتها كجزء من فعالياتها الميدانية بعد ان نصبت خيمها وسرادقاتها ومنابرها. فتعددت الخيم بأسمائها وعناوينها كرسالة من أرض الواقع العراقي الى الحكام الجائرين، وليقولوا لهم: “كلنا نعاني ..نريد وطن”.
ودخل العراقيون معركة غير متكافئة من ناحية السلاح، فسلاح الشعب حنجرته والأعلام الوطنية ورايات السلام، أما الطغاة فكانوا مدججين بالسلاح وبمختلف أدوات القتل الفردي والجماعي وبوسائل الإعلام الخبيثة.
دخل العراقيون معركة بترجيح كفة الانتصار لهم، فقد ثاروا من أجل استرداد الوطن وما خاب من ناضل من اجل وطنه، وما من شعب ذاق الويلات والظلم وثار الاّ وانتصر.
منتسبو قطاع الطب والصحة
ومثل حال أي شريحة أو فئة فاض بها الشعور بالظلم فخرجت “تريد وطن”، خرج منتسبو القطاع الطبي والصحي وهم يحملون ثلاثة مزايا مهمة :
الأولى – كونهم شريحة تعاني من جَور نظام سياسي فاسد، بني على التحاصص والتخريب والتراجع بكل القيم والبديهيات، شريحة معاناتها متعددة الأوجه والأشكال(سنتناولها لاحقاً) ولكن يبدو ان سببها الجوهري يكمن في الفساد والمحسوبية والمنسوبية ووضع الرجل الجاهل في المكان الذي لم يكن يحلم به.
الثانية – الدوافع الوطنية .. فلا يمكن لأي وطني غيور أن يقف مكتوف الأيدي، خصوصاً وإن الانتفاضة اندلعت من أجل استعادة الوطن.
الثالثة – نصب خيم الطبابة في أرض المعركة .. في الميدان .. في أرض الوغى التي أراد العدو ان يحيلها الى مسرح لذبح الاحرار، أرادوا أن يكون الثوار سبايكر الثانية دون أن يعلم هؤلاء الطغاة أن مصيرهم معلوم. اذن هي معركة وقد استعد العدو (الحكومي ومليشيات المرتزقة) المجرم لها ايما استعداد. والمعركة تعني شهداء وجرحى وإصابات اختناق .. فتصدى الثوار الأحرار من القطاع الطبي والصحي وانبروا من أجل تنفيذ مهماتهم الميدانية الوطنية الكبرى، المتمثلة في إخلاء الشهداء والجرحى الأحرار الذين عانوا من الاختناقات مختلفة الدرجات.
لقد ابلى ثوار القطاع الطبي بلاءً حسناً في الإسعافات الأولية للجرحى والمصابين، وذلك بتوفير أدوات الطوارئ ومنقذات الحياة كالبخاخات والكمامات والحبوب والعلاجات لمختلف الاستعمالات وضمادات ومعقمات ومضادات سيلان الدموع .
وكانت الصورة الاجمل في كل ذلك ان الخيمة الطبية الوحيدة في الأيام القليلة الأولى من عمر الانتفاضة، انشطرت وتعددت لتصبح خيما طبية ومفارز بعد ان التحق بها ثوار واحرار ابرار من مختلف الاختصاصات، فتوافد الطبيب والصيدلي والمعاون الطبي والتمريضي والممرض الجامعي والممرضة والمسعفة وتلك المختصة في مجال الطواري، فضلاً عن طلاب كليات الطب والأطباء الخريجين الذين لم يتم تعيينهم.
صور تجسد وحدة الشعب
لقد بدت الإنتفاضة الجبارة في أروع صور التنظيم وتقسيم المهام النضالية من ناحية العدّة والعدد وتوزيع الواجبات الميدانية وحتى من ناحية الوقت، فهناك الهتافونومرددوا الشعارات والأهزوجات وهناك رافعوا الرايات، هناك التكتك وسائقوها الشجعان الذين عكسوا أروع صور البطولة والإقدام والتضحية، فمرة كانوا ناقلين للمنتفضين ومرة كانوا سيارات إسعاف سريعة زاهية الألوان بسيطة التصميم والمعدات يخلون الجرحى والشهداء. وهناك كراديس الأرزاق الميدانية من ماء وطعام، وهناك الذين يعدون الطعام وهناك الخبازات والخبازين .. وهناك اللاتي تطوعن لغسل ملابس الشبان الثوار الاحرار، وهناك من اتخذ الزوايا يجمع المفقودات ليسلمها لأصحابها. كل هذه الصور والمشاهد انما تعبر عن وحدة الشعب ضد المحاصصة والفساد والنظام الفاشل..ايكومونة عظيمة خلق العراقيون ؟!
وللمفارز الشيوعية دورها
ولم يقتصر عمل الطبابة التشرينية الباسلة على تقديم الإسعافات الميدانية بل تعدى ذلك الى القاء المحاضرات وتقديم التوجيهات المباشرة للأحرار في سوح الإحتجاج في كيفية التعامل مع القنابل المسيلة الخانقة وفي كيفية التعامل مع الجروح النازفة (وكلها نازفة) ومع الكسور.
وإن الإنصاف والحق للتأريخ يدفعان المتابع والمؤرخ والمدوّن الى قول الحقيقة وذكر الخيم والمفارز الطبية الشيوعية، التي هرعت منذ اليوم الأول الى تثبيت اوتادها تحت نصب الحرية في قلب الساحة الثائرة. فكان الأطباء الشيوعيون ومعهم الكادر الشيوعي التمريضي والمسعفات والمسعفين، يتناوبون في تواجدهم بين المفارز ويؤدون واجبهم الوطني والإنساني والحزبي على اتم وجه.
ولم يكن منتسبو الطبابة المنتفضة بمنجى من الإصابات والاستشهاد، نجوماً متلألئة في سماء الوطن الحالكة.
سباقون في استخدام الكمامات
ومن المفارقات الجديرة بالذكر حينما نراجع صور الانتفاضة المجيدة في أكتوبر 2019 وما تلاه، اننا نجد إن العراقيين كانوا سباقين في استخدام الكمامات الواقية ضد الغازات الخانقة، قبل كورونا وتداعيات كورونا التي جاءت منقذاً وقتياً لقوى الظلام والطغيان، في استراحة إجبارية لمقاتل أبى ويأبى أن يلقي سلاحه.
الخلود لشهداء المفارز الطبية الأحرار
وطوبى لجراحكم أيها الثوار.. والمجد كل المجد لعطاء الأحرار من صنف الطبابة وكل الصنوف التي تجدد الانتفاضة وتديمها.