إن تهديد وزير الخارجية مايك بومبيو بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد يكشف عن انقسام خطير في سياسة إدارة ترامب تجاه العراق. قبل أقل من ستة أسابيع، قدمت الإدارة الأمريكية لرئيس الوزراء العراقي الزائر مصطفى الكاظمي وزملائه استقبالاً حاراً، وقدمت الدعم لمساعدة حكومة الكاظمي على مواجهة الأزمة الاقتصادية العراقية الحادة، والتحضير لانتخابات مبكرة، والاستجابة لوباء "كوفيد-19"، وتأكيد سيطرة أكبر على المؤسسات الأمنية، التي تعرضت للخطر بسبب تعدي الميليشيات الموالية لإيران. وعكست هذه الحلقة تقديراً لمعضلات بغداد، وخاصة صراعها لمنع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران ــ أقوى الأطراف الخارجية في العراق ــ من ابتلاع البلاد. ستة أسابيع ليست وقتا كثيرا للظروف الأساسية لتتغير. وعلى الرغم من أن بغداد لم تجد حلاً فورياً لمشكلة الميليشيات ــ وهو التحدي الذي أربك العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق قبل وقت طويل من تولي ترمب أو الكاظمي السلطة ــ إلا أن العراقيين كانوا مشغولين باعتقال ممولي الميليشيات المشتبه بهم، وتأكيد السيطرة على الحدود، وتعزيز التسلسل القيادي العسكري الرسمي للبلاد. إن التنمر على أصدقاء الولايات المتحدة للقيام بما لا يستطيعون القيام به في وقت الأزمات المتعددة يعكس كونه دافعاً آنيا أكثر من تعبير القوة. كيف وصلنا إلى هنا؟  وما الذي دفع وزير الخارجية الأمريكي بومبيو إلى إصدار مثل هذا التهديد، الذي من شأنه إلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية والعراقية، مع احتمال إعطاء إيران ما تريده كحاجة  ماسة؟ ومن خلال التهديد بفك الارتباط إذا فشل الكاظمي في منع هجمات الميليشيات على المصالح الأمريكية، وعندما تقوم هذه الميليشيات نفسها بقتل المدنيين العراقيين، تضغط الإدارة الأمريكية على العراق للقيام بما هو فوق قدرته حالياً، وهي تعرف ذلك. أظهرت اجتماعات شهر آب/أغسطس المنصرم أن الإدارة الأمريكية تدرك جيداً حدود ما يمكن أن يفعله الكاظمي ضد الميليشيات المدعومة من إيران مثل كتائب حزب الله. هذه الميليشيات لها مخالبها في كل مؤسسة من مؤسسات  الحكومة، وقد قتلت نشطاء وحلفاء رئيس الوزراء لتخويف المعارضة وإسكاتها، وتمركزت مؤخراً بآلاف المسلحين على عتبة باب رئيس الوزراء. و في الأسابيع الستة الماضية لم تتغير هذه العقبات التي تحول دون اتخاذ إجراء. إن الجمع بين إغلاق السفارة والتهديد باستهداف الميليشيات العراقية الموالية لإيران لن يحدث تغييراً في سلوك إيران أو الميليشيات المتحالفة معها. وفي حين دفع الخوف من الضربات الأمريكية قادة التيار الرئيسي الذين لهم رهانات اقتصادية وسياسية إلى الحماية، مثل مقتدى الصدر وهادي العامري، إلى التنديد بالهجمات على البعثات الدبلوماسية، هددت جماعات أكثر تشدداً مثل كتائب «حزب الله» و«حركة النجباء» بشن هجمات أكثر دقة. ولا تبدو الجماعات الأخيرة رادعة، حتى مع غارة الطائرات بدون طيار التي قتلت قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس لا تزال حية في ذاكرتهما .  وفي الواقع، لم تنجح الضربة في ردع هجمات الميليشيات على المصالح الأمريكية، كما أنها لم تجبر إيران على تغيير سلوكها. لا توجد نتائج جيدة من التهديد بإغلاق السفارة، إذا أصرت واشنطن على هذا الموقف. وإذا دفع التهديد الكاظمي إلى القيام بعمل عسكري ضد الميليشيات عندما لا يكون جهازه الدفاعي جاهزاً بعد، فمن المرجح أن يفشل وستكون الحلقة قد منحت الميليشيات فرصة ذهبية لإسقاطه. ومن ناحية أخرى، إذا فشل الكاظمي في التحرك، فإن الميليشيات ستضرب المصالح الأمريكية مرة أخرى وسيتعين على واشنطن أن تأمر بإغلاق السفارة. وهذا، بدفعة واحدة، من شأنه أن يسلّم إيران نصراً لم يكن من الممكن أن تحلم به حتى الآن. إن إجلاء الدبلوماسيين الأميركيين من القنصليات، الواحدة تلو الأخرى، في مواجهة التهديدات الإيرانية، كان قد أبلغ عن الضعف؛ ان إغلاق السفارة سيكون إعلان الهزيمة.  إن الاستشهاد بالتهديدات الأمنية لتبرير إغلاق السفارة ليس حجة صحيحة، ولا أي مقارنة مع بنغازي. السفارة في بغداد هي قلعة محصنة، بنيت ومجهزة خصيصا لظروف الحرب، بما في ذلك أحدث أنظمة الدفاع "C-RAM".  لم تغلق الولايات المتحدة بعثاتها الدبلوماسية في العام 2006 عندما كانت الميليشيات وتنظيم القاعدة على حد سواء تطلق عليهم المزيد من الصواريخ وقذائف الهاون بشكل يومي. كما لم تر واشنطن أنه من الضروري إغلاق السفارة في العام 2014 عندما احتل تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) ثلث مساحة العراق وكان على أعتاب بغداد. ومن المستحيل معرفة ما إذا كان التهديد بإغلاق السفارة تعبيراً عن الإحباط من الظروف في العراق، أو كان له دوافع سياسية ساخرة تتعلق بانتخابات تشرين الثاني/نوفمبر. وبغض النظر عن ذلك، فأن هذه الخطوة خطيرة وتبث رسالة ضعف لخصوم أميركا.   إن التخلي عن بغداد، وإغلاق أكبر سفارة لدينا وأغلاها وأكثرها حماية، والأمر بشن هجمات بطائرات بدون طيار على رجال الميليشيات ليس قوة. وهذا من شأنه أن يشكل خطأ في إعطاء إيران ميزة استراتيجية كبرى في العراق وخارجه، وأن يأتي بثمن باهظ على المصالح الأمريكية في المنطقة ومكانتنا في العالم. ومن شأن ذلك أن يقول لإيران وخصوم أميركا الأقوى، إنكم إذا دفعتم بنا بما فيه الكفاية، فإن أميركا سوف تتخلى وتهرب. وبالنسبة لإيران، فإن التكلفة هي حفنة من صواريخ الكاتيوشا والقنابل المحلية الصنع. وسيكون من الحكمة أن تعيد واشنطن النظر في موقفها وأن تمنح العلاقة الناشئة مع الحكومة العراقية الجديدة الفرصة التي تحتاج إليها للنجاح.   

* مدير برنامج في مركز تمكين السلام في العراق

عرض مقالات: