لقد اختلفت وجهات النظر حول نجاح انتفاضة اكتوبر العراقية او نجاحها الجزئي من عدمها، بعد ان خفّت شدّة التظاهرات والإعتصامات ولأسباب مختلفة، منها الملل الذي اصاب الجماهير وشعورها بالإحباط لطول تواجدها في ساحات الإعتصام، ومنها شيطنة المنتفضين من قبل السلطة الحاكمة وادواتها الإعلامية ومنابرها السياسية والدينية، ومنها استخدام إرهاب الدولة ضد الناشطين وخطفهم وقتلهم، ومنها جائحة كورونا اضافة الى اسباب اخرى كالموقف الإقليمي والدولي من الإنتفاضة. إحدى وجهات النظر تنظر الى الحدث الأهم منذ الإحتلال لليوم من الناحية العاطفية والتمنّي في حدوث تغيير حقيقي في المشهد السياسي على الرغم من عدم توفّر العديد من آليات تحقيق هذه الأمنيات، والثانية والتي علينا ان ننظر اليها بامعان ودقّة هي النظرة النقدية للإنتفاضة من خلال مقارنتها بإنتفاضات وحركات سلمية في بلدان مختلفة، نجحت بعضها فيما فشلت أخرى والبحث عن اسباب نجاح وفشل تلك الإنتفاضات، وعلينا ونحن نستشهد بهذه الحركات السلمية والانتفاضات ان نشير بإعتزاز الى تجربة شعبنا وانتفاضاته ووثباته خلال القرن الماضي.
في دراسة حول نجاح الإحتجاجات السلمية الشعبية في تغيير الانظمة الحاكمة اجرتها كلا من إيريكا شينوويث الباحثة في العلوم السياسية بجامعة هارفارد، وماريّا ستيفن الباحثة في المركز الدولي للنزاع السلمي والتي غطّت الفترة بين عامي 1900 و2006، حول نسبة نجاح وفشل الحركات السلمية والمسلّحة في تغيير الانظمة الحاكمة ، وتمّ نشرها في كتاب تحت عنوان " لماذا تنجح المقاومة الشعبية: الأسباب الاستراتيجية وراء نجاح النزاعات السلمية " توصلتا الى أنّ الحراك السلمي قاد الى " التغيير السياسي في 53 في المئة من الحالات، في مقابل 26 في المئة فقط للإحتجات العنيفة"، وقد تناولت الدراسة " 25 حركة احتجاجية شعبية من أكبر الاحتجاجات الشعبية في العالم، حقق 14 منها نجاحا بجميع المقاييس".
قبل الخوض في بعض التجارب التي تناولتها الدراسة واسباب نجاح الإنتفاضات وفشلها وفق وجهة نظر الباحثتين، دعونا نعود الى انتفاضات العراق والحدث الأهم بالمنطقة اي الثورة الايرانية. لأنّ تجربتنا والتجربة الايرانية ستعطينا ووفق آراء الباحثتين " سنتاولها لاحقا" الأجوبة التي نبحث عنها في عدم نجاح إنتفاضة اكتوبر بتحقيق التغيير الذي إندلعت من أجله. في التجربة الإيرانية نجحت الحركة السلمية للشعب الإيراني والتي تطورت خلال اشهر الى ثورة عارمة في تغيير شكل النظام السياسي بالكامل، وقد نجحت وثبة عام 1948 السلمية بتحقيق هدفها وهو إلغاء معاهدة بورتسموث، فيما نجحت ثورة العشرين وهي حركة مسلّحة في تحقيق بعض اهدافها، الا أنّ الهدف الأهم لها وهو اخراج المحتل البريطاني من العراق لم يتحقق الا بعد ثورة 14 تموز 1958 .
ركّزت الباحثتان في بحثهما على تجارب حققّت نجاحت مذهلة على الصعيد السياسي، نجاحات غيّرت شكل الأنظمة بالكامل. ومن هذه التجارب تجربة الثورة الفلبينية ومشاركة الملايين من السكان فيها والتي أسقطت نظام ماركوس الدكتاتوري خلال اربعة ايام فقط! وكذلك ثورة الورود في جورجيا ضد الرئيس شيفارد نادزه والذي قدّم إستقالته بعد دخول المتظاهرين السلميين البرلمان بباقات الورود وثورة الغناء في استونيا، كما مرّ البحث على تجارب السودان والجزائر، كما " وارتكزت أبحاث شينوويث على الأفكار الفلسفية للكثير من الشخصيات المؤثرة على مدار التاريخ، والتي برهنت بالأدلة القاطعة على قوة تأثير الاحتجاجات السلمية، مثل الناشطة الأفريقية الأمريكية سوجورنر تروث، التي حاربت لإلغاء العبودية، وسوزان بونويل أنتوني، التي نادت بإعطاء المرأة حق التصويت في الانتخابات، والناشط الهندي المستقل، ماهاتما غاندي، والناشط مارتن لوثر كينغ الذي ناضل من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة".
بعض النقاط التي تعتبر غاية بالأهمية بنظر الباحثيتين لنجاح الحراك السلمي في التغيير هي
- الإضرابات العامّة والتي هي اقوى وأهم اشكال المقاومة ضد الحكومات المستبدّةجل .
- تعطيل المرافق العمومية " عدا المؤسسات الصحية والخدمية" وإصابة الحياة اليومية والاجتماعية بالشلل.
- التحشيد الجماهيري، ففرص زيادة نجاح اي حراك جماهيري سلمي يعود الى قدرة منظميه من حشد اكبر عدد ممكن من الجماهير لخوضه، فكلمّا كانت اعداد الجماهير اكبر كلمّا كان التهديد الحقيقي للسلطات اكبر.
- نجاح الثورة او الإنتفاضة السلمية يتحقق لا محالة ما أن يصل عدد المشاركين فيه نسبة 3.5 من مجموع السكّان. وبينما تمثل نسبة 3.5 في المئة قلة من الشعب، إلا أن هذا المستوى من المشاركة الفعالة يدل على أن شرائح أكبر من الشعب تؤيد أهدافها ضمنيا وفق إيزابيل برامسين من جامعة كوبنهاغن.
- وحدة المحتجين وإنسجامهم وتنظيمهم تعتبر من المعايير العالية لنجاح او فشل الحركة السلمية، فالفشل يصيب الحركة من دونها، كما حدث في البحرين كما تقول إيزابيل برامسين، التي تدرس النزاع الدولي في جامعة كوبنهاغن.
لنعود الآن الى إنتفاضة اكتوبر لنرى إن كانت قد نجحت في تحقيق ما ينتظره شعبنا منه أم لا؟
لم ينجح منظمّو الإحتجاجات في قيادة إضرابات عامّة على مستوى البلاد، عدا الإضرابات الطلّابية وإضرابات بعض النقابات. فيما لم يُنظّم أي إضراب واسع في الأسواق كما حدث البازار في إيران اثناء الثورة، ولا في قطّاع النفط الحيوي ولا في أجهزة الدولى الإدارية. كما كان الفشل نصيبهم في تعطيل المرافق العمومية ليصيبوا من خلالها الحياة الإجتماعية واليومية بالشلل مما يرعب السلطة. ونتيجة لأسبوعية التظاهر !! فأن إمكانية حشد اكبر عدد ممكن من الجماهير بقي صعبا على منظمي الحراك رغم النداءات المتكررة لحثّهم وتواجدهم في الشارع. وبقي عدم وجود قيادة ميدانية أو جسم تنظيمي أو شخصية محورية ذات كاريزما كما الخميني اثناء الثورة الايرانية او غاندي في الهند، من اهم المشكلات التي واجهت الإنتفاضة وابعدتها كليا عن تحقيق نتائج ونجاحات تليق بما قدمته من مئات الشهداء وآلاف الجرحى في سبيل تحقيق التغيير الذي لم يحدث لليوم!
3.5 في المئة ليس رقما سحريا لكنه الحد الأدنى وفق الدراسة العلمية لنجاح الإنتفاضات، فهل شاركت هذه النسبة في إنتفاضة شعبنا؟ يقدّر نفوس العراق بحوالي 40 مليون نسمة، ووفق النسبة الآنفة الذكر فأن نجاح الإنتفاضة بحاجة الى مشاركة فعّالة من حوالي مليون وأربعمائة الف متظاهر عراقي. ولو تركنا هذا الرقم لعدم مشاركة المحافظات الغربية والكوردية في التظاهرات على الرغم من معاناتهم كما محافظات الوسط والجنوب!! ورجعنا الى العاصمة بغداد حيث النسبة السكانية الاكثر كثافة بالبلاد علاوة على كونها مركز الحكم، فأنّ نفوسها يقدّر بحوالي تسعة ملايين نسمة. ومن أجل نجاح الإنتفاضة نظريا فإننا بحاجة الى 315 ألف متظاهر، فهل وصلت اعداد المتظاهرين في احسن الحالات الى نصف هذا العدد!؟
"خلصت الدراسة الى أنّ "معيار نجاح حركة التغيير هو قدرتها على تحقيق جميع أهدافها".
كثيرة هي الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وأهمّها كانت شعارات محاربة الفساد والمفسدين، تقديم قتلة المتظاهرين للقضاء، توفير فرص العمل للعاطلين، حل الميليشيات المسلحة، اجراء إنتخابات عادلة ونزيهة وفق قانون انتخابي عادل، والشعار الذي أصبح رمزا أي " نريد وطن". فهل حققت الإنتفاضة أي من هذه الشعارات، لكي نؤمن بنجاحها..؟
ونحن نعيش اليوم الذكرى الأولى لإنطلاق إنتفاضة اكتوبر، علينا أن نستفيد من أخطائنا ونجاحاتنا " كسر حاجز الخوف وتجاوز الطائفية" من خلال مراجعة شاملة للحدث، كما وعلينا الإعتراف بعدم تحقيق الإنتفاضة أي مطلب من مطالبها، سوى نجاحها في تغيير رئيس وزراء بآخر من نفس المؤسسة، والذي يفي بأي عهد قطعه على نفسه لليوم. فلم نرى فاسد من العيار الثقيل امام المحاكم العراقية، ولم يحصر السلاح بالدولة، ولم يجد حلّا للنزيف الإقتصادي والمالي العراقي، حيث البلاد تقترض داخليا وخارجيا من أجل تأمين رواتب جيش الموظفين ومنهم عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من الفضائيين، وغيرها الكثير.
على القوى العلمانية الديموقراطية وفي الذكرى الاولى لإنتفاضة اكتوبر أن تكثّف جهودها ليس لغرض المشاركة بالأنتخابات التي لن تغير شيئا من المشهد السياسي الذي نعيشه منذ الاحتلال لليوم، بل جر اكبر عدد ممكن من الجماهير ليس للتظاهر الاسبوعي أو الشهري أو في المناسبات كما حصل ويحل اليوم، بل جرها للتظاهر اليومي وباعداد كبيرة والتمهيد باسرع وقت للعصيان المدني. على القوى العلمانية الديموقراطية والإتحادت الطلابية والمهنية والنقابات والشخصيات الإجتماعية المؤثرة التواجد في قلب ساحات التحرير وبشكل مستمر، كون التغيير بحاجة لتنظيمات فعّالة قادرة على توجيه الحراك السلمي للجماهير. فالتجربة السابقة لقادة ساحاة التحرير زنتيجة الخلافات الكبيرة بينهم، أثبتت أنّ التغيير لا يأتي الا من خلال احزاب وتنظيمات ونقابات واتحادات لها المصلحى الحقيقية في بناء وطن.
" نريد وطن" شعار بحاجة الى تضحية ونكران ذات كبيرين، فلنكن بمستوى هذا الشعار من اجل غد افضل لشعبنا ووطننا وأجيالنا القادمة.