اولاً وقبل كل شيئ ارجو ان لا يُفهم من هذا الموضوع على اعتباره دعوة للتمسك بالعادات القبلية والبدوية التي مضى عليها الزمن ولم تعد تنسجم مع مجتمعات الدولة المدنية الديمقراطية التي ندعو لها ونعمل على نشر افكارها في مختلف المواقع وعلى كل المستويات. ان هذا الموضوع هو محاكمة التناقضات التي لم تزل تداعب افكار البعض حول تبرير الإنبطاح الخليجي امام العنصرية الصهيونية التي يعتبرها هذا البعض بانها تسعى لتحقيق حرية الشعب اليهودي على ارضه، وهذا ما نعارضه تماماً والذي نعتبره تجارة بالدين لا غير ولا علاقة له بحرية شعب نؤمن بحريته كباقي شعوب الأرض. والكيان الصهيوني يمثل اغتصابا لحرية الغير، ومن يغتصب حرية غيره لا يمكنه ان يسعى لتحقيق حرية شعبه او اي شعب آخر.
عالم الاجتماع العراقي الفذ الدكتور علي الوردي اشار في كتابه القيم المعنون " دراسات في المجتمع العراقي (المصدر الذي استندت اليه هنا هو ترجمة المانية لهذا الكتاب الصادر باللغة العربية عام 1965 والذي لم يتوفر لدي في اللغة العربية. وهذه الترجمة صدرت عام 1972 عن دار Hermann Luchterhand في مدينة Darmstadt تحت عنوان Soziologie des Nomadentums. لذلك فإن النصوص العربية هي ترجمتي لما جاء في الألمانية، وقد تختلف نوعا ما عما هي عليه في النسخة الأصلية باللغة العربية، إلا انني أؤكد على بقاء المضمون.) الى بعض صفات البدوي فقال:
البدوي يريد ان يكون هو الغازي وليس المغزو. وهو المُهاجِم وليس المُهاجَم. وهو الذي يعطي وليس الذي يستجدي. يريد ان يأتيه الآخرون وليس هو الذي يذهب للآخرين. يريد ان يكون الدائن وليس المَدين. وهو المُساعد ولا يحتاج مساعدة شخص آخر. وهو الكبير وليس الصغير. وهو الحامي وليس المَحمي. وهو الذي يُستشار ولا يستشير أحد. وهو الذي يُرجى ولا يرجو أحد. ويريد ان يشكره الآخرون ولا يكون هو شكوراً لأحد ..... وهكذا
ثم اضاف صفتين مهمتين مفادهما التمسك بالانتماء القبلي الذي ولَدَ العصبية القبلية والاستهزاء بمن لا يأخذ حقه المُغتَصَب بيده.
ولو انطلقنا من الصفتين الأخيرتين، لكي نعرج بعدئذ على الصفات الأخرى ومدى علاقة هذه الصفات ببدو القرن الحادي والعشرين في شبه الجزيرة العربية وعلى الخليج العربي بالعلاقات واواصر الارتباط الحميمي بين هؤلاء البدو وبين اسرائيل التي تجلت بشكل لا يقبل الالتباس في الأيام الماضية.
لقد تحولت العصبية القبلية البدوية، بكل ما تحمله من مساوئ على مختلف الأصعدة، الى اسوء تجلياتها حين عبرت عن العنصرية المقيتة التي وسمت انظمة عروش وكروش الخليج وشبه الجزيرة العربية. لقد اشتهر بدو هذه المناطق وانظمتهم السياسية والتركيبة الاجتماعية التي خلقتها انظمتهم العشائرية بمدى استهتارهم بالإنسان وعمق عجرفتهم ووحشيتهم تجاه الشغيلة الآسيوية التي استوردوها بأموالهم من الباكستان وافغانستان وسريلانكا وحتى الهند. لقد توافر العمال الفقراء الباحثون عن توفير لقمة العيش، وخاصة المسلمين منهم، الى بلدان " اخوانهم " المسلمين المالكين للعمل يحدوهم الأمل بان يجدوا امامهم اخوة في الدين متفهمين لمعاناتهم عاملين على اسعادهم واسعاد عوائلهم واطفالهم فالمسلم أخو المسلم في السراء والضراء !!!، كما كان يفكر هؤلاء الآسيويون الفقراء. فماذا وجدوا أمامهم؟ وجدوا اجلافاً قساة ووحوش كاسرة ونفوس بشعة لا تعرف للاستغلال حداً ولا لمعاملة العنف على ابسط الأسباب نهاية. وجدوا العنصرية على أبشع صورها تجاه من اعتبروهم اخوة في الدين الذي لا ينبغي له ان يفرق بين عربي وأعجمي بالمال او الجاه او الانتماء القبلي، بل بالتقوى اولاً واخيراً. فبرزت حالات الاحتقار التي تجلت فيما يقدمه صاحب العمل من سكن " للبضاعة " العمالية التي استوردها هذا البدوي او ذاك، ليكدسها في مخازن بشرية لا تتوفر فيها ابسط مقومات الحياة الإنسانية بشكل عام، ناهيك عن مقومات الحياة لأخ مسلم. وبرزت حالات الاغتصاب او الإجبار على واحدة من زيجاتهم الخالية من اية التزامات اجتماعية او اقتصادية او حتى اخلاقية والتي تتيح للبدوي السيد التخلص من امَته متى شاء وكيفما يشاء. وبرزت حالات الابتزاز بدءً من حجز هويات وجوازات سفر العمال الوافدين للتحكم بإقامتهم ومن ثم بأجورهم ومروراً بفرض شروط العمل القاسية التي لا تتفق مع ابسط قوانين العمل المعمول بها عالمياً وانتهاءً بالتحكم بحركتهم سواءً ما يتعلق بأوقات فراغهم او ما يتعلق بالعطل المسموح لهم بقضائها في اوطانهم او في مناطق اخرى.
أزاء هذه التصرفات العنصرية الوحشية المقيتة لا نرى عجباً بتحقيق بدو القرن الحادي والعشرين هؤلاء للمقولة القائلة: ان الطيور على اشكالها تقع .... فيقعون زحفاً على الرأس لا سعياً على القدم أمام عنصريي الصهيونية العالمية التي تجلى نظامها على ارض فلسطين بكل انواع الحقد والكراهية على الآخر المختلف. الدولة الصهيونية التي يدعي قادتها تمثيلهم لليهود وانهم يؤسسون دولة اليهود لا يختلفون في عنصريتهم وحقدهم وبدائية تعاملهم مع الآخر المختلف عن اقرانهم البدو رافعي رايات الإسلام. العنصرية الصهيونية التي خلقت من الدين قومية تحتقر وتضطهد الآخرين وبتفويض من السماء حتى، تسير على نفس النهج الذي جعل منه البدو ديناً خاصاً بهم لا يعترف حتى بأخوته في الدين إن جاءوا من قومية اخرى.
فالترابط الحميمي بين العنصريين القساة ليس بظاهرة عجيبة تعكسها اواصر المودة القائمة بين الدولة الصهيونية وبدو القرن الحادي والعشرين. انه أمر طبيعي يعكسه الفكر المشترك والمصالح التي يرجوها كل فريق على حدة من خلال ذلك. وبعبارة اخرى ان مثل هذه التوجهات ستشكل عائقاً امام السلم الاجتماعي والتضامن الأممي والنضال المشترك ضد الطغاة المستغلين وانظمتهم القمعية.
ولو انتقلنا الى الخاصية البدوية الثانية المتعلقة باستهزاء بدوي الأمس بمن يلجأ الى الغير لأخذ حقه ولا يقوم بذلك بنفسه، كما ذكر الباحث الدكتور علي الوردي في كتابه اعلاه، ونحاول ان نجد معطيات مثل هذه الخاصية لدى بدو القرن الحادي والعشرين على الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية وما يتعلق بمدى احترامهم لهذه الصفة البدوية القديمة، باعتبارهم وحسب ادعاءاتهم بأنهم ورثة مجتمعات اجدادهم البدوية، ناهيك عن التزامهم بها.
من الطبيعي ان لا تنسجم هذه الصفة مع الحياة في الدولة المدنية الحديثة التي يجب ان تكون دولة القانون اولاً وأخيراً. ومع رفضنا للتمسك بهذه الخصوصية البدوية السيئة، نرى تناقضات مؤلمة في حياة اصحاب العروش والكروش في الخليج وشبه الجزيرة العربية. لقد تنادى هؤلاء وفي مناسبات كثيرة كلقاءات القمم العربية او مؤتمرات المنظمات الإسلامية او المعاهدات والاتفاقات الثنائية بين دول الخليج وغيرها، بأنهم حماة القومية العربية وممثلوها الحقيقيون في المحافل الدولية وغير ذلك من التبجحات واللغو الفارغ الذي دوخوا به رؤوسنا كل هذه العقود من الزمن. وهذا يعني انهم، كعرب اقحاح، يجب ان يحترموا تراثهم البدوي هذا على الأقل حينما يشاهد العالم اجمع كيف انهم يهرعون في سباق ماراتوني للانبطاح امام من سلب ولم يزل يسلب حقوق اخوتهم ليس في القومية فقط، بل ومعظمهم في الدين ايضاً. الكيان الصهيوني الذي يتعامل مع الدين تعاملاً تجارياً، تماماً كما يتاجر الإسلام السياسي بدينه، وبدو القرن الواحد والعشرين في مقدمة تجار الدين هؤلاء، مهد الطريق لأن يتناسى هؤلاء البدو ابسط مقومات تراثهم وان يطالبوا باللسان على الأقل بحق شعب تربطه معهم اواصر عدة، بغض النظر عن مواقف هذه الفئة الفلسطينية او تلك. الصهيونية العالمية حركة عنصرية تريد إقامة دولتها التي لا تعني بأية حال من الأحوال دولة المضطَهَدين من اليهود، بل دولة الركائز الإمبريالية المناهضة لحقوق الشعوب. وما كل هذه الصفات لهذه الركيزة العنصرية في منطقة الشرق الأوسط إلا السبيل الأمثل لانسجام ما يفكر به بدو القرن الحادي والعشرين حول اضطهاد الشعوب ومكافحة حركات التحرر الوطني والتي شكلت عامل الجذب الأساسي بين الصهيونية العالمية وانظمة التخلف والطغيان لبدو اليوم وانظمتهم التي هي الأخرى ركائز لقوى البغي العالمي وتجار الحروب.
وما يجري مع المعطيات الأخرى في مجتمع البداوة الأول ومقارنته بمجتمع بدو اليوم يشير الى مدى الأكاذيب وكثرة اللغو الفارغ الذي يتحدث به حكام دول البداوة اليوم. فهم الراكعون امام قوى الاستغلال العالمي، فلا غرابة لركوعهم امام الصهيونية العالمية الوجه الأقبح لهذا الاستغلال. وهم الفاتحون خزائنهم امام العسكرة العالمية لتكون القواعد العسكرية على اراضيهم حامية لهم بعد ان وظفوا كل خيرات اوطانهم في مجالات لم تسمح لهم حتى برفع صوتهم قليلاً امام اسيادهم. وغير ذلك الكثير من حياة المذلة والإهانة التي يعيشها بدو اليوم في دولهم التي لم تترك سبيلاً لمناهضة الشعوب وحركاتها التحررية إلا وسلكته، وما توسلاتهم بالصهيونية العالمية للارتماء بأحضانها إلا واحداً من هذه السبل، وليس ذلك بغريب او عجيب من هؤلاء الأدعياء المتخلفين. وكما ذكرنا اعلاه ان ما نطرحه الآن ما هو إلا دعوة صريحة لبدو القرن الحادي والعشرين ان يكفوا عن نباحهم حول تمثيلهم للانتماء القومي العربي وحول اكاذيبهم عن اخوتهم في الدين.